تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ وَخُذُوهُمۡ وَٱحۡصُرُوهُمۡ وَٱقۡعُدُواْ لَهُمۡ كُلَّ مَرۡصَدٖۚ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (5)

وقوله تعالى : ( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ )قال بعضهم : الأشهر الحرم هي أشهر العهد والأمان . فإذا انسلخت تلك الأشهر ، ومضت( فاقتلوا المشركين )( حيث وجدتموهم ) .

وقال بعضهم : الأشهر الحرم هي الأشهر التي خلقها الله ، وجعلها حراما ، كقوله : ( إن عدة الأشهر عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم/207-أ/ خلق السموات والأرض منها أربعة حرم )[ التوبة : 36 ] .

وقوله تعالى : ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ ) قال بعضهم حيث وجدتموهم في الأماكن كلها ؛ لأن حيث إنما يترجم عن مكان ؛ أمر بقتلهم في الأماكن كلها لأنه لم يخص مكانا دون مكان . وقال آخرون : هو في الأماكن كلها إلا مكان الحرم . دليله ما ذكر في السورة التي فيها البقرة ، وهو قوله : ( واقتلوهم حيث ثقفتموهم ) وقوله[ في الأصل وم : وقال ] : ( ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام )[ الآية : 191 ] أمرهم بقتالهم في الأماكن كلها إلا المسجد الحرام . وأمكن أن يكون أنهم يقتلون [ عدوهم ][ ساقطة من الأصل وم ] إلا أن يدخلوا [ المسجد ][ ساقطة من الأصل وم ] الحرام ، وقد نهوا عن الدخول فيه[ في الأصل و م : فيها ] والحج هنالك على ما روي أن عليا نادى بالموسم : «ألا لا يحجن بعد العام مشرك »[ البخاري : 369 ] فإذا دخلوا يقتلون ، ويكون دخولهم فيه بعد النهي كابتداء مقاتلهم إيانا .

فإذا قاتلونا عند [ المسجد الحرام قاتلناهم ] كقوله : ( ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم )[ البقرة : 191 ] والله أعلم .

وقوله تعالى : ( وخذوهم ) قيل : سروهم ، وقوله : ( واحصروهم ) قيل : واحبسوهم ( واقعدوا لهم كل مرصد ) والمرصد الطريق ؛ كأنه أمر بقوله : ( فاقتلوا المشركين ) بقتلهم إذا قدروا عليهم ، وأمكن لهم ذلك ، والأمر [ عند ][ من م ، ساقطة من الأصل ] الإمكان والحبس إذا دخلوا الحصن ، وحفظ المراصد عند غير الإمكان لئلا يفروا . ويقال : أرصدت له أي انتظرت حتى[ في الأصل وم : يحل ] أجد فرصتي . ويقال : ترصدته أي انتظرته .

وقال بعضهم : ( كل مرصد ) أي كل طريق يرصدونكم . كأنه أمر بذلك ليضيق عليهم الأمر ، ليضجروا ، ويتفادوا . وفيه دليل النهي عما يحمل إلى دار الحرب من أنواع الثياب والأمتعة وما ينتفعون به ؛ لأنه أمر بالحصر و حفظ الطرق والمراصد ليضيق عليهم الأمر فيشتد فيتفادوا ، وفيما يحملون توسيع عليهم .

وقوله تعالى : ( وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ) يحتمل أن يكون قوله ( وخذوهم واحصروهم ) أي أقيموا عليهم الحجج والبراهين ليضطروا إلى قبول ذلك . فإذا أنفذوا لكم ، وإلا فاقتلوهم ( حيث وجدتموهم ) .

وقوله تعالى : ( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ) فوجب بظاهر الآية أن نقاتل من آمن ، ولم يقم الصلاة ، ولم يؤتي الزكاة ؛ لأن الله تعالى إنما رفع القتل عنهم بالإيمان وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة . فإذا لم يأتوا بذلك فالقتل واجب عليهم .

وكذلك [ فعل أبو ][ في الأصل : فعل أبي ] بكر الصديق لما ارتدت العرب ، ومنعتهم الزكاة ؛ حاربهم حتى أذعنوا بأدائها إليه . روي عن أنس [ أنه ][ ساقطة من الأصل وم ] قال : لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب كافة ، فقال عمر : يا أبا بكر تريد أن تقاتل العرب كافة ، فقال أبو بكر : إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ، وأقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة منعوا من دمائهم وأموالهم . والله لو منعوني عقالا كانوا يعطون رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم عليه . قال عمر : فلما رأيت أبا بكر قد شرح عرفت أنه الحق .

وفي بعض الأخبار [ أنهم ][ ساقطة من الأصل وم ] قالوا : نشهد أن لا إله إلا الله ، ونصلي ولكن لا نزكي ، فمشى عمر والبدريون إلى أبي بكر ، فقالوا : دعهم فإنهم إذا استقر الإسلام في قلوبهم ، وثبت أدوا . فقال : والله لو منعوني عقالا مما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلتهم عليه . [ وقالوا : قاتل ][ في الأصل وم : قيل أو قاتل ] رسول الله على ثلاث : شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وقال الله : ( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ) والله [ لا ][ من م ، ساقطة من الأصل ] أسأل فوقهن ولا أقصر دونهن ، فقالوا : إنا نزكي ولكن لا نرفعها ، فقال : والله حتى آخذها كما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأضعها مواضعها .

وقال آخرون : قوله : ( فإن تابو ا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ) في قبولهما[ من م ، في الأصل : قبولها ] والاعتقاد بهما دون فعلهما لما لا يحتمل حبسهم ومنعهم إلا أن يحول الحول ، فيأخذوا بأداء الزكاة . دل على أنه القبول والإقرار بذلك ، واستدلوا لما روي في بعض الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ أنه ][ ساقطة من الأصل وم ] قال : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، و إني رسول الله ، فإذا قالوا ذلك عصموا مني كذا » . وفي بعضها : «حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، وإني رسول الله ، وأقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وإذا فعلوا ذلك منعوا كذا »[ مسلم : 21 ] .

دل ما ذكرنا من الزيادات والنقصان أن ذلك في قوم مختلفين وأنه على القبول لذلك والاعتقاد ، لا على الفعل بنفسه . فمن كان لا يقر بشيء من ذلك ، فإذا قال : لا إله إلا الله ، كان ذلك منه إيمانا في الظاهر . ومن كان يقول : لا إله إلا الله ، ولا يقول : محمد رسول الله ؛ فإذا قال ذلك [ كان ذلك ][ من م ، ساقطة من الأصل ] منه إيمانا . ومن كان يقر بهذين ، ولا يقر بالصلاة والزكاة ، فإذا أقر بذلك كان ذلك منه إيمانا ، فهو على الإقرار به والاعتقاد ، لا على الفعل .

ألا ترى أن للأئمة أن يأخذوا منهم الزكاة ؛ شاؤوا ، أو أبوا ؟ فلو كان الأداء من شرط الإيمان لكانوا غير مؤمنين بأخذ هؤلاء .

واختلف الصحابة والروايات في الحج الأكبر ؛ روي عن عبد الله بن الزبير [ أنه قال ][ ساقطة من الأصل وم ] قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة : «هل تدرون أي يوم هذا ؟ قالوا نعم ، اليوم الحرام ، يوم الحج الأكبر ، قال : فإن الله قد حرم دماءكم و أموالكم عليكم إلى يوم القيامة كحرمة يومكم هذا »[ ابن ماجه : 3057 ] .

وعن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن الحج الأكبر ، فقال : يوم عرفة . وعنه أنه وقف عليهم يوم عرفة فقال : إن هذا يوم الحج الأكبر ، فلا يصومنه أحد . وعن ابن الزبير [ أنه كان ][ ساقطة من الأصل وم ] يقول : يوم عرفة هذا يوم الحج الأكبر .

وفي بعض الأخبار عنه صلى الله عليه وسلم أنه خطب على ناقة حمراء يوم النحر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أتدرون أي يوم هذا ؟ هذا يوم النحر ، وهذا يوم الحج الأكبر » .

وفي بعض الأخبار عن ابن عمر [ أنه ][ ساقطة من الأصل وم ] قال : رأيت ، أو قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم النحر عند المحراب في حجة الوداع : «أي يوم هذا ؟ قالوا هذا يوم النحر . قال[ من م ، في الأصل : قالوا ] فأي بلد هذا ؟ قالوا هذا بلد حرام ، قال : فأي شهر هذا ؟ قالوا : هذا شهر حرام . قال : هذا يوم الحج الأكبر ؛ فدماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة هذا البلد في هذا اليوم ، ثم قال : هل بلغت ؟ »[ مسلم1679/30 ] .

وعن الحارث [ أنه ][ ساقطة من الأصل وم ] قال : سألت عليا عن الحج الأكبر ، فقال : يوم النحر ، وعن المغيرة بن شعبة أنه خطب يوم العيد ، فقال : هذا يوم النحر ، ويوم الأضحى ويوم الحج الأكبر ، وعن العباس رضي الله عنهما [ أنه ][ ساقطة من الأصل وم ] الحج الأكبر يوم النحر .

وفيه قول ثالث : ما روي أنه كان في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه لعمرو بن حزم : والحج الأصغر العمرة . وعن ابن عباس [ أنه ][ ساقطة من الأصل وم ] قال : العمرة الحجة الصغرى ، وسئل عبد الله بن شداد عن الحج الأكبر فقال : الحج الأكبر يوم النحر والأصغر العمرة .

فأما حديث عمرو بن حزم فهو حكاية عن كتاب ، وليس فيه بيان عن يوم الحج الأكبر إنما يذكر فيه الحج الأصغر . ولولا خبر علي وابن عمر لجاز أن يقال : يوم عرفة هو يوم الحج الأكبر لأنه يقضى فيه فرض الحج ؛ وهو الوقوف . ومن فاته ذلك فقد فاته الحج ، وجاز أن يقال : هو يوم النحر ؛ لأن فيه يقضى طواف الزيادة وهو فرض يقتضى فيه أكبر مناسك الحج ، بل هو يوم النحر أولى أن يكون يوم الحج الأكبر ؛ لأن الحاج يفعل في يوم عرفة فرضا من فرائض الحج وهو الوقوف ، ويقتضى في يوم النحر فرض[ في الأصل وم : فرضا ] آخر من فرائضه ، وهو طواف الزيادة ويقتضى مع ذلك أكبر مناسك الحج . فقد استوى هذان اليومان في أنه يقتضى في كل /207-ب/ واحد منهما فرض من فرائض الحج ، وزاد يوم النحر على يوم عرفة بما يفعل في يوم النحر من مناسك الحج ولا يفعل في يوم عرفة شيء[ في الأصل وم : شيئا ] من النسك إلا الوقوف بعرفة .

واحتج بعض الناس بفريضة العمرة بما رواه عمرو ابن حزم أن الحج الأصغر هو العمرة ، والحج الأكبر هو الحج لما[ في الأصل : بما ، في م : إنما ] سميت العمرة حجا ، وقد ذكرنا الوجه في ذلك في ما تقدم .

وعن علي وأبي هريرة وابن أبي أوفى رضي الله عنهم أنهم قالوا : الحجة الكبرى يوم النحر ، وعن عمر وابن عباس أنهما قالا : يوم عرفة .