البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ وَخُذُوهُمۡ وَٱحۡصُرُوهُمۡ وَٱقۡعُدُواْ لَهُمۡ كُلَّ مَرۡصَدٖۚ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (5)

المرصد : مفعل من رصد يرصد رقب ، يكون مصدراً وزماناً ومكاناً .

وقال عامر بن الطفيل :

ولقد علمت وما إخالك ناسيا *** أن المنية للفتى بالمرصد

{ فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد } تقدم الكلام على انسلخ في قوله : فانسلخ .

وقال أبو الهيثم : يقال أهللنا هلال شهر كذا أي دخلنا فيه ولبسناه ، فنحن نزداد كل ليلة إلى مضي نصفه لباساً منه ، ثم نسلخه عن أنفسنا بعد تكامل النصف منه جزءاً حتى نسلخه عن أنفسنا كله ، فينسلخ .

وأنشد :

إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله *** كفيَّ قاتلاً سلخ الشهور وإهلال

والظاهر أن هذه الأشهر هي التي أبيح للناكثين أنْ يسيحوا فيها ، ووصفت بالحرم لأنها محرم فيها القتال ، وتقدم ذكر الخلاف في ابتدائها وانتهائها .

وإذا تقدمت النكرة وذكرت بعد ذلك فالوجه أنْ تذكر بالضمير نحو : لقيت رجلاً فضربته .

ويجوز أنْ يعاد اللفظ معرّفاً بل نحو : لقيت رجلاً فضربت الرجل ، ولا يجوز أنْ يوصف بوصف يشعر بالمغايرة لو قلت : لقيت رجلاً فضربت الرجل الأزرق ، وأنت تريد الرجل الذي لقيته ، لم يجز بل ينصرف ذلك إلى غيره ، ويكون المضروب غير الملقى .

فإنْ وصفته بوصف لا يشعر بالمغايرة جاز نحو : لقيت رجلاً فضربت الرجل المذكور .

وهنا جاء الأشهر الحرم ، لأن هذا الوصف مفهوم من قوله : فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ، إذ التقدير أربعة أشهر حرم لا يتعرض إليكم فيها ، فليس الحرم وصفاً مشعراً بالمغايرة .

وقيل : الأشهر الحرم هي غير هذه الأربعة ، وهي الأشهر التي حرم الله فيها القتال منذ خلق السموات والأرض ، وهي التي جاء في الحديث فيها " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب " فتكون الأربعة من سنتين .

وقيل : أولها المحرم ، فتكون من سنة .

وجاء الأمر بالقتل على سبيل التشجيع وتقوية النفس ، وأنهم لا منعة عندهم من أن يقتلوا .

وفي إطلاق الأمر بالقتل دليل على قتلهم بأي وجه كان ، وقد قتل أبو بكر أصحاب الردّة بالإحراق بالنار ، وبالحجارة ، وبالرمي من رؤوس الجبال ، والتنكيس في الآبار .

وتعلق بعموم هذه الآية ، وأحرق عليّ قوماً من أهل الرّدّة ، وقد وردت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن المثلة .

ولفظ المشركين عام في كل مشرك ، وجاءت السنة باستثناء الأطفال والرهبان والشيوخ الذين ليسوا ذوي رأي في الحرب ، ومن قاتل من هؤلاء قتل .

وقال الزمخشري : يعني الذي نقصوكم وظاهروا عليكم .

ولفظ : «حيث وجدتموهم » عام في الأماكن من حل وحرم .

«وخذوهم » عبارة عن الأسر ، والأخيذ الأسير .

ويدل على جواز أسرهم : واحصروهم ، قيدوهم وامنعوهم من التصرف في البلاد .

وقيل : استرقوهم .

وقيل : معناه حاصروهم إنْ تحصّنوا .

وقرىء : فحاصروهم شاذاً ، وهذا القول يروى عن ابن عباس .

وعنه أيضاً : حولوا بينهم وبين المسجد الحرام .

وقيل : امنعوهم عن دخول بلاد الإسلام والتصرف فيها إلا بإذن .

قال القرطبي في قوله : «واقعدوا لهم كل مرصد » دلالة على جواز اغتيالهم قبل الدعوة ، لأنّ المعنى اقعدوا لهم مواضع الغرة ، وهذا تنبيه على أنّ المقصود إيصال الأذى إليهم بكل طريق ، إما بطريق القتال ، وإما بطريق الاغتيال .

وقد أجمع المسلمون على جواز السرقة من أموال أهل الحرب ، وإسلال خيلهم ، وإتلاف مواشيهم إذا عجز عن الخروج بها إلى دار الإسلام ، إلا أنْ يصالحوا على مثل ذلك .

قال الزمخشري : «كل مرصد » كل ممر ومجتاز ترصدونهم فيه ، وانتصابه على الظرف كقوله : { لأقعدن لهم صراطك المستقيم } انتهى .

وهذا الذي قاله الزجاج قال : كل مرصد ظرف ، كقولك : ذهبت مذهباً ورده أبو علي ، لأنّ المرصد المكان الذي يرصد فيه العدوّ ، فهو مكان مخصوص لا يحذف الحرف منه إلا سماعاً كما حكى سيبويه : دخلت البيت ، وكما غسل الطريق الثعلب انتهى .

وأقول : يصح انتصابه على الظرف ، لأن قوله : «واقعدوا لهم » ليس معناه حقيقة القعود ، بل المعنى ارصدوهم في كل مكان يرصد فيه ، ولما كان بهذا المعنى جاز قياساً أن يحذف منه في كما قال : وقد قعدوا منها كل مقعد .

فمتى كان العامل في الظرف المختص عاملاً من لفظه أو من معناه ، جاز أن يصل إليه بغير واسطة في ، فيجوز جلست مجلس زيد ، وقعدت مجلس زيد ، تريد في مجلس زيد .

فكما يتعدى الفعل إلى المصدر من غير لفظه إذا كان بمعناه ، فكذلك إلى الظرف .

وقال الأخفش : معناه على كل مرصد ، فحذف وأعمل الفعل ، وحذف على ، ووصول الفعل إلى مجرورها فتنصبه ، يخصه أصحابنا بالشعر .

وأنشدوا :

تحنّ فتبدي ما بها من صبابة ***

وأخفى الذي لولا الأسى لقضاني

أي لقضي عليّ .

{ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلُّوا سبيلهم إن الله غفور رحيم } أي عن الكفر والغدر .

والتوبة تتضمن الإيمان وترك ما كانوا فيه من المعاصي ، ثم نبه على أعظم الشعائر الإسلامية ، وذلك إقامة الصلاة وهي أفضل الأعمال البدنية ، وإيتاء الزكاة وهي أفضل الأعمال المالية ، وبهما تظهر القوة العملية ، كما بالتوبة تظهر القوة العلمية عن الجهل .

فخلوا سبيلهم ، كناية عن الكف عنهم وإجرائهم مجرى المسلمين في تصرفاتهم حيث ما شاؤوا ، ولا تتعرضوا لهم كقول الشاعر :

خل السبيل لمن يبنى المنار به *** أو يكون المعنى : فأطلقوهم من الأسر والحصر .

والظاهر الأول ، لشمول الحكم لمن كان مأسوراً وغيره .

وقال ابن زيد : افترضت الصلاة والزكاة جميعاً ، وأبى الله أنْ لا تقبل الصلاة إلا بالزكاة ، وقال : يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه في قوله : «لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة » وناسب ذكر وصف الغفران والرحمة منه تعالى لمن تاب عن الكفر والتزم شرائع الإسلام .

قال الحافظ أبو بكر بن العربي : لا خلاف بين المسلمين أنّ من ترك الصلاة وسائر الفرائض مستحلاً كفر ، ودفن في مقابر الكفار ، وكان ماله فيئاً .

ومنْ ترك السنن فسق ، ومن ترك النوافل لم يحرج إلا أن يجحد فضلها فيكفر ، لأنه يصير راداً على النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء به وأخبر عنه انتهى .

والظاهر أنّ مفهوم الشرط لا ينتهض أنْ يكون دليلاً على تعيين قتل من ترك الصلاة والزكاة متعمداً غير مستحلّ ومع القدرة لأن انتفاء تخلية السبيل تكون بالحبس وغيره ، فلا يتعين القتل .

وقد اختلف العلماء في ذلك ، فقال مكحول ، ومالك ، والشافعي ، وحماد بن زيد ، ووكيع ، وأبو ثور : يقتل .

وقال ابن شهاب ، وأبو حنيفة ، وداود : يسجن ويضرب ، ولا يقتل .

وقال جماعة من الصحابة والتابعين : يقتل كفراً ، وماله مال مرتد ، وبه قال إسحاق .

قال إسحاق : وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى زماننا .