الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ وَخُذُوهُمۡ وَٱحۡصُرُوهُمۡ وَٱقۡعُدُواْ لَهُمۡ كُلَّ مَرۡصَدٖۚ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (5)

{ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ } انتهى ومضى وقتها ، يقال : منه سلخت أشهر كذا نسلخه سلخا وسلوخاً بمعنى خرجنا . قال الشاعر :

إذا ماسلخت الشهر أهللت مثله *** كفى قاتلا سلخي الشهور وإهلالي

وفيه قيل : شاة مسلوخة المنزوعة من جلدها ، وحية سالخ إذا أخرجت من جلدها { الأَشْهُرُ الْحُرُمُ } وهي أربعة ، ثلاثة فرد ، وواحد زوجي وهي : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، وواحد فرد وهو رجب .

وقال مجاهد وابن إسحاق وابن زيد وعمر بن شعيب : هي شهور العهد ، وقيل لها الحرم لأن الله حرّم فيها على المؤمنين دماء المشركين والتعرض لهم إلا سبيل الخير { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } في الحلّ والحرم ، وجدتموهم فأسروهم { وَاحْصُرُوهُمْ } وامنعوهم دخول مكة والتصرف في بلاد الإسلام { وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } أي على كل طريق ومرقب ، يقال : رصدت فلاناً أرصده رصداً إذا رقبته . قال عامر بن الطفيل .

ولقد علمت وما إخالك ناسياً *** أن في المنيّة للفتى بالمرصد

{ فَإِن تَابُواْ } من الشرك { وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } يقول : دعوهم في أمصارهم ، ودعوهم يدخلوا مكة { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ . . . . . . . . . ] في حكم هذه الآية .

قال الحسين بن الفضل : فنسخت هذه الآية كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء ، وقال الضحاك والسدّي وعطاء : قوله : ( فاقتلوا المشركين ) منسوخة بقوله :

{ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } [ محمد : 4 ] وقال قتادة : بل هي ناسخة لقوله :

{ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } [ محمد : 4 ] .

والصحيح أنّ حكم هذه الآية ثابت ، وأنها غير منسوخة إحداهما بصاحبتها لأنّ المنّ ، والقتل ، والفداء لم يزل من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم من أول حاربهم وهو يوم بدر ، ويدلّ عليه قوله تعالى : { وَخُذُوهُمْ } والأخذ هو الأسر ، والأسر إنّما يكون للقتل أو الفداء ، والدليل عليه أيضاً قول عطاء قال : " أتى النبي صلى الله عليه وسلم بأسير يقال له أبو أُمامة وهو سيد اليمامة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " يا أبا أُمامة أيّها أحب إليك : أعتقك أو أفاديك أو أقتلك أو تسلم ؟ " . فقال : أن تعتق تعتق عظيماً ، وأن تفادِ تفاد عظيماً ، وإنْ تقتل تقتل عظيماً ، وأما أن أسلم فلا والله لا أسلم أبداً .

قال فأني أعتقتك . فقال : إني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسوله " .

وكانت مادّة ميرة مكة من قبل اليمامة فقال لأهل مكة : والذي لا إله إلا هو لاتأتيكم ميرة أبداً ، ولا حبّة من قبل اليمامة حتى تؤمنوا بالله ورسوله فأضرّ إلى أهل مكة فكتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أيّهم له حزب يشكون ذلك إليه ، فكتب إلى أبي أُمامة : " لاتقطع عنهم ميرة كانت من قبلك " ، ففعل ذلك أبو أمامة .