الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ وَخُذُوهُمۡ وَٱحۡصُرُوهُمۡ وَٱقۡعُدُواْ لَهُمۡ كُلَّ مَرۡصَدٖۚ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (5)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم ذكر من لم يكن له عهد غير خمسين يوما، فقال: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم} يعنى عشرين من ذي الحجة وثلاثين يوما من المحرم، {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} يعني هؤلاء الذين لا عهد لهم إلا خمسين يوما أين أدركتموهم في الحل والحرم {وخذوهم} يعني وأسروهم، {واحصروهم}، يعني والتمسوهم، {واقعدوا لهم كل مرصد}، يقول: وارصدوهم بكل طريق وهم كفار. {فإن تابوا} من الشرك، {وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} يقول: فاتركوا طريقهم، فلا تظلموهم، {إن الله غفور} للذنوب ما كان في الشرك، {رحيم} بهم في الإسلام.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني جلّ ثناؤه بقوله:"فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ" فإذا انقضى ومضى وخرج، يقال منه: سلخنا شهر كذا... بمعنى: خرجنا منه... ويعني بالأشهر الحرم: ذا القعدة، وذا الحجة، والمحرّم، أو إنما أريد في هذا الموضع انسلاخ المحرّم وحده، لأن الأذان كان ببراءة يوم الحجّ الأكبر، فمعلوم أنهم لم يكونوا أجلوا الأشهر الحرم كلها وقد دللنا على صحة ذلك فيما مضى. ولكنه لما كان متصلاً بالشهرين الأخرين قبله الحرامين وكان هو لهما ثالثا، وهي كلها متصل بعضها ببعض، قيل: فإذا انسلخ الأشهر الحرم.

ومعنى الكلام: فإذا انقضت الأشهر الحرم الثلاثة عن الذين لا عهد لهم، أو عن الذين كان لهم عهد، فنقضوا عهدهم بمظاهرتهم الأعداء على رسول الله وعلى أصحابه، أو كان عهدهم إلى أجل غيره معلوم "فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ "يقول: فاقتلوهم "حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ" يقول: حيث لقيتوهم من الأرض في الحرم وغير الحرم في الأشهر الحُرم وغير الأشهر الحرم، "وَخُذُوهُمْ" يقول: وأسروهم، "وَاحْصُرُوهُمْ" يقول: وامنعوهم من التصرف في بلاد الإسلام ودخول مكة، "وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلّ مَرْصَدٍ" يقول: واقعدوا لهم بالطلب لقتلهم أو أسرهم كلّ مرصد، يعني: كلّ طريق ومرقب... "فإنْ تابُوا" يقول: فإن رجعوا عما نهاهم عليه من الشرك بالله وجحود نبوّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له، دون الآلهة والأنداد، والإقرار بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم "وأقامُوا الصّلاةَ" يقول: وأدّوا ما فرض الله عليهم من الصلاة بحدودها وأعْطوا "الزّكاةَ" التي أوجبها الله عليهم في أموالهم أهلها. "فخَلّوا سَبِيلَهُمْ" يقول: فدعوهم يتصرّفون في أمصاركم ويدخلون البيت الحرام. "إنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" لمن تاب من عباده، فأناب إلى طاعته بعد الذي كان عليه من معصيته، ساتر على ذنبه، رحيم به أن يعاقبه على ذنوبه السالفة قبل توبته، بعد التوبة...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

قال بعضهم: الأشهر الحرم هي أشهر العهد والأمان. (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ) قال بعضهم حيث وجدتموهم في الأماكن كلها؛ لأن حيث إنما يترجم عن مكان؛ أمر بقتلهم في الأماكن كلها لأنه لم يخص مكانا دون مكان. وقال آخرون: هو في الأماكن كلها إلا مكان الحرم.

وقوله تعالى: (وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد)... كأنه أمر بذلك ليضيق عليهم الأمر، ليضجروا، ويتفادوا. وفيه دليل النهي عما يحمل إلى دار الحرب من أنواع الثياب والأمتعة وما ينتفعون به؛ لأنه أمر بالحصر و حفظ الطرق والمراصد ليضيق عليهم الأمر فيشتد فينقادوا، وفيما يحملون توسيع عليهم.

وقوله تعالى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) فوجب بظاهر الآية أن نقاتل من آمن، ولم يقم الصلاة، ولم يؤت الزكاة؛ لأن الله تعالى إنما رفع القتل عنهم بالإيمان وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. فإذا لم يأتوا بذلك فالقتل واجب عليهم.

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

... {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ}. قال أبو بكر: عمومه يقتضي قَتْلَ سائر المشركين من أهل الكتاب وغيرهم وأن لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، إلا أنه تعالى خَصَّ أهل الكتاب بإقرارهم على الجزية بقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بالله ولا باليَوْمِ الآخِرِ} الآية، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من مجوس هَجَر. وقال في حديث علقمة بن مرثد عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا بعث سَرِيَّةً قال:"إِذَا لَقِيتُمُ المُشْرِكِينَ فادْعُوهُمْ إلى الإسْلامِ فإِنْ أَبَوْا فَادْعُوهُمْ إلى أَدَاءِ الجِزْيَةِ فإنْ فَعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ وكُفُّوا عَنْهُمْ"، وذلك عموم في سائر المشركين، فخصصنا منه من لم يكن من مشركي العرب بالآية، وصار قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} خاصّاً في مشركي العرب دون غيرهم. لا يخلو قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ} من أن يكون وجود هذه الأفعال منهم شرطاً في زوال القتل عنهم ويكون قبول ذلك والانقياد لأمر الله تعالى فيه هو الشرط دون وجود الفعل؛ ومعلوم أن وجود التوبة من الشِّرْك شرط لا محالة في زوال القتل، ولا خلاف أنهم لو قبلوا أمْرَ الله في فعل الصلاة والزكاة ولم يكن الوقت وقت صلاة أنهم مسلمون وأن دماءهم محظورة، فعلمنا أن شرط زوال القتل عنهم هو قبول أوامر الله والاعتراف بلزومها دون فعل الصلاة والزكاة، ولأن إخراج الزكاة لا يلزم بنفس الإسلام إلا بعد حَوْلٍ، فغير جائز أن يكون إخراج الزكاة شرطاً في زوال القتل وكذلك فعل الصلاة ليس بشرط فيه وإنما شرطه قبول هذه الفرائض والتزامها والاعتراف بوجوبها.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

... والقتل وإن كان بلفظ الأمر فهو على وجه التخيير لوروده بعد حظر اعتباراً بالأصلح...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

حقيقة التوبة الرجوعُ بالكلية من غير أن تتركَ بقية. فإِذا أَسْلَم الكافرُ بعد شِرْكه، ولم يُقَصِّرْ في واجبٍ عليه من قِسْمَي فِعله وتَرْكِه، حَصَلَ الإذنُ في تَخْلِيَةِ سبيله وفكِّه...

أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :

قوله تعالى: {فاقتُلُوا المُشرِكِينَ حَيثُ وَجَدْتُمُوهُم وَخُذُوهُم واحصُرُوهُم واقعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَد}: يدل على جواز الأسر بدل القتل والتخيير بينهما، ويدل على جواز قتلهم، أو أسرهم، على وجه المكيدة، لقوله تعالى: {واقعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَد}.

جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :

يخرج من قوله {اقتلوا المشركين} أهل الذمة مرة والعسيف مرة، والمرأة مرة أخرى، وكذلك على التدريج والإحالة في شيء من ذلك.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

وقوله {فاقتلوا المشركين}. أمر بقتال المشركين فخرج الأمر بذلك بلفظ اقتلوا على جهة التشجيع وتقوية النفس، أي هكذا يكون أمركم معهم. وقوله تعالى: {فإن تابوا} يريد من الكفر فهي متضمنة الإيمان.

وقوله {فخلوا سبيلهم} تأمين، وقال أنس بن مالك: هذا هو دين الله الذي جاءت به الرسل وهو من آخر ما نزل قبل اختلاف الأهواء، وفيه قال النبي صلى الله عليه: «من فارق الدنيا مخلصاً لله تعالى مطيعاً له لقي الله وهو عنه راض» ثم وعد بالمغفرة في صيغة الخبر عن أوصافه تعالى.

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:.

...

.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}: عَامٌّ فِي كُلِّ مُشْرِكٍ لَكِنَّ السُّنَّةَ خَصَّتْ مِنْهُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَبْلَ هَذَا من امْرَأَةٍ وَصَبِيٍّ، وَرَاهِبٍ، وَحُشْوَةٍ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَبَقِيَ تَحْتَ اللَّفْظِ مَنْ كَانَ مُحَارِبًا أَوْ مُسْتَعِدًّا لِلْحِرَابَةِ وَالْإِذَايَةِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ: اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُحَارِبُونَكُمْ.

...

...

...

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ}: دَلِيلٌ صَحِيحٌ عَلَى مَا كَانَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَعَلَّقَ بِهِ عَلَى أَهْلِ الرِّدَّةِ فِي قَوْلِهِ: لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ؛ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ الْعِصْمَةَ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، فَتَعَلَّقَ بِهِمَا.

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْلُهُ: {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}:

وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى تَرْكِ قِتَالِهِمْ وَحَصْرِهِمْ وَمَنْعِهِمْ عَنْ التَّصَرُّفِ، وَأَلَّا يَرْصُدَ لَهُمْ غِيلَةً، وَلَا يَقْطَعَ عَلَى أَحَدٍ فَعَلَ ذَلِكَ سَبِيلُهُ.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

... وفيه لطيفة وهو أنه تعالى ضيق عليهم جميع الخيرات وألقاهم في جميع الآفات، ثم بين أنهم لو تابوا عن الكفر وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فقد تخلصوا عن كل تلك الآفات في الدنيا، فنرجوا من فضل الله أن يكون الأمر كذلك يوم القيامة أيضا، فالتوبة عبارة عن تطهير القوة النظرية عن الجهل، والصلاة والزكاة عبارة عن تطهير القوة العملية عما لا ينبغي، وذلك يدل على أن كمال السعادة منوط بهذا المعنى.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

.. وقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} أي: من الأرض. وهذا عام، والمشهور تخصيصه بتحريم القتال في الحرم بقوله: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191]

وقوله: {وَخُذُوهُمْ} أي: وأسروهم، إن شئتم قتلا وإن شئتم أسرا.

وقوله: {وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} أي: لا تكتفوا بمجرد وجدانكم لهم، بل اقصدوهم بالحصار في معاقلهم وحصونهم، والرصد في طرقهم ومسالكهم حتى تضيقوا عليهم الواسع، وتضطروهم إلى القتل أو الإسلام؛ ولهذا قال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}

ولهذا اعتمد الصديق، رضي الله عنه، في قتال مانعي الزكاة على هذه الآية الكريمة وأمثالها، حيث حرمت قتالهم بشرط هذه الأفعال، وهي الدخول في الإسلام، والقيام بأداء واجباته. ونبه بأعلاها على أدناها، فإن أشرف الأركان بعد الشهادة الصلاة، التي هي حق الله، عز وجل، وبعدها أداء الزكاة التي هي نفع متعد إلى الفقراء والمحاويج، وهي أشرف الأفعال المتعلقة بالمخلوقين؛ ولهذا كثيرا ما يقرن الله بين الصلاة والزكاة، وقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر، رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة..." الحديث.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

هذا شروع في بيان ما يترتب على الأذان بنبذ عهود المشركين على الوجه الذي سبق تفصيله في الموقت منها وغير الموقت، وهو مفصل لكل حال يكونون عليها بعد هذا الأذان العام من إيمان وكفر، ووفاء وغدر، ينتهي بالآية الخامسة عشرة. وانسلاخ الأشهر انقضاؤها والخروج منها...

قال تعالى: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} أي فإذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرم عليكم قتال المشركين فيها فاقتلوهم في أي مكان وجدتموهم فيه من حل وحرم؛ لأن الحالة بينكم وبينهم عادت حالة حرب كما كانت، وإنما كان تأمينهم مدة أربعة أشهر منحة منكم، ومن قال إن الآية مخصوصة بما عدا أرض الحرم فهو غالط.

{وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد} أي وافعلوا بهم كل ما ترونه موافقا للمصلحة من تدابير القتال وشؤون الحرب المعهودة، وأهمها وأشهرها هذه الثلاثة:

وأولها أخذهم أسارى، فكانوا يعبرون عن الأسر بالأخذ، ويسمون الأسير (أخيذا)، والأخذ أعم من الأسر، فإن معنى الثاني الشد بالإسار كما تقدم في سورة الأنفال، فالأسير في أصل اللغة هو الأخيذ الذي يشد. وقد أبيح هنا الأسر الذي حظر بقوله تعالى في سورة الأنفال {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} [الأنفال: 67] لحصول شرطه وهو الإثخان الذي هو عبارة عن الغلب والقوة والسيادة، فمن يسمي مثل هذا نسخا فله أن يقول به هنا، والصواب أنه من المقيد بالشرط أو الوقت أو الأذن.

والثاني: الحصر، وهو حبس العدو حيث يعتصمون من معقل وحصن بأن يحاط بهم ويمنعوا من الخروج والانقلاب، إذا كان في مهاجمتهم فيه خسارة كبيرة فاحصروهم إلى أن يسلموا وينزلوا على حكمكم بشرط ترضونه، أو بغير شرط.

والثالث: قعود المراصد، أي الرصد العام، وهو مراقبة العدو بالقعود لهم في كل مكان يمكن الإشراف عليهم، ورؤية تجوالهم وتقلبهم في البلاد منه. فالمرصد اسم مكان، وخصه بعضهم بطرق مكة والفجاج التي تنتهي إليها لئلا يعودوا إليها لإخراج المسلمين منها، أو للشرك في البيت والطواف فيه عراة. والصواب أنه عام وهذا أهم أفراده. ولعل القائل بهذا التخصيص لم يذكر المدينة- وهي العاصمة- لأنه لا خوف عليها يومئذ من المشركين بعد أن عجزوا عنها في عهد قوتهم وكثرتهم.

وهذه الآية هي التي يسمونها آية السيف، واعتمد بعضهم أن آية السيف هي قوله الآتي {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة} [الأنفال:38]، وقال بعضهم إنها تطلق على كل منهما أو على كلتيهما. ويكثر في كلام الذين كثروا الآيات المنسوخة أن آية كذا وآية كذا من آيات العفو والصفح والإعراض عن المشركين والجاهلين والمسالمة وحسن المعاملة منسوخة بآية السيف. والصواب أن ما ذكروه من هذا القبيل ليس من النسخ الأصولي في شيء، قال السيوطي في أقسام النسخ من الإتقان ما نصه:

الثالث: ما أمر به لسبب ثم يزول السبب، كالأمر حين الضعف والقلة بالصبر والصفح ثم نسخ بإيجاب القتال، وهذا في الحقيقة ليس نسخا؛ بل هو من قسم المنسأ كما قال تعالى: {أو ننسأها}، فالمنسأ هو الأمر بالقتال إلى أن يقوى المسلمون، وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى، وبهذا يضعف ما لهج به كثيرون من أن الآية في ذلك منسوخة بآية السيف، وليس كذلك؛ بل هي من المنسأ بمعنى أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلة تقتضي ذلك الحكم؛ بل ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر، وليس بنسخ، إنما النسخ الإزالة للحكم حتى لا يجوز امتثاله، وقال مكي: ذكر جماعة أن ما ورد من الخطاب مشعرا بالتوقيت والغاية مثل قوله في البقرة {فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره} [البقرة: 109] محكم غير منسوخ؛ لأنه مؤجل بأجل، والمؤجل بأجل لا نسخ فيه اه.

وقال بعضهم وعزاه الألوسي إلى الجمهور: إن الآية تدل بعمومها على جواز قتال الترك والحبشة، كأنه قيل فاقتلوا الكفار مطلقا. يعنون أنها ناسخة أو مخصصة لحديث (اتركوا الترك ما تركوكم، فإن أول من يسلب أمتي ملكهم وما خولهم الله بنو قنطوراء) رواه الطبراني من حديث ابن مسعود كما في الجامع الصغير. وفي فتح الباري أنه رواه من حديث معاوية، قال الحافظ وكان هذا الحديث مشهورا بين الصحابة.

وقتال المسلمين للترك ثابت في الصحيحين. وروى أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا (اتركوا الحبشة ما تركوكم، فإنه لا يستخرج كنز الكعبة إلا ذو السويقتين من الحبشة)، وقال العلماء: إن هذا يكون قبيل قيام الساعة إذ يبطل أمن الحرم.

وروى أبو داود والنسائي عن رجل كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم).

قال الخطابي إن الجمع بين قوله تعالى: {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة} وبين هذا الحديث أن الآية مطلقة والحديث مقيد، فيحمل المطلق على المقيد، ويجعل الحديث مخصصا لعموم الآية كما خص ذلك في حق المجوس فإنهم كفرة، ومع ذلك أخذ منهم الجزية لقوله صلى الله عليه وسلم: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب)، قال الطيبي: ويحتمل أن تكون الآية ناسخة للحديث لضعف الإسلام.

وأقول: قد غفل هؤلاء الذين حاولوا الجمع بين الحديث والآية عن كون الآية في مشركي العرب الذي لا عهد لهم، والذين نبذت عهودهم، وضرب لهم موعد الأربعة الأشهر، والحبشة نصارى من أهل الكتاب، وفيهم نزل قوله تعالى: {ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى} [المائدة:82] الآيات، ومن المجمع عليه التفرقة بين المشركين وأهل الكتاب، والترك كانوا وثنيين عند نزول هذه الآيات كمشركي العرب، ولكنهم لا يدخلون في عموم الآية، ثم إن الأمر بترك قتال الترك والحبشة جاء تحذيرا من بدئهم بالقتال لما علم النبي صلى الله عليه وسلم أن خطرا على العرب وبلادهم سيقع منهم، والأمن بقتال مشركي العرب في هذه الآيات مبني على كونهم هم الذين بدؤوا المسلمين ونكثوا عهودهم كما سيأتي قريبا في قوله: {ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤكم أول مرة} [التوبة:13]، وعلى كون قتالهم كافة جزاء بالمثل كما قال: {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة} [التوبة:36] فكيف يدخل وثنيو الترك ونصارى الحبشة في عموم هؤلاء المشركين الموصوفين بما ذكر حتى يحتاج إلى الجمع بين الآية والأحاديث المذكورة؟ ولا تأتي هنا قاعدة كون العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو ظاهر؛ لأن المراد بها أن اللفظ العام يتناول كل ما وضع له، سواء وجد ما كان سببا لوروده أو لم يوجد، ولفظ المشركين في هذه الآيات لم يوضع لأهل الكتاب المعروفين بالقطع، ولا لأمثالهم كالمجوس مثلا، وقد بينا تحقيق هذه المسألة في مواضع أبسطها تفسير {ولا تنكحوا المشركات} [البقرة: 221] الآية (ج 2)، ثم تفسير {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} [المائدة: 5] الآية (ج6)، ويليه مباحث في موضوع الآية. ولولا أن هؤلاء المفسرين وشراح الأحاديث ينظرون في كتاب الله وحديث رسوله من وراء حجب المذاهب الفقهية لما وقعوا في أمثال هذه الأغلاط الواضحة، ولكننا في غنى عن الإطالة في التفسير لبيانها.

{فإن تابوا} أي فإن تابوا عن الشرك وهو الذي يحملهم على عداوتكم وقتالكم، بأن دخلوا في الإسلام وعنوانه العام النطق بالشهادتين، وكان يكتفي منهم بإحداهما {وأقاموا الصلاة} المفروضة معكم كما يقيمونها في أوقاتها الخمسة، وهي مظهر الإيمان، وأكبر أركانه المطلوبة في كل يوم من الأيام، ويتساوى في طلبها وجماعتها الغني والفقير، والمأمور والأمير، وهي حق العبودية لله تعالى على عباده، وأفضل مزك لأنفسهم يؤهلهم للقائه، وأفعل مهذب لأخلاقهم يعدها للقيام بحقوق عباده، {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} [العنكبوت: 45].

{وآتوا الزكاة} المفروضة في أموال الأغنياء للفقراء وللمصالح العامة، وهي الركن المالي الاجتماعي من أركان الإسلام، التي يقوم بها نظامه العام.

{فخلُّوا سبيلهم} فاتركوا لهم طريق حريتهم بالكف عن قتالهم إذا كانوا مقاتلين، وعن حصرهم إن كانوا محصورين، وعن رصد مسالكهم إلى البيت الحرام وغيره حيث يكونون مراقبين.

{إن الله غفور رحيم} يغفر لهم ما سبق من الشرك وأعماله، ويرحمهم فيمن يرحم من عباده المؤمنين؛ لأن الإسلام يجب ما قبله.

والآية تفيد دلالة إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة على الإسلام، وتوجب لمن يؤديهما حقوق المسلمين من حفظ دمه وماله إلا بما يوجبه عليه شرعه من جناية تقتضي حدا معلوما، أو جريمة توجب تعزيرا أو تغريما.

واستدل بها بعض أئمة الفقه على كفر من يترك الصلاة ويمتنع عن أداء الزكاة، وذلك أنها اشترطت في صحة إسلام المشركين وعصمة دمائهم مجموع الثلاثة الأشياء: ترك الشرك وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فإذا فقد شرط منها لم يتحقق الإسلام الذي يعصم دم المشرك المقاتل، ومفهوم الشرط من ضروريات اللغة، ومراء بعض الجدليين من الأصوليين فيه مردود لا قيمة له، وقال بعضهم: بل يكفر تارك الصلاة دون مانع الزكاة لإمكان أخذها منه بالقهر، ووجوب قتال مانعيها كما فعل أبو بكر.

وقد عززوا هذا الاستدلال بالأحاديث الصحيحة في معناها كحديث عبد الله بن عمر مرفوعا: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله) رواه الشيخان، وحديث أنس عند البخاري وأصحاب السنن الثلاثة: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وذبحوا ذبيحتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)، ولم تذكر فيه الزكاة ولكن اشترط فيه أن يذبحوا ذبيحتنا والمراد لازمها وهو ترك ذبائح الشرك، يعني إن ذبحوا وجب أن يذبحوا باسم الله دون اسم غيره من معبوداتهم التي كانوا يهلون بأسمائها عند الذبح.

وقد ورد معنى هذا الحديث في الصحاح والسنن بألفاظ مختلفة: منها الاقتصار على الشهادتين كحديث أبي هريرة المتفق عليه؛ بل صرحوا بتواتره كما في الجامع الصغير وهو (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)، وفي بعضها الاقتصار على كلمة «لا إله إلا الله»، ومن ثم اختلف الفقهاء في المسألة، فقال بعضهم: إن ترك الصلاة ومنع الزكاة من المعاصي لا يخرج تارك إحداهما ولا كلتيهما من الإسلام، كما يقتضيه هذا الحديث، وهو أصح من حديثي ابن عمر وأنس، وقال الآخرون: إن فيهما زيادة على ما في حديث أبي هريرة، وزيادة الثقة مقبولة، والمطلق يحمل على المقيد.

والتحقيق أن المراد من الآية والأحاديث المختلفة الألفاظ في معناها واحد وهو ترك الكفر والدخول في الإسلام، وللدخول في الإسلام صيغة وعنوان يكتفى به في أول الأمر ولا سيما مواقف القتال وهو النطق بالشهادتين. وقد يكتفي من المشرك بكلمة «لا إله إلا الله»؛ لأنهم كانوا ينكرونها وهي أول ما دعوا إليه، بل أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على خالد بن الوليد قتل من قتل من بني جذيمة بعد قولهم «صبأنا»، وقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد)، وذلك أنهم كانوا يعبرون بهذه الكلمة عن الإسلام فيقولون صبأ فلان إذا أسلم، والحديث في مواضع من صحيح البخاري وغيره.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في كل مقام ما يناسبه والمراد واحد يعلم من جملة أقواله علما قطعيا، وهو ما ذكرنا من ترك الكفر والدخول في الإسلام الذي لا يتحقق بعد النطق بعنوانه من الشهادتين أو إحداهما في بعض المواضع إلا بإقامة أركانه، والتزام أحكامه بقدر الاستطاعة، بحيث إذا ترك المسلم شيئا منها بجهالة من ثورة غضب أو ثورة شهوة أو كسل تاب إلى الله تعالى واستغفره.

ومن المعلوم أن اليهود من أهل الكتاب كانوا يقولون « لا إله إلا الله»، فالنطق بها وحدها من أحدهم لا يدل على قبول الإسلام كما يدل قول أحد مشركي العرب لها، ووجدت طائفة منهم كانت تقول أن محمدا رسول الله إلى العرب وحدهم، وقد اتفق علماؤنا بحق على أن من قال منهم « لا إله إلا الله محمد رسول الله» لا يعتد بإسلامه إلا إذا اعترف بعموم رسالته صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا} [سبأ:28] وما في معناه.

فالإسلام هو الإذعان العملي لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من أمر الدين فعلا كان أو تركا، ولا يكون الإذعان بالعمل إسلاما صحيحا مقبولا عند الله تعالى إلا إذا كان إذعانا نفسيا وجدانيا يبعثه الإيمان بصحة رسالته. فإن المنافقين كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: نشهد إنك لرسول الله، ويصلون ويزكون ويجاهدون {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} [المنافقون:1] ومتى كان الإيمان يقينيا كان الإذعان نفسيا وجدانيا، وتبعه العمل بالضرورة في جملة التكاليف وعامة الأوقات، ولا ينافيه ترك واجب في بعض الأوقات لصارف عارض، أو فعل محظور لعارض غالب، بحيث إذا زال السبب ندم المخالف ولام نفسه واستغفر الله كما تقدم آنفا، وذلك قوله تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب} [النساء: 17] الخ، فمن ترك صلاة أو أكثر لبعض الشواغل وهو يستشعر أنه مذنب ويرجو مغفرة الله تعالى وينوي القضاء لا يكون تركه هذا منافيا لإذعانه النفسي لأصل الأمر والنهي الذي يقتضيه الإيمان اليقيني، وإن كان هذا الرجاء مع عدم العذر يعد من الغرور كما سنبينه قريبا.

وأما عدم المبالاة بالصلاة وغيرها من فرائض الإسلام وأوامره، وعدم الانتهاء عن الفواحش والمنكرات من نواهيه، فإنه ينافي الإذعان الذي هو حقيقة الإسلام، ولا يعقل إيمان صحيح بغير إسلام، ولا إسلام صحيح ظاهره كباطنه بدون إيمان، فهما متلازمان في حال الإمكان. فمن نطق الشهادتين من الكفار وأبى أن يلتزم فرائض الإسلام وترك محرماته القطعية مصرحا بذلك لا يعتد بإسلامه، ومن لم يصرح ولم يفعل هو مخادع قطعا، وقد يظهر القيام ببعضها نفاقا، كما ثبت عن بعض الإفرنج السياسيين أنهم أظهروا الإسلام لدخول الحجاز أو اختبار المسلمين.

وجملة القول: إن المراد من اشتراط الثلاثة الأشياء للكف عن قتال المشركين بعد بلوغ الدعوة، وظهور الحجة، هي تحقق الدخول في جماعة المسلمين بالفعل، فإن التوبة عن الشرك وحدها -وهي الشرط الأول- لا تكفي لتأمينهم وإباحة دخول المسجد الحرام والحج مع المسلمين وسائر المعاملات التي تثبت لمن يقيم في الحجاز وسائر جزيرة العرب، وإن كان التعبير عن هذه التوبة بالنطق بكلمة التوحيد أو الشهادتين كلتيهما كافيا في موقف القتال للكف عنه كما تقدم آنفا، ولكنه لا يكفي بعد ذلك لمعاملة من ينطق بهما معاملة المسلمين في عامة الأوقات، بل لا بد من التزام شرائع الإسلام وإقامة شعائره، فمقتضى الشهادة الأولى لمن كان صادقا في النطق بها ترك عبادة غير الله تعالى من دعاء أو ذبيحة أو غيرهما، ومقتضى الشهادة الثانية طاعة الرسول فيما يبلغه عن الله تعالى، فإذا لم يكن العمل الذي تقتضيه الشهادتان مؤيدا لهما كانتا خداعا وغشا، ولما كانت شرائع الإسلام القطعية من فعل وترك كثيرة وكان الكثير منها لا يتعلق به التكليف في حال الدخول في الإسلام -كالصيام والحج من الأركان- اكتفي باشتراط الركنين الأعظمين وهما الصلاة -التي تجب خمس مرات في كل يوم وليلة، وهي الرابطة الدينية الروحية الاجتماعية بين المسلمين- والزكاة -وهي الرابطة المالية السياسية الاجتماعية- ومن أقامهما كان أجدر بإقامة غيرهما.

ومن المعلوم بالضرورة أن من قبل من المشركين أن يسلم ويصلي ويؤدي الزكاة وامتنع من الإذعان لصيام رمضان والحج مع الاستطاعة لا يعتد بإسلامه أيضا، وكذلك إذا كان لا يحرم ما حرم الله ورسوله قطعا، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل من الأعرابي ما شرطه في إسلامه من إباحة الزنا له، وإن بين استباحة الذنب وعدم الإذعان لحكم الله فيه، وبين فعله مع الإذعان والإيمان فرقا واضحا وبونا بينا، ولكن ذهب بعض أئمة العلم إلى أن للصلاة والزكاة شأنا ليس لغيرهما من أركان الإسلام وشرائعه حتى المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة، وهو أن تركهما يعد كفرا بمعنى الخروج من الملة بعد الدخول في الإسلام أو النشوء فيه حتى مع الاعتراف بحقيته وكونهما من أركانه، ويقول بعضهم بأن تاركهما يقتل حدا لا كفرا، وقال بعضهم بذلك في الصلاة وحدها، وأن صيام رمضان وحج البيت على المستطيع لا يكفر تاركهما إلا إذا استحل هذا الترك، أو جحد وجوبهما بعد العلم الذي تقوم به الحجة، أي لأن الاستحلال عبارة عن رفض الإذعان النفسي والفعلي وهو كنه الإسلام، والجحود عبارة عن عدم الاعتقاد أو الاستكبار عنه وهو كنه الإيمان.

والآية وحديث ابن عمر في معناها لا يدلان على أن المسلم إذا ترك بعض الصلوات لكسل أو شاغل لا يعد عذرا شرعيا يكون بذلك مرتدا عن الإسلام، تجري عليه أحكام المرتدين إذا لم يتب عقب أول فريضة تركها أو الثانية إن كانت تجمع معها، بأن يجدد إسلامه ويصليها، ولا يدلان كذلك على وجوب قتله حدا كقتل من قتل مؤمنا متعمدا، لا يدلان على ذلك بمنطوقهما ولا بمفهوم الشرط على القول الحق بحجيته، فإن موضوع كل منهما بيان ما يشترط للكف عن قتال المشركين المحاربين، لا بيان لجملة الإسلام وما ينافيه ويعد ارتدادا عنه بعد الدخول فيه.

فإن قيل: ظاهر لفظ الحديث أنه مطلق عام في قتال كل الكفار لا في المشركين كالآية، قلت:

أولا: إن الله تعالى جعل لقتال أهل الكتاب في هذه السورة غاية أخرى غير هذه الغاية العامة، وهي إعطاء الجزية، وهي ليست ناسخة ولا مخصصة للآية لاختلاف موردهما، وهذا يعارض عموم الحديث، فيترجح حمله على قتال المشركين كالآية ليكون معناه صحيحا محكما، وكان من فقه البخاري في أبواب صحيحه إيراده تابعا للآية في باب واحد من كتاب الإيمان.

ثانيا: إنه على كل حال وارد في بيان الغاية التي ينتهي إليها قتال من يقاتلنا من الكفار، فلا يدخل في معناه بيان ما يصير به المؤمن كافرا.

ثالثا: إن قتال الكافرين غير قتل من عساه يستحق القتل من المسلمين، كما بينه في المسألة بعض العلماء المدققين، فالقتال فعل مشترك بين فريقين، والقتل الشرعي تنفيذ حكم على مجرم ثبت عليه.

رابعا: من أراد جعل هذا الحديث دالا على غير ما تدل عليه الآية من حكم ردة أو حد بقتل مسلم يرد عليه إعلاله بما ينزل به عن درجة الصحة التي يثبت بها مثل هذه الأحكام العظيمة الشأن، وهو أن في إسناده من الغرابة المضاعفة ما استغرب معه بعض نقاد الحديث تصحيح الشيخين له، مع امتناع الإمام أحمد عن إيراده في مسنده على سعته وإحاطته بأمثال هذه الأحاديث، وقد صرح قوم من العلماء باستبعاد صحته كما قال الحافظ في شرحه من الفتح، وهو مخالف لحديث أبي هريرة الذي خرجه الجماعة كلهم، وقال بعضهم بتواتره، وليس فيه زيادة الصلاة والزكاة، وهو أولى بالترجيح، ثم إنه يعارضه نصوص أخرى من الكتاب والسنة، وهي التي أخذ بها الجمهور، فثبت أن القول بدلالته على ما ذكر اجتهادية، ولا نكفر مسلما إلا بنص قطعي لا خلاف في روايته ولا في دلالته.

هذا وإن القائلين بكفر تارك الصلاة من العلماء يحتجون بأحاديث أخرى هي أظهر في المسألة من تكلف الاستدلال عليها بهذه الآية وهذا الحديث، ومع هذا رأينا جمهور الفقهاء المتقدمين والمتأخرين يخالفونهم فيها...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وبعد تقرير الحكم ببراءة الله ورسوله من المشركين.. المعاهدين وغير المعاهدين منهم سواء.. مع استثناء الذين لم ينقصوا المسلمين شيئاً ولم يظاهروا عليهم أحداً بالوفاء لهم بعهدهم إلى مدتهم.. يجيء ذكر الإجراء الذي يتخذه المسلمون بعد انقضاء الأجل المضروب:

{فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وخذوهم، واحصروهم، واقعدوا لهم كل مرصد. فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم}...

...

والذي يصح عندنا أن الأربعة الأشهر المذكورة هنا غير الأشهر الحرم المصطلح عليها. وأنه أطلق عليها وصف الأشهر الحرم لتحريم القتال فيها؛ بإمهال المشركين طوالها ليسيحوا في الأرض أربعة أشهر. وأنها عامة -إلا فيمن لهم عهد مؤقت ممن أمهلوا إلى مدتهم- فإنه ما دام أن الله قد قال لهم: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} فلا بد أن تكون هذه الأشهر الأربعة ابتداء من يوم إعلانهم بها.. وهذا هو الذي يتفق مع طبيعة الإعلان.

وقد أمر الله المسلمين -إذا انقضت الأشهر الأربعة- أن يقتلوا كل مشرك أنى وجدوه أو يأسروه أو يحصروه إذا تحصن منهم أو يقعدوا له مترصدين لا يدعونه يفلت أو يذهب -باستثناء من أمروا بالوفاء لهم إلى مدتهم- بدون أي إجراء آخر معه. ذلك أن المشركين أنذروا وأمهلوا وقتاً كافياً؛ فهم إذن لا يقتلون غدراً، ولا يؤخذون بغتة، وقد نبذت لهم عهودهم، وعلموا سلفاً ما ينتظرهم.

غير أنها لم تكن حملة إبادة ولا انتقام.. إنما كانت حملة إنذار ودفع إلى الإسلام:

{فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم، إن الله غفور رحيم}..

لقد كانت هنالك وراءهم اثنتان وعشرون سنة من الدعوة والبيان؛ ومن إيذائهم للمسلمين وفتنتهم عن دينهم، ومن حرب للمسلمين وتأليب على دولتهم. ثم من سماحة لهذا الدين. ورسوله وأهله معهم.. وإنه لتاريخ طويل.. ومع هذا كله فلقد كان الإسلام يفتح لهم ذراعيه؛ فيأمر الله نبيه والمسلمين الذين أوذوا وفتنوا وحوربوا وشردوا وقتلوا.. كان يأمرهم أن يكفوا عن المشركين إن هم اختاروا التوبة إلى الله، والتزموا شعائر الإسلام التي تدل على اعتناقهم هذا الدين واستسلامهم له وقيامهم بفرائضه. وذلك أن الله لا يرد تائباً مهما تكن خطاياه.. {إن الله غفور رحيم}..

ولا نحب أن ندخل هنا في الجدل الفقهي الطويل الذي تعرضت له كتب التفسير وكتب الفقه حول هذا النص:

{فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم}..

وعما إذا كانت هذه شرائط الإسلام التي يكفر تاركها؟ ومتى يكفر؟ وعما إذا كان يكتفى بها من التائب دون بقية أركان الإسلام المعروفة؟.. الخ

فما نحسب أن هذه الآية بصدد شيء من هذا كله. إنما هو نص كان يواجه واقعاً في مشركي الجزيرة يومذاك. فما كان أحدهم ليعلن توبته ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة إلا وهو يعني الإسلام كله، ويعني استسلامه له ودخوله فيه. فنصت الآية على التوبة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، لأنه ما كان ليفعل هذا منهم في ذلك الحين إلا من نوى الإسلام وارتضاه بكامل شروطه وكامل معناه.

وفي أولها الدينونة لله وحده بشهادة أن لا إله إلا الله، والاعتراف برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- بشهادة أن محمداً رسول الله.

فليست هذه الآية بصدد تقرير حكم فقهي، إنما هي بصدد إجراء واقعي له ملابساته.

وأخيراً فإنه مع هذه الحرب المعلنة على المشركين كافة بعد انسلاخ الأشهر الأربعة يظل الإسلام على سماحته وجديته وواقعيته كذلك. فهو لا يعلنها حرب إبادة على كل مشرك كما قلنا. إنما يعلنها حملة هداية كلما أمكن ذلك. فالمشركون الأفراد، الذين لا يجمعهم تجمع جاهلي يتعرض للإسلام ويتصدى؛ يكفل لهم الإسلام -في دار الإسلام- الأمن، ويأمر الله -سبحانه- رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يجيرهم حتى يسمعوا كلام الله ويتم تبليغهم فحوى هذه الدعوة؛ ثم أن يحرسهم حتى يبلغوا مأمنهم.. هذا كله وهم مشركون.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

... والأمر في {فاقتلوا المشركين} للإذن والإباحة باعتبار كلّ واحد من المأمورات على حدة، أي فقد أُذن لكل في قتلهم، وفي أخذهم، وفي حصارهم، وفي منعهم من المرور بالأرض التي تحت حكم الإسلام، وقد يعرض الوجوب إذا ظهرت مصلحة عظيمة، ومن صور الوجوب ما يأتي في قوله: {وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر} [التوبة: 12] والمقصود هنا: أن حرمة العهد قد زالت.

وفي هذه الآية شرع الجهاد والإذن فيه والإشارة إلى أنّهم لا يقبل منهم غير الإسلام. وهذه الآية نسخت آيات الموادعة والمعاهدة. وقد عمّت الآية جميع المشركين وعمّت البقاع إلا ما خصصته الأدلّة من الكتاب والسنة.

والأخذ: الأسر.

والحصر: المنع من دخول أرض الإسلام إلا بإذن من المسلمين.

والقعود مجاز في الثبات في المكان، والملازمةِ له، لأن القعود ثبوت شديد وطويل.

فمعنى القعود في الآية المرابطة في مظانّ تطرقّ العدوّ المشركين إلى بلاد الإسلام، وفي مظان وجود جيش العدوّ وعُدته.

والمرصد مكان الرَصْد. والرصْد: المراقبة وتتبع النظر.

و {كلّ} مستعملة في تعميم المراصد المظنون مرورهم بها، تحذيراً للمسلمين من إضاعتهم الحراسة في المراصد فيأتيهم العدوّ منها، أو من التفريط في بعض ممارّ العدوّ فينطلق الأعداء آمنين فيستخفّوا بالمسلمين ويتسامع جماعات المشركين أنّ المسلمين ليسوا بذوي بأس ولا يقظة، فيؤول معنى {كل} هنا إلى معنى الكثرة للتنبيه على الاجتهاد في استقصاء المراصد... {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم}

تفريع على الأفعال المتقدمة في قوله: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم}.

والتوبة عن الشرك هي الإيمان، أي فإن آمنوا إيماناً صادقاً، بأن أقاموا الصلاة الدالّةَ إقامتُها على أنّ صاحبها لم يكن كاذباً في إيمانه، وبأن آتوا الزكاة الدالَّ إيتاؤُها على أنّهم مؤمنون حقّاً، لأنّ بذل المال للمسلمين أمارة صدق النية فيما بُذل فيه فإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة شرط في كفّ القتال عنهم إذا آمنوا، وليس في هذا دلالة على أنّ الصلاة والزكاة جزء من الإيمان.

وحقيقة {خلوا سبيلهم} اتركوا طريقهم الذي يمرّون به، أي اتركوا لهم كلّ طريق أمرتم برصدهم فيه أي اتركوهم يسيرون مجتازين أو قَادمين عليكم، إذ لا بأس عليكم منهم في الحالتين، فإنّهم صاروا إخوانكم، كما قال في الآية الآتية {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} [التوبة: 11].

... وجملة: {إن الله غفور رحيم} تذييل أريد به حثّ المسلمين على عدم التعرّض بالسوء للذين يسلمون من المشركين، وعدمِ مؤاخذتهم لما فرط منهم، فالمعنى اغفروا لهم، لأنّ الله غفر لهم وهو غفور رحيم، أو اقتدوا بفعل الله إذ غفر لهم ما فَرَطَ منهم كما تعلمون فكونوا أنتم بتلك المثابة في الإغضاء عمّا مضى.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

ويلاحظ في هذه الآية أربعة أوامر صارمة صادرة في شأن المشركين «إيصاد الطرق بوجههم، محاصرتهم، أسرهم، ثمّ قتلهم». وظاهر النص أنّ الأُمور الأربعة ليست على نحو التخيير، بل ينبغي ملاحظة الظروف والمحيط والزمان والمكان والأشخاص، والعمل بما يناسب هذه الأمور وهذه الشدّة متناغمة ومتوائمّة مع منهج الإِسلام وخطته في إزالة الوثنية وقلعها من جذورها وهذه الشدّة والقوّة والصرامة لا تعني سدّ الطريق، طريق الرجوع نحو التوبة بوجههم، بل لهم أن يتوبوا إِلى رشدهم ويعودوا إِلى سبيل الحق، ولذلك فإنّ الآية عقبت بالقول: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة فخلّوا سَبيلَهُم). وفي هذه الحال، أي عند رجوعهم نحو الإِسلام، لن يكون هناك فرق بينهم وبين سائر المسلمين، وسيكونون سواءً وإياهم في الحقوق والأحكام. (فإنّ الله غفور رحيم) يتوب على عباده المنيبين إليه.