اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ وَخُذُوهُمۡ وَٱحۡصُرُوهُمۡ وَٱقۡعُدُواْ لَهُمۡ كُلَّ مَرۡصَدٖۚ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (5)

قوله تعالى : { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم } الآية .

قال الليثُ " يقال سلختُ الشهر : إذا خرجت منه " . و " الانسلاخُ " هنا من أحسن الاستعارات ، وقد بيَّن ذلك أبو الهيثم ، فقال : " يقال : أهْللنا شهر كذا ، أي : دخلنا فيه ، فنحنُ نزداد كلَّ ليلةٍ منه إلى مضيِّ نصفه لباساً ، ثم نسلخه عن أنفسنا جزءاً فجزءاً إلى أن ينقضي وينسلخ " ؛ وأنشد : [ الطويل ]

إذا مَا سَلخْتُ الشَّهْرَ أهلَلتُ مِثلهُ *** كَفَى قَاتِلاً سَلْخِي الشُّهُورَ وإهْلالِي{[17569]}

والألف واللام في " الأشهر " يجوز أن تكون للعهد ، والمراد بها : الأشهرُ المتقدمة في قوله : { فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } [ التوبة : 2 ] ، والعربُ إذا ذكرت نكرة ، ثم أرادت ذكرها ثانياً أتت بضميره ؛ أو بلفظه مُعرَّفاً ب " أل " ، ولا يجوز حينئذ أن نصفهُ بصفةٍ تُشْعر بالمغايرة ، فلو قيل : " رأيت رجلاً ، فأكرمتُ الرَّجل الطَّويل " لمْ تُرد بالثَّاني الأول وإن وصفته بما لا يقتضي المغايرة جاز ، كقولك : فأكرمت الرجل المذكور ، ومنه هذه الآية ، فإنَّ " الأشهر " قد وصفت ب " الحُرُم " ، وهي صفةٌ مفهومة من فحوى الكلام فلم تقتض المغايرة ، ويجوزُ أن يراد بها غيرُ الأشهر المتقدمة ، فلا تكون " أل " للعهد وقد ذكر المفسرون الوجهين .

قالوا : المرادُ بالأشهر الحرم : الأربعة ، رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم .

وقال مجاهدٌ وابن إسحاق : " هي شهور العهد فمن كان له عهد فعهده أربعة أشهر ، ومن لا عهد له فأجله إلى انقضاء المحرم خمسون يوماً{[17570]} " .

وقيل لها حرم : لأنَّ الله حرَّم فيها على المؤمنين دماء المشركين والتَّعرض لهم .

فإن قيل : هذا القدر بعض الأشهر الحرم ، واللهُ تعالى يقول : { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم } . قيل : لمَّا كان القدر متصلاً بما مضى أطلق عليه اسم الجمع ، ومعناه : مضت المدة المضروبة التي يكون معها انسلاخ الأشهر الحرم .

قوله { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } .

اعلم أنَّه تعالى أمر بعد انقضاءِ الأشهر الحرم بأربعة أشياء :

أولها : قوله : { فاقتلوا المشركين } أي : على الإطلاق في أي وقت كان في الحل أو الحرمِ .

وثانيها : " وَخُذُوهُمْ " أي : أسروهم .

وثالثها : " واحصروهم " والحصر : المنع ، أي : امنعوهم من الخروج إن تحصنوا ، قاله ابن عباس{[17571]} .

وقال الفرَّاءُ " امنعوهم من دخول مكَّة والتَّصرف في بلاد الشام " .

ورابعها : قوله { واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } . في انتصاب " كل " وجهان :

أحدهما : أنه منصوبٌ على الظرف المكاني .

قال الزجاج{[17572]} " نحو : ذهبت مذهباً " . وردَّ عليه الفارسيُّ هذا القول من حيث إنَّه ظرف مكان مختص ، والمكانُ المختصُّ لا يصلُ إليه الفعلُ بنفسه بل بواسطة ؛ في نحو : صَلَّيْتُ في الطريق وفي البيت ، ولا يصل بنفسه إلاَّ في ألفاظٍ محصورةٍ بعضها ينقاس ، وبعضها يسمع ، وجعل هذا نظير ما فعل سيبويه في بيت ساعدة : [ الكامل ]

لَدْنٌ بِهزِّ الكفِّ يعْسِلُ متنهُ *** فيهِ كما عسل الطَّريقَ الثَّعْلَبُ{[17573]}

وهو أنَّهُ جعله ممَّا حذف فيه الحرفُ اتِّساعاً ، لا على الظرف ، لأنه ظرف مكان مختص .

قال أبو حيَّان{[17574]} " إنه ينتصبُ على الظرف ؛ لأنَّ معنى " واقعُدُوا " لا يراد به حقيقةُ القعود ، وإنما يراد : ارصدوهم ، وإذا كان كذلك فقد اتفق العامل والظرف في المادة ، ومتى أتفقا في المادة لفظاً ، أو معنًى ، وصل إليه بنفسه ، تقول : جلست مجلس القاضي ، وقعدت مجلس القاضي ، والآيةُ من هذا القبيل " .

والثاني : أنه منصوبٌ على إسقاط حرف الجر ، وهو " على " ، أي : على كلِّ مرصد قاله الأخفشُ ، وجعله مثل قول الآخر : [ الطويل ]

تَحِنُّ فتبدي مَا بِهَا مِنْ صبابَةٍ *** وأخْفِي الذي لَوْلاَ الأسَى لَقَضانِي{[17575]}

وهذا لا ينقاس ، بل يقتصر فيه على السَّماع ، كقوله : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ } [ الأعراف : 16 ] ، أي : على صراطك ، اتفق الكل على تقدير " على " ، وقال بعضهم : هو على تقدير الباء ، أي : بكل مرصد ، نقله أبو البقاء ، وحينئذٍ تكون الباء بمعنى " في " فينبغي أن تقدَّر " في " لأنَّ المعنى عليها ؛ وجعله نظير قول الشاعر : [ الوافر ]

نُغَالِي اللَّحْمَ للأَضْيَافِ نَيئاً ***ونرخصه إذا نضج القدور{[17576]}

و " المَرصد " مفعل من : رصده يرصده ، أي : رقبه يرقبه ، وهو يصلح للزمان والمكان والمصدر ، قال عامر بن الطفيل :[ الكامل ]

-ولقد علمت وما إخالك ناسيا *** أنَّ المنيَّةَ للْفَتَى بالمَرْصَدِ{[17577]}

والمِرْصَادُ : المكانُ المختص بالترصُّد ، والمرصد : يقع على الرَّاصد ، سواءً كان مفرداً أم مثنى أم مجموعاً ، وكذلك يقع على " المرصُودِ " . وقوله تعالى : { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } [ الجن : 27 ] يحتمل كلَّ ذلك ؛ وكأنَّهُ في الأصل مصدر ، فلذلك التزم فيه الإفرادُ والتذكيرُ .

ومعنى الآية : اقعدوا لهم على كلِّ طريق - والمرصدُ : الموضعُ الذي يرقب فيه العدو يريد : كونُوا لهم رصداً ، لتأخذوهم من أي وجه توجهوا .

قوله : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } أي : دعوهم ليتصرفوا في أمصارهم ، ويدخلوا مكَّة " إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ " لمن تاب " رَحيمٌ " به .

واحتجُّوا بهذه الآية على قتل تارك الصَّلاة ؛ لأنَّ اللهَ تعالى أباح دم الكفَّار مطلقاً ثم حرَّمها عند التوبة ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، فإذا لم توجد الثلاثة ، فإباحة الدَّم بحالها .

قال الحسينُ بن الفضلِ : " هذه الآية تنسخ كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصَّبر على أذى الأعداء{[17578]} " .


[17569]:البيت في تهذيب الأزهري 17/171 واللسان [سلخ] وتفسير القرطبي 8/72 والبحر المحيط 5/11، والدر المصون 3/443.
[17570]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/319) عن ابن إسحاق وذكره البغوي في "تفسيره" (2/269) عن ابن إسحاق ومجاهد.
[17571]:انظر المصدر السابق.
[17572]:ينظر: معاني القرآن للزجاج 2/476.
[17573]:تقدم.
[17574]:ينظر: البحر المحيط 5/12.
[17575]:تقدم.
[17576]:البيت ذكره الفراء في المعاني 2/383 والزجاج 1/191 والأخفش 1/350 والأزهري في التهذيب "غلا" واللسان "غلا" والصحاح "غلا" والزمخشري في أساس البلاغة "غلو".
[17577]:البيت في ديوان عامر بن الطفيل هكذا: فيئي إليك فلا هوادة بيننا *** بعد الفوارس إذ ثووا بالمرصد وهو في ديوانه (ص57) مجاز القرآن 1/253 القرطبي 8/73 البحر المحيط 5/5 الدر المصون 3/444 اللسان رصد.
[17578]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/269).