قوله تعالى : { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم } الآية .
قال الليثُ " يقال سلختُ الشهر : إذا خرجت منه " . و " الانسلاخُ " هنا من أحسن الاستعارات ، وقد بيَّن ذلك أبو الهيثم ، فقال : " يقال : أهْللنا شهر كذا ، أي : دخلنا فيه ، فنحنُ نزداد كلَّ ليلةٍ منه إلى مضيِّ نصفه لباساً ، ثم نسلخه عن أنفسنا جزءاً فجزءاً إلى أن ينقضي وينسلخ " ؛ وأنشد : [ الطويل ]
إذا مَا سَلخْتُ الشَّهْرَ أهلَلتُ مِثلهُ *** كَفَى قَاتِلاً سَلْخِي الشُّهُورَ وإهْلالِي{[17569]}
والألف واللام في " الأشهر " يجوز أن تكون للعهد ، والمراد بها : الأشهرُ المتقدمة في قوله : { فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } [ التوبة : 2 ] ، والعربُ إذا ذكرت نكرة ، ثم أرادت ذكرها ثانياً أتت بضميره ؛ أو بلفظه مُعرَّفاً ب " أل " ، ولا يجوز حينئذ أن نصفهُ بصفةٍ تُشْعر بالمغايرة ، فلو قيل : " رأيت رجلاً ، فأكرمتُ الرَّجل الطَّويل " لمْ تُرد بالثَّاني الأول وإن وصفته بما لا يقتضي المغايرة جاز ، كقولك : فأكرمت الرجل المذكور ، ومنه هذه الآية ، فإنَّ " الأشهر " قد وصفت ب " الحُرُم " ، وهي صفةٌ مفهومة من فحوى الكلام فلم تقتض المغايرة ، ويجوزُ أن يراد بها غيرُ الأشهر المتقدمة ، فلا تكون " أل " للعهد وقد ذكر المفسرون الوجهين .
قالوا : المرادُ بالأشهر الحرم : الأربعة ، رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم .
وقال مجاهدٌ وابن إسحاق : " هي شهور العهد فمن كان له عهد فعهده أربعة أشهر ، ومن لا عهد له فأجله إلى انقضاء المحرم خمسون يوماً{[17570]} " .
وقيل لها حرم : لأنَّ الله حرَّم فيها على المؤمنين دماء المشركين والتَّعرض لهم .
فإن قيل : هذا القدر بعض الأشهر الحرم ، واللهُ تعالى يقول : { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم } . قيل : لمَّا كان القدر متصلاً بما مضى أطلق عليه اسم الجمع ، ومعناه : مضت المدة المضروبة التي يكون معها انسلاخ الأشهر الحرم .
قوله { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } .
اعلم أنَّه تعالى أمر بعد انقضاءِ الأشهر الحرم بأربعة أشياء :
أولها : قوله : { فاقتلوا المشركين } أي : على الإطلاق في أي وقت كان في الحل أو الحرمِ .
وثانيها : " وَخُذُوهُمْ " أي : أسروهم .
وثالثها : " واحصروهم " والحصر : المنع ، أي : امنعوهم من الخروج إن تحصنوا ، قاله ابن عباس{[17571]} .
وقال الفرَّاءُ " امنعوهم من دخول مكَّة والتَّصرف في بلاد الشام " .
ورابعها : قوله { واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } . في انتصاب " كل " وجهان :
أحدهما : أنه منصوبٌ على الظرف المكاني .
قال الزجاج{[17572]} " نحو : ذهبت مذهباً " . وردَّ عليه الفارسيُّ هذا القول من حيث إنَّه ظرف مكان مختص ، والمكانُ المختصُّ لا يصلُ إليه الفعلُ بنفسه بل بواسطة ؛ في نحو : صَلَّيْتُ في الطريق وفي البيت ، ولا يصل بنفسه إلاَّ في ألفاظٍ محصورةٍ بعضها ينقاس ، وبعضها يسمع ، وجعل هذا نظير ما فعل سيبويه في بيت ساعدة : [ الكامل ]
لَدْنٌ بِهزِّ الكفِّ يعْسِلُ متنهُ *** فيهِ كما عسل الطَّريقَ الثَّعْلَبُ{[17573]}
وهو أنَّهُ جعله ممَّا حذف فيه الحرفُ اتِّساعاً ، لا على الظرف ، لأنه ظرف مكان مختص .
قال أبو حيَّان{[17574]} " إنه ينتصبُ على الظرف ؛ لأنَّ معنى " واقعُدُوا " لا يراد به حقيقةُ القعود ، وإنما يراد : ارصدوهم ، وإذا كان كذلك فقد اتفق العامل والظرف في المادة ، ومتى أتفقا في المادة لفظاً ، أو معنًى ، وصل إليه بنفسه ، تقول : جلست مجلس القاضي ، وقعدت مجلس القاضي ، والآيةُ من هذا القبيل " .
والثاني : أنه منصوبٌ على إسقاط حرف الجر ، وهو " على " ، أي : على كلِّ مرصد قاله الأخفشُ ، وجعله مثل قول الآخر : [ الطويل ]
تَحِنُّ فتبدي مَا بِهَا مِنْ صبابَةٍ *** وأخْفِي الذي لَوْلاَ الأسَى لَقَضانِي{[17575]}
وهذا لا ينقاس ، بل يقتصر فيه على السَّماع ، كقوله : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ } [ الأعراف : 16 ] ، أي : على صراطك ، اتفق الكل على تقدير " على " ، وقال بعضهم : هو على تقدير الباء ، أي : بكل مرصد ، نقله أبو البقاء ، وحينئذٍ تكون الباء بمعنى " في " فينبغي أن تقدَّر " في " لأنَّ المعنى عليها ؛ وجعله نظير قول الشاعر : [ الوافر ]
نُغَالِي اللَّحْمَ للأَضْيَافِ نَيئاً ***ونرخصه إذا نضج القدور{[17576]}
و " المَرصد " مفعل من : رصده يرصده ، أي : رقبه يرقبه ، وهو يصلح للزمان والمكان والمصدر ، قال عامر بن الطفيل :[ الكامل ]
-ولقد علمت وما إخالك ناسيا *** أنَّ المنيَّةَ للْفَتَى بالمَرْصَدِ{[17577]}
والمِرْصَادُ : المكانُ المختص بالترصُّد ، والمرصد : يقع على الرَّاصد ، سواءً كان مفرداً أم مثنى أم مجموعاً ، وكذلك يقع على " المرصُودِ " . وقوله تعالى : { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } [ الجن : 27 ] يحتمل كلَّ ذلك ؛ وكأنَّهُ في الأصل مصدر ، فلذلك التزم فيه الإفرادُ والتذكيرُ .
ومعنى الآية : اقعدوا لهم على كلِّ طريق - والمرصدُ : الموضعُ الذي يرقب فيه العدو يريد : كونُوا لهم رصداً ، لتأخذوهم من أي وجه توجهوا .
قوله : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } أي : دعوهم ليتصرفوا في أمصارهم ، ويدخلوا مكَّة " إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ " لمن تاب " رَحيمٌ " به .
واحتجُّوا بهذه الآية على قتل تارك الصَّلاة ؛ لأنَّ اللهَ تعالى أباح دم الكفَّار مطلقاً ثم حرَّمها عند التوبة ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، فإذا لم توجد الثلاثة ، فإباحة الدَّم بحالها .
قال الحسينُ بن الفضلِ : " هذه الآية تنسخ كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصَّبر على أذى الأعداء{[17578]} " .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.