محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ وَخُذُوهُمۡ وَٱحۡصُرُوهُمۡ وَٱقۡعُدُواْ لَهُمۡ كُلَّ مَرۡصَدٖۚ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (5)

5 { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم } .

{ فإذا انسلخ } أي انقضى { الأشهر الحرم } أي التي أبيح للذين عوهدوا فيها أن يسيحوا في الأرض وحرم فيها قتالهم { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } أي من حِلًّ أو حَرَمٍ - كذا قاله غير واحد - قال ابن كثير ، هذا عام ، والمشهور تخصيصه بغير الحرم ، لتحريم القتال فيه ، لقوله تعالى{[4475]} { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم } { وخذوهم } أي ائسروهم { واحصروهم } أي احبسوهم في المكان الذي هم فيه ، لئلا يتبسطوا في سائر البلاد { واقعدوا لهم } أي لقتالهم { كل مرصد } أي طريق وممر { فإن تابوا } أي عن الكفر { وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } أي فاتركوا التعرض لهم { إن الله غفور رحيم } أي يغفر لهم ما سلف من الكفر والغدر .

تنبيهات

الأول- ما ذكرناه من أن المراد ( بالأشهر الحرم ) أشهر العهد ، هو الذي اختاره الأكثرون . سماها ( حرماً ) لتحريم قتال المشركين فيها ودماءهم . فالألف واللام للعهد . ووضع المظهر موضع المضمر ليكون ذريعة إلى وصفها بالحرمة ، تأكيدا لما ينبئ عنه إباحة السياحة من حرمة التعرض لهم ، مع ما فيه من مزيد الاعتناء بشأنها . وقيل : المراد ( بالأشهر الحرم ) : رجب ، ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ؛ روي ذلك عن ابن عباس / والضحاك والباقر ، واختاره ابن جرير . وضعف بأنه لا يساعده النظم الكريم ، لأنه يأباه ترتبه عليه ( بالفاء ) فهو مخالف للسياق الذي يقتضي توالي هذه الأشهر .

قال ابن القيم : ( الحرم ) هاهنا هي أشهر التسيير ، أولها يوم الأذان وهو اليوم العاشر من ذي الحجة ، وهو يوم الحج الأكبر ، الذي وقع فيه التأذين بذلك ، وآخرها العاشر من ربيع الآخر . وليست هي الأربعة المذكورة في قوله{[4476]} : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم } فإن تلك واحد فرد هو رجب ، وثلاثة سرد وهي ذو القعدة وتالياه . ولم يسير المشركين في هذه الأربعة ، فإن هذا لا يمكن ، لأنها غير متوالية ، وهو إنما أجلهم أربعة أشهر ، لم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم انتهى .

وقالوا : يلزم على هذا بقاء حرمة تلك الأشهر . وتكلف الجواب بنسخها ، إما بانعقاد الإجماع عليه ، أو بما صح من أنه صلى الله عليه وسلم حاصر الطائف لعشر بقين من المحرم ، مع أن في هذا الإجماع كلاما ، وقد خالف بعضهم في بقاء حرمتها ، إلا أنهم لم يعتدوا به كما قاله في ( العناية ) . وفيها : إن لك أن تقول : منع القتال في الأشهر الحرم في تلك السنة ، لا يقتضي منعه في كل ما شابهها ، بل هو مسكوت عنه ، فلا يخالف الإجماع ، ويكون حلّه معلوما من دليل آخر .

وأقول : يظهر لي ترجيح هذا الثاني وأن المراد بالأربعة الأشهر هي المعروفة ، وأن قوله تعالى : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم } هي هذه الأربعة ، لأنها حيثما أطلقت في التنزيل لا تنصرف إلا إليها ، فصرفها إلى غيرها يحتاج إلى برهان قاطع .

قال في ( فتح البيان ) ومعنى الآية على هذا وجوب الإمساك عن قتال من لا عهد له من المشركين في هذه الأشهر الحرم . وقد وقع النداء والنبذ إلى المشركين بعهدهم يوم/ النحر ، فكان الباقي من الأشهر الحرم التي هي الثلاثة المسرودة ، خمسين يوما ، تنقضي بانقضاء شهر المحرم ، فأمرهم الله بقتل المشركين حيث يوجدون ، وبه قال جماعة من أهل العلم . انتهى .

ولا يقال : إن الباقي من الأشهر الحرم ثمانون يوما ، إذ الحج في تلك السنة كان في العاشر من ذي القعدة بسبب النسيء ، ثم صار في السنة المقبلة في العاشر من ذي الحجة وفيها حج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال{[4477]} " إن الزمان قد استدار . . . " الحديث - لأنا نقول : كان ذو القعدة عامئذ هو ذا الحجة بحسابهم ، لا في الواقع ، وكذلك ذو الحجة ، المحرم فعوملوا بحسابهم .

الثاني – قال السيوطي في ( الإكليل ) في قوله تعالى { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } : هذه آية السيف الناسخة لآيات العفو والصفح والإعراض والمسالمة . انتهى .

وروي عن الضحاك أنها منسوخة بقوله تعالى في سورة محمد{[4478]} : { فإما منا بعد وإما فداء } ورده الحاكم بأنه لا شبهة في أن براءة نزلت بعد سورة محمد ، ومقتضى كلام الحاكم أنها لا ناسخة ولا منسوخة . قال : لأن الجمع ، من غير منافاة ، ممكن فحيث ورد في القرآن ذكر الإعراض ، فالمراد به إعراض إنكار ، لا تقرير . وأما الأسر والفداء ، فالمراد به أنه خير بين ذلك ، لا أن القتل حتم ، إذ لو كان حتماً ، لم يكن للأخذ معنى بعد القتل . انتهى .

ويشمل عمومها مشركي العرب وغيرهم ، واستدل بقوله تعالى : { واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد } على جواز حصارهم والإغارة عليهم وبياتهم .

/ الثالث – فهو من قوله تعالى { فإن تابوا } الآية أن الأمر بتخلية السبيل معلق على شروط ثلاثة : التوبة ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، فحيث لم تحصل جاز ما تقدم من القتل والأخذ والحصر . ولهذا اعتمد الصديق رضي الله عنه ، في قتال مانعي الزكاة ، على هذه الآية الكريمة وأمثالها .

قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : " يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه ! " .

وفي ( الصحيحين ){[4479]} عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة " .

وروى الإمام أحمد{[4480]} عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، فإذا شهدوا واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا ، صلوا صلاتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها ، لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما عليهم " . ورواه البخاري وغيره .

الرابع – ذكر ابن القيم خلاصة بديعة في سياق ترتيب هديه صلى الله عليه وسلم مع الكفار والمنافقين ، من حين بعث ، إلى حين لقي الله عز وجل ، مما يؤيد فهم ما تشير إليه هذه السورة قال رحمه الله :

أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى أن يقرأ باسم ربه الذي خلق وذلك أول نبوته ، فأمره أن يقرأ في نفسه ، ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ ، ثم أنزل عليه { يأيها المدثر قم فأنذر }{[4481]} فنبأه بقوله {[4482]} : { اقرأ } وأرسله ب { يأيها المدثر } ثم أمره أن ينذر عشيرته / الأقربين ، ثم أنذر قومه ، ثم أنذر من حولهم من العرب ، ثم أنذر العرب قاطبة ، ثم أنذر العالمين ، فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية ، ويؤمر بالكف والصبر والصفح . ثم أذن له في الهجرة ، وأذن له في القتال ثم أمره أن يقاتل من قاتله ، ويكف عمن لم يقاتله . ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله . ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام : أهل صلح وهدنة ، وأهل حرب ، وأهل ذمة . فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم ، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد ، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ، ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد . وأمر أن يقاتل من نقض عهده . ولما نزلت سورة ( براءة ) نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها ، فأمره فيها أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية ، أو يدخلوا في الإسلام . وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم ، فجاهد الكفار بالسيف والسنان ، والمنافقين بالحجة واللسان ، وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ، ونبذ عهودهم إليهم ، وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام :

قسما أمره بقتالهم وهم الذين نقضوا عهده ، ولم يستقيموا له ، فحاربهم وظهر عليهم .

وقسما لهم عهد موقت لم ينقضوه ، ولم يظاهروا عليه ، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم .

وقسما لم يكن لهم عهد ، ولم يحاربوه ، أو كان لهم عهد مطلق ، فأمره أن يؤجلهم أربعة أشهر ، ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم . فقتل الناقض لعهده ، وأجل من لا عهد له أو له عهد مطلق ، أربعة أشهر ، وأمره أن يتم للموفي بعهده إلى مدته ، فأسلم هؤلاء كلهم ، ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم . وضرب على أهل الذمة الجزية . فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول ( براءة ) على ثلاثة أقسام : محاربين له ، وأهل عهد وأهل ذمة . ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام ، فصاروا معه قسمين : محاربين وأهل ذمة . والمحاربون له / خائفون منه ، فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام : مسلم مؤمن به ، ومسالم له آمن ، وخائف محارب .

وأما سيرته في المنافقين فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم ، ويَكِلَ سرائرهم إلى الله ، وأن يجاهدهم بالعلم والحجة ، وأمر أن يعرض عنهم ، ويغلظ عليهم ، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم ، ونهى أن يصلي عليهم وأن يقوم على قبورهم ، وأخبره أنه إن استغفر لهم أو لم يستغفر لهم ، فلن يغفر الله لهم . فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين . انتهى .


[4475]:2 / البقرة / 191.
[4476]:9 / التوبة / 36.
[4477]:أخرجه البخاري في : 65 كتاب التفسير، 9 سورة التوبة، 8 باب قوله : ( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا( حديث رقم 59 عن أبي بكرة. أخرجه في المسند بالصفحة رقم 199 من الجزء الثالث (طبعة الحلبي).
[4478]:47 / محمد عليه السلام / 4.
[4479]:أخرجه البخاري في : 2 كتاب الإيمان، 17 باب { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} حديث رقم 24. وأخرجه مسلم في 1 كتاب الإيمان، حديث رقم 36 (طبعتنا).
[4480]:أخرجه في المسند بالصفحة رقم 199 من الجزء الثالث (طبعة الحلبي).
[4481]:74 / المدثر / 1 و 2.
[4482]:96 / العلق / 1.