{ وأتموا الحج والعمرة لله } أي ائتوا بهما تامين مستجمعي المناسك لوجه الله تعالى ، وهو على هذا يدل على وجوبهما ويؤيده قراءة من قرأ { وأقيموا الحج والعمرة لله } ، وما روى جابر رضي الله تعالى عنه " أنه قيل يارسول الله العمرة واجبة مثل الحج ، فقال : لا ولكن إن تعتمر خير لك " فمعارض بما روي " أن رجلا قال لعمر رضي الله تعالى عنه ، إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي أهللت بهما جميعا ، فقال : هديت لسنة نبيك " ولا يقال إنه فسر وجد أنهما مكتوبين بقوله أهللت بهما فجاز أن يكون الوجوب بسبب إهلاله بهما ، لأنه رتب الإهلال على الوجدان وذلك يدل على أنه سبب الإهلال دون العكس . وقيل إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك ، أو أن تفرد لكل منهما سفرا ، أو أن تجرده لهما لا تشوبهما بغرض دنيوي ، أو أن تكون النفقة حلالا . { فإن أحصرتم } منعتم ، يقال حصره العدو وأحصره إذا حبسه ومنعه عن المضي ، مثل صده وأصده ، والمراد حصر العدو عند مالك والشافعي رحمهما الله تعالى لقوله تعالى : { فإذا أمنتم } ولنزوله في الحديبية ، ولقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لا حصر إلا حصر العدو وكل منع من عدو أو مرض أو غيرهما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ، لما روي عنه عليه الصلاة والسلام " من كسر أو عرج فقد حل فعليه الحج من قابل " وهو ضعيف مؤول بما إذا شرط الإحلال به لقوله عليه الصلاة والسلام لضباعة بنت الزبير " حجي واشترطي وقولي : اللهم محلي حيث حبستني " { فما استيسر من الهدي } فعليكم ما استيسر ، أو فالواجب ما استيسر . أو فاهدوا ما استيسر . والمعنى إن أحصر المحرم وأراد أن يتحلل تحلل يذبح هدي تيسر عليه ، من بدنة أو بقرة أو شاة حيث أحصر عند الأكثر . لأنه عليه الصلاة والسلام ذبح عام الحديبية بها وهي من الحل ، وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يبعث به ، ويجعل للمبعوث على يده يوم أمار فإذا جاء اليوم وظن أنه ذبح تحلل لقوله تعالى : { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } أي لا تحلوا حتى تعلموا أن الهدي المبعوث إلى الحرم بلغ محله أي مكانه الذي يجب أن ينحر فيه ، وحمل الأولون بلوغ الهدي محله على ذبحه حيث يحل الذبح فيه حلا كان أو حرما ، واقتصاره على الهدي دليل على عدم القضاء . وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى يجب القضاء ، والمحل –بالكسر- يطلق على عدم القضاء . وقال أبو حنيفة رحمة الله تعالى يجب القضاء ، والمحل –بالكسر- يطلق على المكان والزمان . والهدي : جمع هدية كجدي وجدية ، وقرئ { من الهدى } جمع هدية كمطى في مطية { فمن كان منكم مريضا } مرضا يحوجه إلى الحلق . { أو به أذى من رأسه } كجراحة وقمل . { ففدية } فعليه فدية إن حلق . { من صيام أو صدقة أو نسك } بيان لجنس الفدية ، وأما قدرها فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام قال لكعب بن عجرة " لعلك آذاك هوامك ، قال : نعم يا رسول الله قال : احلق وصم ثلاثة أيام أو تصدق بفرق على ستة مساكين أو انسك شاة " والفرق ثلاثة آصع { فإذا أمنتم } الإحصار . أو كنتم في حال سعة وأمن . { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } فمن استمتع وانتفع بالتقرب إلى الله بالعمرة قبل الانتفاع بتقربه بالحج في أشهره . وقيل : فمن استمتع بعد التحلل من عمرته باستباحة محظورات الإحرام إلى أن يحرم بالحج . { فما استيسر من الهدي } فعليه دم استيسره بسبب التمتع ، فهو دم جبر أن يذبحه إذا أحرم بالحج ولا يأكل منه . وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى ، إنه ندم نسك فهو كالأضحية { فمن لم يجد } أي الهدي . { فصيام ثلاثة أيام في الحج } في أيام الاشتغال به بعد الإحرام وقبل التحلل . قال أبو حنيفة رحمه الله في أشهره بين الإحرامين ، والأحب أن يصوم سابع ذي الحجة وثامنه وتاسعه . ولا يجوز صوم يوم النحر وأيام التشريق عند الأكثرين . { وسبعة إذا رجعتم } إلى أهليكم وهو أحد قولي الشافعي رضي الله تعالى عنه ، أو نفرتم وفرغتم من أعماله وهو قوله الثاني ومذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى . وقرئ { سبعة } بالنصب عطفا على محل { ثلاثة أيام } . { تلك عشرة } فذلكة الحساب ، وفائدتها أن لا يتوهم متوهم أن الواو بمعنى أو ، كقولك جالس الحسن وابن سيرين . وأن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلا فإن أكثر العرب لم يحسنوا الحساب ، وأن المراد بالسبعة هو العدد دون الكثرة فإنه يطلق لهما { كاملة } صفة مؤكدة تفيد المبالغة في محافظة العدد ، أو مبينة كمال العشرة فإنه أول عدد كامل إذ به تنتهي الآحاد وتتم مراتبها ، أو مقيدة تقيد كمال بدليتها من الهدي . { ذلك } إشارة إلى الحكم المذكور عندنا . والتمتع عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنه لا متعة ولا قرآن لحاضري المسجد الحرام عنده ، فمن فعل ذلك أي التمتع منهم فعليه دم جناية . { لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } وهو من كان من الحرم على مسافة القصر عندنا ، فإن من كان على أقل فهو مقيم في الحرم ، أو في حكمه . ومن مسكنه وراء الميقات عنده وأهل الحل عند طاوس وغير المكي عند مالك . { واتقوا الله } في المحافظة على أوامره ونواهيه وخصوصا في الحج { واعلموا أن الله شديد العقاب } لمن لم يتقه كي يصدكم للعلم به عن العصيان .
هذا عود إلى الكلام على العمرة فهو عطف على قوله : { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها } الخ [ البقرة : 189 ] وما بينهما استطراد أو اعتراض ، على أن عطف الأحكام بعضها على بعض للمناسبة طريقة قرآنية فلك أن تجعل هذه الجملة عطفاً على التي قبلها عطف قصة على قصة .
ولا خلاف في أنّ هذه الآية نزلت في الحديبية سنة ست حين صد المشركون المسلمين عن البيت كما سيأتي في حديث كعب بن عجرة ، وقد كانوا ناوين العمرة وذلك قبل أن يفرض الحج ، فالمقصود من الكلام هو العمرة ؛ وإنما ذكر الحج على وجه الإدماج تبشيراً بأنهم سيتمكنون من الحج فيما بعد ، وهذا من معجزات القرآن .
والإتمام إكمال الشيء والإتيان على بقايا ما بقي منه حتى يستوعب جميعه .
ومثل هذا الأمر المتعلق بوصف فعل يقع في كلامهم على وجهين : أحدهما وهو الأكثر أن يكون المطلوب تحصيل وصف خاص للفعل المتعلق به الوصف كالإتمام في قوله تعالى : { وأتموا الحج } أي كملوه إن شرعتم فيه ، وكذا قوله تعالى : { ثم أتموا الصيام إلى الليل } [ البقرة : 187 ] على ما اخترناه وقوله تعالى : { فأتموا إليهم عهدهم } [ التوبة : 4 ] ومثله أن تقول : أسرع السير للذي يسير سيراً بطيئاً ، وثانيهما أن يجيء الأمر بوصف الفعل مراداً به تحصيل الفعل من أول وهلة على تلك الصفة نظير قوله تعالى : { ولأتم نعمتي عليكم } [ البقرة : 150 ] ، وذلك كقولك : أسرع السير فادع لي فلاناً تخاطب به مخاطباً لم يشرع في السير بعد ، فأنت تأمره بإحداث سير سريع من أول وهلة ، ونظيره قولهم : « وَسِّع فمَ الركِية ، وقولهم : وسع كم الجُبة وضيق جيبها » أي أوجدها كذلك من أول الأمر ، وهذا ضرب من ضروب التعبير ليس بكناية ولا مجاز ، ولكنه أمر بمجموع شيئين وهو أقل ؛ لأن الشأن أن يكون المطلوب بصيغة الأمر ابتداء هو الحدث الذي منه مادة تلك الصيغة .
والآية تحتمل الاستعمالين ، فإن كان الأول فهي أمر بإكمال الحج والعمرة ، بمعنى ألا يكون حجاً وعمرة مشوبين بشغب وفتنة واضطراب أو هي أمر بإكمالهما وعدم الرجوع عنهما بعد الإهلال بهما ولا يصدهم عنهما شنآن العدو ، وإن كان الثاني فهي أمر بالإتيان بهما تامين أي مستكملين ما شرع فيهما .
والمعنى الأول أظهر وأنسب بالآيات التي قبلها ، وكأنَّ هذا التحريض مشير إلى أن المقصود الأهم من الحج والعمرة هنا هما الصَّرورة في الحج وكذا في العمرة على القول بوجوبها .
واللام في ( الحج والعمرة ) لتعريف الجنس ، وهما عبادتان مشهورتان عند المخاطبين متميزتان عن بقية الأجناس ، فالحج هو زيارة الكعبة في موسم معين في وقت واحد ، للجماعة وفيه وقوف عرفة ، والعمرة زيارة الكعبة في غير موسم معين وهي لكل فرد بخصوصه .
وأصل الحج في اللغة بفتح الحاء وكسرها تكرر القصد إلى الشيء أو كثرة قاصديه . وعن ابن السكيت : الحج كثرة الاختلاف والتردد يقال حج بنو فلان فلاناً أطالوا الاختلاف إليه وفي « الأساس » : فلان تحجه الرفاق أي تقصده اهـ . فجعله مفيداً بقصد من جماعة كقول المخبل السعدي واسمه الربيع :
وأَشْهَدُ من عَوْفٍ حُلولاً كثِيرةً *** يَحُجُّون سِبَّ الزّبْرَقَانِ المزعفرا
والحج من أشهر العبادات عند العرب وهو مما ورثوه عن شريعة إبراهيم عليه السلام كما حكى الله ذلك بقوله : { وأذن في الناس بالحج } [ الحج : 27 ] الآية حتى قيل : إن العرب هم أقدم أمة عرفت عندها عادة الحج ، وهم يعتقدون أن زيارة الكعبة سعي لله تعالى قال النابغة يصف الحجيج ورواحلهم :
عَلَيْهِنَّ شُعْثٌ عامدونَ لرَبِّهمِ *** فهن كأطراف الحَنيِّ خَوَاشِع
وكانوا يتجردون عند الإحرام من مخيط الثياب ولا يمسون الطيب ولا يقربون النساء ولا يصطادون ، وكان الحج طوافاً بالبيت وسعياً بين الصفا والمروة ووقوفاً بعرفة ونحراً بمنى . وربما كان بعض العرب لا يأكل مدة الحج أقطاً ولا سمناً أي لأنه أكل المترفهين ولا يستظل بسقف ، ومنهم من يحج متجرداً من الثياب ، ومنهم من لا يستظل من الشمس ، ومنهم من يحج صامتاً لا يتكلم ، ولا يشربون الخمر في أشهر الحج ، ولهم في الحج مناسك وأحكام ذكرناها في « تاريخ العرب » .
وكان للأمم المعاصرة للعرب حجوج كثيرة ، وأشهر الأمم في ذلك اليهود فقد كانوا يحجون إلى الموضع الذي فيه تابوت العهد أي إلى هيكل ( أورشليم ) وهو المسجد الأقصى ثلاث مرات في السنة ليذبحوا هناك فإن القرابين لا تصح إلاّ هناك ومن هذه المرات مرة في عيد الفصح .
واتخذت النصارى زيارات كثيرة ، حجاً ، أشهرها زياراتهم لمنازل ولادة عيسى عليه السلام وزيارة ( أورشليم ) ، وكذا زيارة قبر ( ماربولس ) وقبر ( ماربطرْس ) برومة ، ومن حج النصارى الذي لا يعرفه كثير من الناس وهو أقدم حجهم أنهم كانوا قبل الإسلام يحجون إلى مدينة ( عسقلان ) من بلاد السواحل الشامية ، والمظنون أن الذين ابتدعوا حجها هم نصارى الشام من الغساسنة لقصد صرف الناس عن زيارة الكعبة وقد ذكره سحيم عبدُ بني الحسحاس وهو من المخضرمين في قوله يصف وحوشاً جرفها السيل :
كأَنَّ الوُحُوشَ به عَسقَلاَ *** نُ صادفْنَ في قَرْن حَجِّ ذِيَافا
أي أصابهن سم فقتلهن وقد ذكر ذلك أئمة اللغة .
وقد كان للمصريين والكلدان حج إلى البلدان المقدسة عندهم ، ولليونان زيارات كثيرة لمواقع مقدسة مثل أولمبيا وهيكل ( زفس ) وللهنود حجوج كثيرة .
والمقصود من هذه الآية إتمام العمرة التي خرجوا لقضائها ، وذِكْر الحج معها إدماج ، لأن الحج لم يكن قد وجب يومئذٍ ، إذ كان الحج بيد المشركين ففي ذكره بشارة بأنه يوشك أن يصير في قبضة المسلمين .
وأما العمرة فهي مشتقة من التعمير وهو شغل المكان ضد الإخلاء ولكنها بهذا الوزن لا تطلق إلاّ على زيارة الكعبة في غير أشهر الحج ، وهي معروفة عند العرب وكانوا يجعلون ميقاتها ما عدا أشهر ذي الحجة والمحرم وصفر ، فكانوا يقولون " إذا برىء الدبر ، وعفا الأثر ، وخرج صفر ، حلت العمرة لمن اعتمر " ولعلهم جعلوا ذلك لتكون العمرة بعد الرجوع من الحج وإراحة الرواحل .
واصطلح المضَريُّون على جعل رجب هو شهر العمرة ولذلك حرمته مضر فلقب برجب مضر ، وتبعهم بقية العرب ، ليكون المسافر للعمرة آمناً من عدوه ؛ ولذلك لقبوا رجباً ( منصل الأسنة ) ويرون العمرة في أشهر الحج فجوراً .
وقوله { لله } أي لأجل الله وعبادته والعرب من عهد الجاهلية لا ينوون الحج إلاّ لله ولا العمرة إلاّ له ، لأن الكعبة بيت الله وحرمه ، فالتقييد هنا بقوله { لله } تلويح إلى أن الحج والعمرة ليسا لأجل المشركين وإن كان لهم فيهما منفعة وكانوا هم سدنة الحرم ، وهم الذين منعوا المسلمين منه ، كي لا يسأم المسلمون من الحج الذي لاقوا فيه أذى المشركين ، فقيل لهم إن ذلك لا يصد عن الرغبة في الحج والعمرة لأنكم إنما تحجون لله لا لأجل المشركين ولأن الشيء الصالح المرغوب فيه إذا حف به ما يكدره لا ينبغي أن يكون ذلك صارفاً عنه ، بل يجب إزالة ذلك العارض عنه ، ومن طرق إزالته القتال المشار إليه بالآيات السابقة .
ويجوز أن يكون التقييد بقوله : { لله } لتجريد النية مما كان يخامر نوايا الناس في الجاهلية من التقرب إلى الأصنام ، فإن المشركين لما وضعوا هبلاً على الكعبة ووضعوا إسافاً ونائلة على الصفا والمروة قد أشركوا بطوافهم وسعيهم الأصنام مع الله تعالى . وقد يكون القصد من هذا التقييد كلتا الفائدتين .
وليس في الآية حجة عند مالك وأبي حنيفة رحمهما الله على وجوب الحج ولا العمرة ولكن دليل حكم الحج والعمرة عندهما غير هذه الآية ، وعليه فمجمل الآية عندهما على وجوب هاتين العبادتين لمن أحرم لهما ، فأما مالك فقد عدهما من العبادات التي تجب بالشروع فيها وهي سبع عبادات عندنا هي الصلاة ، والصيام ، والاعتكاف ، والحج ، والعمرة ، والطواف ، والائتمام ، وأما أبو حنيفة فقد أوجب النوافل كلها بالشروع .
ومن لم ير وجوب النوافل بالشروع ولم ير العمرة واجبة يجعل حكم إتمامها كحكم أصْل الشروع فيها ويكون الأمر بالإتمام في الآية مستعملاً في القدر المشترك من الطلب اعتماداً على القرائن ، ومن هؤلاء من قرأ ، ( والعمرةُ ) بالرفع حتى لا تكون فيما شمله الأمر بالإتمام بناء على أن الأمر للوجوب فيختص بالحج .
وجعلها الشافعية دليلاً على وجوب العمرة كالحج ، ووجه الاستدلال له أن الله أمر بإتمامها فإما أن يكون الأمر بالإتمام مراداً به الإتيان بهما تامين أي مستجمعي الشرائط والأركان ، فالمراد بالإتمام المعنى الشرعي على أحد الاستعمالين السابقين ، قالوا : إذ ليس هنا كلام على الشروع حتى يؤمر بالإتمام ، ولأنه معضود بقراءة « وأقيموا الحج » وإما أن يكون المراد بالإتمام هنا الإتيان على آخر العبادة فهو يستلزم الأمر بالشروع ، لأن الإتمام يتوقف على الشروع ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فيكون الأمر بالإتمام كناية عن الأمر بالفعل .
والحق أن حمل الأمر في ذلك بأصل الماهية لا بصفتها استعمال قليل كما عرفت ، وقراءة : « وأقيموا » لشذوذها لا تكون داعياً للتأويل ، ولا تتنزل منزلة خبر الآحاد ، إذا لم يصح سندها إلى من نسبت إليه وأما على الاحتمال الأول فلأن التكني بالإتمام عن إيجاب الفعل مصير إلى خلال الظاهر مع أن اللفظ صالح للحمل على الظاهر ؛ بأن يدل على معنى : إذا شرعتم فأتموا الحج والعمرة ، فيكون من دلالة الاقتضاء ويكون حقيقة وإيجازاً بديعاً ، وهو الذي يؤذن به السياق كما قدمنا ، لأنهم كانوا نووا العمرة ، على أن شأن إيجاب الوسيلة بإيجاب المتوسل إليه أن يكون المنصوص على وجوبه هو المقصد فكيف يدعي الشافعية أن { أتموا } هنا مراد منه إيجاب الشروع ، لأن ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب كما أشار له العصام .
فالحق أن الآية ليست دليلاً لحكم العمرة . وقد اختلف العلماء في حكمها : فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنها سنة قال مالك : لا أعلم أحداً رخص في تركها وهذا هو مذهب جابر ابن عبد الله وابن مسعود من الصحابة والنخعي من التابعين .
وذهب الشافعي وأحمد وابن الجهم من المالكية إلى وجوبهما ، وبه قال عمر وابن عمر وابن عباس من الصحابة وعطاء ، وطاووس ، ومجاهد ، والحسن ، وابن سيرين ، والشعبي وسعيد بن جبير ، وأبو بردة ، ومسروق ، وإسحاق بن راهويه .
ودليلنا حديث جابر بن عبد الله ، " قيل : يا رسول الله العمرة واجبة مثل الحج فقال : لا ، وأن تعتمروا فهو أفضل " أخرجه الترمذي ، لأن عبادة مثل هذه لو كانت واجبة لأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم ولا يثبت وجوبها بتلفيقات ضعيفة ، وقد روي عن ابن مسعود أنه كان يقول : لولا التحرج وأني لم أسمع من رسول الله في ذلك شيئاً لقلت : العمرة واجبة اه محل الاحتجاج قوله : لم أسمع الخ ، ولأن الله تعالى قال : { ولله على الناس حج البيت } [ آل عمران : 97 ] ولم يذكر العمرة ، ولأنه لا يكون عبادتان واجبتان هما من نوع واحد . ولأن شأن العبادة الواجبة أن تكون مؤقتة .
واحتج أصحابنا أيضاً بحديث : " بني الإسلام على خمس " وحديث جبريل في الإيمان والإسلام ولم يذكر فيهما العمرة ، وحديث الأعرابي الذي قال :
" لا أزيد ولا أنقص : فقال : أفلح إن صدق " ولم يذكر العمرة ولم يحتج الشافعية بأكثر من هذه الآية ، إذ قرنت فيها مع الحج ، وبقول بعض الصحابة وبالإحتياط .
واحتج عمر بن الخطاب بهذه الآية على منع التمتع وهو الإحرام بعمرة ثم الحل منها في مدة الحج ثم الحج في عامه ذلك قبل الرجوع إلى بلده ، ففي البخاري أخرج حديث أبي موسى الأشعري قال : " بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوم باليمن فجئتُ وهو بالبطحاء ( عام حجة الوداع ) فقال : بم أهللت ؟ فقلت : أهللت كإهلال النبي قال : أحسنت هل معك من هدى قلت : لا ، فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ثم أمرني فأحللت فأتيت امرأة من قومي فمشطتني أو غسلت رأسي ، ثم أهللت بالحج فكنت أفتي الناس به حتى خلافة عمر فذكرته له فقال : أن نأخذ بكتاب الله ، فإنه يأمرنا بالتمام ، قال تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } وأن نأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يحل حتى بلغ الهدي محله " يريد عمر والله أعلم أن أبا موسى أهل بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم والنبي كان مهلاً بحجة وعمرة معاً فهو قارن والقارن متلبس بحج ، فلا يجوز أن يحل في أثناء حجه وتمسك بفعل الرسول عليه السلام أنه كان قارناً ولمن يحل ، وهذا مبني على عدم تخصيص المتواتر بالآحاد كما هو قوله في حديث فاطمة ابنة قيس في النفقة .
وقوله : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى } عطف على { أتموا } ، والفاء للتفريع الذكري فإنه لما أمر بإتمام الحج والعمرة ذكر حكم ما يمنع من ذلك الإتمام .
ولا سيما الحج ؛ لأن وقته يفوت غالباً بعد ارتفاع المانع ، بخلاف العمرة . والإحصار في كلام العرب منع الذات من فعل ما ، يقال : أحصره منعه مانع قال تعالى : { للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله } [ البقرة : 273 ] أي منعهم الفقر من السفر للجهاد وقال ابن ميادة :
وما هَجرُ ليلى أَن تكون تباعدتْ *** عليك ولا أنْ أحْصَرَتْكَ شغول
وهو فعل مهموز لم تكسبه همزته تعدية ، لأنه مرادف حصره ونظيرهما صده وأصده . هذا قول المحققين من أئمة اللغة ، ولكن كثر استعمال أحصر المهموز في المنع الحاصل من غير العدو ، وكثر استعمال حصر المجرد في المنع من العدو ، قال : { وخذوهم واحصروهم } [ التوبة : 5 ] فهو حقيقة في المعنيين ولكن الاستعمال غلب أحدهما في أحدهما كما قال الزمخشري في « الكشاف » ، ومن اللغويين من قال : أحصر حقيقة في منع غير العدو وحصر حقيقة في منع العدو وهو قول الكسائي وأبي عبيدة والزجاج ، ومن اللغويين من عكس وهو ابن فارس لكنه شاذ جداً .
وجاء الشرط بحرف ( إن ) لأن مضمون الشرط كريه لهم فألقى إليهم الكلام إلقاء الخبر الذي يشك في وقوعه ، والمقصود إشعارهم بأن المشركين سيمنعونهم من العمرة .
وقد اختلف الفقهاء في المراد من الإحصار في هذه الآية على نحو الاختلاف في الوضع أو في الاستعمال والأظهر عندي أن الإحصار هنا أطلق على ما يعم المنع من عدو أو من غيره بقرينة قوله تعالى عقبه : { فإذا أمنتم } فإنه ظاهر قوي في أن المراد منه الأمن من خوف العدو ، وأن هذا التعميم فيه قضاء حق الإيجاز في جمع أحكام الإحصار ثم تفريقها كما سأبينه عند قوله تعالى : { فإذا أمنتم } ، وكأنَّ هذا هو الذي يراه مالك رحمه الله ، ولذلك لم يحتج في « الموطأ » على حكم الإحصار بغير عدو بهذه الآية ، وإنما احتج بالسنة . وقال جمهور أصحابه أريد بها المنع الحاصل من مرض ونحوه دون منع العدو ، بناء على أن إطلاق الإحصار على هذا المنع هو الأكثر في اللغة . ولأن هذه الآية جعلت على المُحْصَر هدياً ولم ترد السنة بمشروعية الهدي فيمن حصره العدو أي مشروعية الهدي لأجل الإحصار أما من ساق معه الهدي فعليه نسكه لا لأجل الإحصار ، ولذلك قال مالك بوجوب الهدي على من أحصر بمرض أو نفاس أو كَسْر من كل ما يمنعه أن يقف الموقف مع الناس مع وجوب الطواف والسعي عند زوال المانع ووجوب القضاء من قابل لما في « الموطأ » من حديث معبد بن حزابة المخزومي أنه صرع ببعض طريق مكة وهو محرم فسأل ابنَ عمر وابنَ الزبير ومروانَ بنَ الحَكَم فكلهم أمره أن يتداوى ويفتدي ، فإذا أصح اعتمر ، فحل من إحرامه ثم عليه حج قابل ، وأن عمر بن الخطاب أمر بذلك أبا أيوب وهَبَّار بن الأسود حين فاتهما وقوف عرفة ، بخلاف حصار العدو ، واحتج في « الموطأ » بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحداً من أصحابه ولا من كان معه أن يقضوا شيئاً ولا أن يعودوا لشيء ، ووجَّه أصحابنا ذلك بالتفرقة ؛ لأن المانع في المرض ونحوه من ذات الحاج ؛ فلذلك كان مطالبَاً بالإتمام ، وأما في إحصار العدو فالمانع خارجي ، والأظهر في الاستدلال أن الآية وإن صلحت لكل منع لكنها في منع غير العدو أظهر وقد تأيدت أظهريتها بالسنة .
وقال الشافعي : لا قضاء فيهما وهو ظاهر الآية للاقتصار على الهدي وهو اقتصار على مفهوم الآية ومخالفة ما ثبت بالسنة ، وقال أبو حنيفة : كل منع من عدُو أو مرض فيه وجوب القضاء والهدي ولا يجب عليه طواف ولا سَعْي بعد زوال عذره بل إن نحر هديه حل والقضاء عليه . ولا يلزمه ما يقتضيه حديث الحديبية ؛ لأن الآية إن كانت نزلت بعده فعمومها نسخ خصوص الحديث ، وإن نزلت قبله فهو آحاد لا يخصص القرآن عنده ، على أن حديث الحديبية متواتر ؛ لأن الذين شهدوا النبي صلى الله عليه وسلم يومئذٍ يزيدون على عدد التواتر ، ولم ينقل عنهم ذلك مع أنه مما تتوافر الدواعي على نقله .
وقال الشافعي : المراد هنا منع العدو بقرينة قوله { فإذا أمنتم } ولأنها نزلت في عام الحديبية وهو إحصار عدوّ ؛ ولذلك أوجب الهدي على المحصر أما محصر العدوّ فبنصّ الآية ، وأما غيره فبالقياس عليه . وعليه : إن زال عذره فعليه الطواف بالبيت والسعي ، ولم يقل بوجوب القضاء عليه ؛ إذ ليس في الآية ولا في الحديث .
وقوله : { فما استيسر من الهدى } جواب الشرط وهو مشتمل على أحد ركني الإسناد وهو المسند إليه دون المسند فلا بد من تقدير دل عليه قوله : { من الهدي } وقدره في « الكشاف » فعليكم ، والأظهر أن يقدر فعل أمر أي فاهدوا ما استيسر من الهدي ، وكلا التقديرين دال على وجوب الهدي . ووجوبه في الحج ظاهر وفي العمرة كذلك ؛ بأنها مما يجب إتمامه بعد الإحرام باتفاق الجمهور .
و ( استيسر ) هنا بمعنى يسر فالسين والتاء للتأكيد كاستعصب عليه بمعنى صعب أي ما أمكن من الهدي بإمكان تحصيله وإمكان توجيهه ، فاستيسر هنا مراد جميع وجوه التيسر .
والهدي اسم الحيوان المتقرب به لله في الحج فهو فَعْل من أهدى ، وقيل هو جمع هدية كما جمعت جدية السرج على جدي{[178]} ، فإن كان اسماً فمن بيانية ، وإن كان جمعاً فمن تبعيضية ، وأقل ما هو معروف عندهم من الهدي الغنم ، ولذلك لم يبينه الله تعالى هنا ، وهذا الهدي إن كان قد ساقه قاصد الحج والعمرة معه ثم أحصر فالبعث به إن أمكن واجب ، وإن لم يكن ساقه معه فعليه توجيهه على الخلاف في حكمه من وجوبه وعدمه ، والمقصود من هذا تحصيل بعض مصالح الحج بقدر الإمكان ، فإذا فاتت المناسك لا يفوت ما ينفع فقراء مكة ومن حولها .
وقوله : { ولا تحلقوا رؤوسكم } الآية بيان لملازمة حالة الإحرام حتى ينحر الهدي ، وإنما خص النهي عن الحلق دون غيره من منافيات الإحرام كالطيب تمهيداً لقوله : { فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه } ويعلم استمرار حكم الإحرام في البقية بدلالة القياس والسياق وهذا من مستتبعات التراكيب وليس بكناية عن الإحلال لعدم وضوح الملازمة . والمقصود من هذا تحصيل بعض ما أمكن من أحوال المناسك وهو استبقاء الشعث المقصود في المناسك .
والمحل بفتح الميم وكسر الحاء مكان الحلول أو زمانه يقال : حل بالمكان يحل بكسر الحاء وهو مقام الشيء والمراد به هنا مبلغه وهو ذبحه للفقراء ، وقيل محله : هو محل ذبح الهدايا وهو منى والأول قول مالك .
وقوله : { فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه } الآية ، المراد مرض يقتضي الحلق سواء كان المرض بالجسد أم بالرأس ، وقوله : { أو به أذى من رأسه } كناية عن الوسخ الشديد والقمل ، لكراهية التصريح بالقمل . وكلمة ( من ) للابتداء أي أذى ناشىء عن رأسه .
وفي البخاري عن كعب بن عجرة قال : « حملت إلى النبي والقمل يتناثر على وجهي ، فقال ما كنت أرى الجهد قد بلغ بك هذا ، أما تجد شاة ؟ قلت : لا ، قال : صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك ، فنزلت هذه الآية فيَّ خاصة وهي لكم عامة اهـ » ومن لطائف القرآن ترك التصريح بما هو مرذول من الألفاظ .
وقوله : { ففدية من صيام } محذوف المسند إليه لظهوره أي عليه ، والمعنى فليحلق رأسه وعليه فدية ، وقرينة المحذوف قوله : { ولا تحلقوا رؤوسكم } وقد أجمل الله الفدية ومقدارها وبينه حديث كعب بن عجرة .
والنسك بضمتين وبسكون السين مع تثليث النون العبادة ويطلق على الذبيحة المقصود منها التعبد وهو المراد هنا مشتق من نَسك كنصر وكرم إذا عبد وذبح لله وسمي العابد ناسكاً ، وأغلب إطلاقه على الذبيحة المتقرب بها إلى معبود وفي الحديث : « والآخر يوم تأكلون فيه من نسككم » يعني الضحية .
الفاء للعطف على { أحصرتم } إن كان المراد من الأمن زوال الإحصار المتقدم ، ولعلها نزلت بعد أن فرض الحج ، لأن فيها ذكر التمتع وذكر صيام المتمتع إن لم يجد هدياً ثلاثة أيام في مدة الحج وسبعة إذا رجع إلى أفقه وذلك لا يكون إلاّ بعد تمكنهم من فعل الحج . والفاء لمجرد التعقيب الذكري .
وجيء بإذا لأن فعل الشرط مرغوب فيه ، والأمن ضد الخوف ، وهو أيضاً السلامة من كل ما يخاف منه أمن كفرح أمناً ، أماناً ، وأمناً ، وآمنة وإمناً بكسر الهمزة وهو قاصر بالنسبة إلى المأمون منه فيتعدى بمن تقول : أمنت من العدو ، ويتعدى إلى المأمون تقول : أمنت فلاناً إذا جعلته آمناً منك ، والأظهر أن الأمن ضد الخوف من العدو ما لم يصرح بمتعلقه وفي القرآن { ثم أبلغه مأمنه } [ التوبة : 6 ] فإن لم يذكر له متعلق نزل منزلة اللازم فدل على عدم الخوف من القتال وقد تقدم في قوله تعالى : { رب اجعل هذا بلداً آمناً } [ البقرة : 126 ] .
وهذا دليل على أن المراد بالإحصار فيما تقدم ما يشمل منع العدو ولذلك قيل ( إذا أمنتم ) ويؤيده أن الآيات نزلت في شأن عمرة الحديبية كما تقدم فلا مفهوم للشرط هنا ؛ لأنه خرج لأجل حادثة معينة ، فالآية دلت على حكم العمرة ، لأنها لا تكون إلاّ مع الأمن ، وذلك أن المسلمين جاءوا في عام عمرة القضاء معتمرين وناوين إن مكنوا من الحج أن يحجوا ، ويعلم حكم المريض ونحوه إذا زال عنه المانع بالقياس على حكم الخائف .
وقوله : { فمن تمنع } جواب ( إذا ) والتقدير فإذا أمنتم بعد الإحصار وفاتكم وقت الحج وأمكنكم أن تعتمروا فاعتمروا وانتظروا الحج إلى عام قابل ، واغتنموا خير العمرة فمن تمتع بالعمرة فعليه هدي عوضاً عن هدي الحج ، فالظاهر أن صدر الآية أريد به الإحصار الذي لا يتمكن معه المحصر من حج ولا عمرة ، وأن قوله { فإذا آمنتم } أريد به حصول الأمن مع إمكان الإتيان بعمرة وقد فات وقت الحج ، أي أنه فاته الوقت ولم يفته مكان الحج ، ويعلم أن من أمن وقد بقي ما يسعه بأن يحج عليه أن يحج .
ومعنى { تمتع بالعمرة إلى الحج } انتفع بالعمرة عاجلاً ، والانتفاع بها إما بمعنى الانتفاع بثوابها ، أو بسقوط وجوبها إن قيل إنها واجبة مع إسقاط السفر لها إذ هو قد أداها في سفر الحج ، وإما بمعنى الانتفاع بالحل منها ثم إعادة الإحرام بالحج فانتفع بألا يبقى في كلفة الإحرام مدة طويلة ، وهذا رخصة من الله تعالى ، إذ أباح العمرة في مدة الحج بعد أن كان ذلك محظوراً في عهد الجاهلية إذ كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أعظم الفجور .
فالباء في قوله : { بالعمرة } صلة فعل { تمتع } ، وقوله { إلى الحج } متعلق بمحذوف دل عليه معنى ( إلى ) تقديره متربصاً إلى وقت الحج أو بالغاً إلى وقت الحج أي أيامه وهي عشر ذي الحجة وقد فهم من كلمة ( إلى ) أن بين العمرة والحج زمناً لا يكون فيه المعتمر محرماً وهو الإحلال الذي بين العمرة والحج في التمتع والقران ، فعليه ما استيسر من الهدي لأجل الإحلال الذي بين الإحرامين ، وهذا حيث لم يهد وقت الإحصار فيما أراه والله أعلم .
والآية جاءت بلفظ التمتع على المعنى اللغوي أي الانتفاع وأشارت إلى ما سماه المسلمون بالتمتع وبالقران وهو من شرائع الإسلام التي أبطل بها شريعة الجاهلية ، واسم التمتع يشملها لكنه خص التمتع بأن يحرم الحاج بعمرة في أشهر الحج ثم يحل منها ثم يحج من عامه ذلك قبل الرجوع إلى أفقه ، وخص القران بأن يقرن الحج والعمرة في إهلال واحد ويبدأ في فعله بالعمرة ثم يحل منها ويجوز له أن يردف الحج على العمرة كل ذلك شرعه الله رخصة للناس ، وإبطالاً لما كانت عليه الجاهلية من منع العمرة في أشهر الحج ، وفرض الله عليه الهدي جبراً لما كان يتجشمه من مشقة الرجوع إلى مكة لأداء العمرة كما كانوا في الجاهلية ولذلك سماه تمتعاً .
وقد اختلف السلف في التمتع وفي صفته فالجمهور على جوازه ، وأنه يحل من عمرته التي أحرم بها في أشهر الحج ثم يحرم بعد ذلك في حجة في عامه ذلك ، وكان عثمان بن عفان لا يرى التمتع وينهى عنه في خلافته ، ولعله كان يتأول هذه الآية بمثل ما تأولها ابن الزبير كما يأتي قريباً ، وخالفه علي وعمران بن حصين ، وفي البخاري عن عمران بن حصين تمتعنا على عهد النبي ونزل القرآن ثم قال رجل من برأيه ما شاء ( يريد عثمان ) ، وكان عمر بن الخطاب لا يرى للقارن إذا أحرم بعمرة وبحجة معاً وتمم السعي بين الصفا والمروة أن يحل من إحرامه حتى يحل من إحرام حجه فقال له أبو موسى الأشعري إني جئت من اليمن فوجدت رسول الله بمكة محرماً ( أي عام الوداع ) فقال لي بم أهللت ؟ قلت أهللت بإهلال كإهلال النبي فقال لي هل معك هدي قلت لا فأمرني فطفت وسعيت ثم أمرني فأحللت وغسلت رأسي ومشطتني امرأة من عبد القيس ، فلما حدث أبو موسى عمر بهذا قال عمر : « إن نأخذ بكتاب الله فهو يأمرنا بالإتمام وإن نأخذ بسنة رسوله فإنه لم يحل حتى بلغ الهدي محله » ، وجمهور الصحابة والفقهاء يخالفون رأي عمر ويأخذون بخبر أبي موسى ؛ وبحديث علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
« لولا أن معي الهدي لأحللت » وقد ينسب بعض الناس إلى عمر أنه لا يرى جواز التمتع وهو وهم إنما رأى عمر لا يجوز الإحلال من العمرة في التمتع إلى أن يحل من الحج وذلك معنى قوله فإنه لم يحل حتى بلغ الهدي محله ، فلعله رأى الإحلال للمتلبس بنية الحج منافياً لنيته وهو ما عبر عنه بالإتمام ولعله كان لا يرى الآحاد مخصصاً للمتواتر من كتاب أو سنة لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم هنا متواتر ، إذ قد شهده كثير من أصحابه ونقلوا حجه وأنه أهل بهما جميعاً .
نعم ، كان أبو بكر وعمر يريان إفراد الحج أفضل من التمتع والقران وبه أخذ مالك روى عنه محمد بن الحسن أنه يرجح أحد الحديثين المتعارضين بعمل الشيخين ، وكان عبد الله بن الزبير رضي الله عنه يرى التمتع خاصاً بالمحصر إذا تمكن من الوصول إلى البيت بعد أن فاته وقوف عرفة فيجعل حجته عمرة ويحج في العام القابل ، وتأول قوله تعالى { إلى الحج } أي إلى وقت الحج القابل والجمهور يقولون { إلى الحج } أي إلى أيام الحج .
وقوله : { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام } الآية عطفت على { فمن تمتع } ، لأن { فمن تمتع } مع جوابه وهو { فما استيسر } مقدر فيه معنى فمن تمتع واجداً الهدي فعطف عليه { فمن لم يجد } .
وجعل الله الصيام بدلاً عن الهدى زيادة في الرخصة والرحمة ولذلك شرع الصوم مفرقاً فجعله عشرة أيام ثلاثة منها في أيام الحج وسبعة بعد الرجوع من الحج .
فقوله : { في الحج } أي في أشهره إن كان قد أمكنه الاعتمار قبل انقضاء مدة الحج ، فإن لم يدرك الحج واعتمر فتلك صفة أخرى لا تعرض إليها في الآية .
وقوله : { تلك عشرة كاملة } فذلكة الحساب أي جامعته فالحاسب إذا ذكر عددين فصاعداً قال عند إرادة جمع الأعداد فذلك أي المعدود كذا فصيغت لهذا القول صيغة نحت مثل بسمل إذا قال باسم الله وحوقل إذا قال لا حول ولا قوة إلاّ بالله فحروف فذلكة متجمعة من حروف فذلك كما قال الأعشى :
ثلاثٌ بالغداة فهُنَّ حَسبـي *** وستُّ حين يدْركني العِشاء
فذلك تسعة في اليوم رَيِّي *** وشُرْب المرء فوق الرَّيِّ داء
فلفظ فذلكة كلمة مولدة لم تسمع من كلام العرب غلب إطلاق اسم الفذلكة على خلاصة جمع الأعداد ، وإن كان اللفظ المحكي جرى بغير كلمة « ذلك » كما نقول في قوله : { تلك عشرة كاملة } إنها فذلكة مع كون الواقع في المحكي لفظ « تلك » لا لفظ ذلك ومثله قول الفرزدق :
ثلاث واثنتان فتلك خمس *** وسادسة تَميل إلى الشِّمام
وفي وجه الحاجة إلى الفذلكة في الآية وجوه ، فقيل هو مجرد توكيد كما تقول كتبت بيدي يعني أنه جاء على طريقة ما وقع في شعر الأعشى أي أنه جاء على أسلوب عربي ولا يفيد إلاّ تقرير الحكم في الذهن مرتين ولذلك قال صاحب « الكشاف » لما ذكر مثله كقول العرب علمان خير من علم . وعن المبرد أنه تأكيد لدفع توهم أن يكون بقي شيء مما يجب صومه .
وقال الزجاج قد يتوهم متوهم أن المراد التخيير بين صوم ثلاثة أيام في الحج أو سبعة أيام إذا رجع إلى بلده بدلاً من الثلاثة أزيل ذلك بجلية المراد بقوله : { تلك عشرة } وتبعه صاحب « الكشاف » فقال « الواو قد تجيء للإِباحة في نحو قولك : جالس الحسن وابن سيرين ففذلكت نفياً لتوهم الإباحة اهـ » وهو يريد من الإباحة أنها للتخيير الذي يجوز معه الجمع ولا يتعين .
وفي كلا الكلامين حاجة إلى بيان منشأ توهم معنى التخيير فأقول : إن هذا المعنى وإن كان خلاف الأصل في الواو حتى زعم ابن هشام أن الواو لا ترد له ، وأن التخيير يستفاد من صيغة الأمر لا أنه قد يتوهم من حيث إن الله ذكر عددين في حالتين مختلفتين وجعل أقل العددين لأشق الحالتين وأكثرهما لأخفهما ، فلا جرم طرأ توهم أن الله أوجب صوم ثلاثة أيام فقط وأن السبعة رخصة لمن أراد التخيير ، فبين الله ما يدفع هذا التوهم ، بل الإشارة إلى أن مراد الله تعالى إيجاب صوم عشرة أيام ، وإنما تفريقها رخصة ورحمة منه سبحانه ، فحصلت فائدة التنبيه على الرحمة الإلهية .
ونظيره قوله تعالى : { وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشرٍ فتم ميقات ربه أربعين ليلة } [ الأعراف : 142 ] إذ دل على أنه أراد من موسى عليه السلام مناجاة أربعين ليلة ولكنه أبلغها إليه موزعة تيسيراً .
وقد سئلت عن حكمة كون الأيام عشرة فأجبت بأنه لعله نشأ من جمع سبعة وثلاثة ؛ لأنهما عددان مباركان ، ولكن فائدة التوزيع ظاهرة ، وحكمة كون التوزيع كان إلى عددين متفاوتين لا متساويين ظاهرة ؛ لاختلاف حالة الاشتغال بالحج ففيها مشقة ، وحالة الاستقرار بالمنزل . وفائدة جعل بعض الصوم في مدة الحج جعل بعض العبادة عند سببها ، وفائدة التوزيع إلى ثلاثة وسبعة أن كليهما عدد مبارك ضبطت بمثله الأعمال دينية وقضائية .
وأما قوله : { كاملة } فيفيد التحريض على الإتيان بصيام الأيام كلها لا ينقص منها شيء ، مع التنويه بذلك الصوم وأنه طريق كمال لصائمه ، فالكمال مستعمل في حقيقته ومجازه .
وقوله : { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } إشارة إلى أقرب شيء في الكلام ، وهو هدي التمتع أو بدله وهو الصيام ، والمعنى أن الهدي على الغريب عن مكة كي لا يعيد السفر للعمرة فأما المكي فلم ينتفع بالاستغناء عن إعادة السفر فلذا لم يكن عليه هدي ، وهذا قول مالك والشافعي والجمهور ، فلذلك لم يكن عندهما على أهل مكة هدي في التمتع والقران ، لأنهم لا مشقة عليهم في إعادة العمرة ، وقال أبو حنيفة : الإشارة إلى جميع ما يتضمنه الكلام السابق على اسم الإشارة وهو التمتع بالعمرة مع الحج ووجوب الهدي ، فهو لا يرى التمتع والقران لأهل مكة وهو وجه من النظر .
وحاضرو المسجد الحرام هم أهل بلدة مكة وما جاورها ، واختلف في تحديد ما جاورها فقال مالك : ما اتصل بمكة ذلك من ذي طوى وهو على أميال قليلة من مكة . وقال الشافعي : من كان من مكة على مسافة القصر ونسبه ابن حبيب إلى مالك وغلطه شيوخ المذهب . وقال عطاء : حاضرو المسجد الحرام أهل مكة وأهل عرفة ، ومَر ، وعُرنة ، وضجنان ، والرجيع ، وقال الزهري : أهل مكة ومن كان على مسافة يوم أو نحوه ، وقال ابن زيد : أهل مكة ، وذي طوى ، وفج ، وما يلي ذلك . وقال طاووس : حاضرو المسجد الحرام كل من كان داخل الحرم ، وقال أبو حنيفة : هم من كانوا داخل المواقيت سواء كانوا مكيين أو غيرهم ساكني الحرم أو الحل .
وصاية بالتقوى بعد بيان الأحكام التي لا تخلو عن مشقة للتحذير من التهاون بها ، فالأمر بالتقوى عام ، وكون الحج من جملة ذلك هو من جملة العموم وهو أجدر أفراد العموم ، لأن الكلام فيه .
وقوله : { واعلموا أن الله شديد العقاب } افتتح بقوله : { واعلموا } اهتماماً بالخبر فلم يقتصر بأن يقال : { واتقوا الله إن الله شديد العقاب } فإنه لو اقتصر عليه لحصل العلم المطلوب ، لأن العلم يحصل من الخبر ، لكن لما أريد تحقيق الخبر افتتح بالأمر بالعلم ، لأنه في معنى تحقيق الخبر ، كأنه يقول : لا تشكوا في ذلك ، فأفاد مفاد إن ، وتقدم آنفاً عند قوله تعالى : { واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين } [ البقرة : 194 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وأتموا الحج والعمرة لله}: من المواقيت، ولا تستحلوا فيهما ما لا ينبغي لكم، فريضتان واجبتان، ويقال: العمرة هي الحج الأصغر، وتمام الحج والعمرة المواقيت والإحرام خالصا لا يخالطه شيء من أمر الدنيا، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يشركون في إحرامهم، فأمر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن يتموهما لله، فقال: {وأتموا الحج والعمرة لله}: وهو ألا يخلطوهما بشيء، ثم خوفهم أن يستحلوا منهما ما لا ينبغي، فقال سبحانه في آخر الآية: {واعلموا أن الله شديد العقاب}، {فإن أحصرتم}، يقول: فإن حبستم كقوله سبحانه: {الذين أحصروا في سبيل الله} (البقرة: 273) يعني حبسوا، نظيرها أيضا: {وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا} (الإسراء: 8) يعني محبسا، يقول: إن حبسكم في إحرامكم بحج أو بعمرة كسر أو مرض أو عدو عن المسجد الحرام، {فما استيسر من الهدي}، يعني فليقم محرما مكانه ويبعث ما استيسر من الهدي، أو بثمن الهدي، فيشترى له الهدي، فإذا نحر الهدي عنه، فإنه يحل من إحرامه مكانه، ثم قال: {ولا تحلقوا رءوسكم} في الإحرام، {حتى يبلغ الهدي محله}: يعني حتى يدخل الهدي مكة، فإذا نحر الهدي حل من إحرامه، {فمن كان منكم مريضا}، وذلك أن كعب بن عجرة الأنصاري كان محرما بعمرة عام الحديبية، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم على مقدم رأسه قملا كثيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"يا كعب أيؤذيك هوام رأسك؟"، قال نعم يا نبي الله، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق، فأنزل الله عز وجل في كعب: {فمن كان منكم مريضا} {أو به أذى من رأسه}، فحلق رأسه، {ففدية من صيام}، فعليه فدية صيام ثلاثة أيام إن شاء متتابعا، وإن شاء متقطعا، {أو صدقة} على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من حنطة، {أو نسك}، يعني شاة أو بقرة أو بعيرا ينحره، ثم يطعمه المساكين بمكة، ولا يأكل منه، وهو بالخيار، إن شاء ذبح شاة أو بقرة أو بعيرا، فأما كعب، فذبح بقرة. {فإذا أمنتم} من الحبس من العدو عن البيت الحرام، {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} يقول: وهو يريد الحج، فإن دخل مكة وهو محرم بعمرة في غرة شوال، أو ذي القعدة، أو في عشر من ذي الحجة، {فما استيسر من الهدي}، يعني شاة فما فوقها يذبحها فيأكل منها ويطعم، فقال أبو هريرة، وسلمان، وأبو العرباض للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نجد الهدي، فلنصم ثلاثة أيام، فأنزل الله عز وجل فيهم: {فمن لم يجد} الهدي فليصم، {فصيام ثلاثة أيام في الحج} في عشر الأضحى في أول يوم من العشر إلى يوم عرفة، فإن كان يوم عرفة يوم الثالث، تم صومه، ثم قال: {وسبعة}، يعني ولتصوموا سبعة أيام {إذا رجعتم} من منى إلى أهليكم، {تلك عشرة كاملة}، فمن شاء صام في الطريق، ومن شاء صام في أهله، إن شاء متتابعا، وإن شاء متقطعا، ثم قال: {ذلك} التمتع {لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام {واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب}، يعني من لم يكن منزله في أرض الحرم كله، فمن كان أهله في أرض الحرم، فلا متعة عليه ولا صوم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معنى ذلك أتموا الحج بمناسكه وسننه، وأتموا العمرة بحدودها وسننها... عن ابن عباس:"وأتموا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ" يقول: من أحرم بحج أو بعمرة فليس له أن يحلّ حتى يتمها تمام الحج يوم النحر إذا رمى جمرة العقبة وزار البيت فقد حل من إحرامه كله، وتمام العمرة إذا طاف بالبيت وبالصفا والمروة، فقد حل.
وقال آخرون: تمامهما؛ أن تحرم بهما مفردين من دُوَيْرة أهلك. وقال آخرون: تمام العمرة؛ أن تعمل في غير أشهر الحجّ، وتمام الحجّ أن يؤتى بمناسكه كلها حتى لا يلزم عامله دم بسبب قران ولا متعة. وقال آخرون: إتمامهما؛ أن تخرج من أهلك لا تريد غيرهما. وقال آخرون: بل معنى ذلك: أتموا الحجّ والعمرة لله إذا دخلتم فيهما... قال ابن زيد: ليست العمرة واجبة على أحد من الناس. قال: فقلت له: قول الله تعالى: "وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ"؟ قال: ليس من الخلق أحد ينبغي له إذا دخل في أمر إلا أن يتمه، فإذا دخل فيها لم ينبغ له أن يهلّ يوما أو يومين ثم يرجع، كما لو صام يوما لم ينبغ له أن يفطر في نصف النهار. وكان الشعبي يقرأ ذلك رفعا... عن شعبة، قال: حدثني سعيد بن أبي بردة أن الشعبي وأبا بردة تذاكرا العمرة، قال: فقال الشعبي: تطوّع: "وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةُ لِلّهِ "وقال أبو بردة: هي واجبة: "وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ".
وقد رُوي عن الشعبي خلاف هذا القول، وإن كان المشهور عنه من القول هو هذا... عن الشعبي، قال: العمرة واجبة.
فقراءة من قال: العمرة واجبة نَصْبها بمعنى أقيموا فرض الحج والعمرة... قال عليّ بن حسين وسعيد بن جبير، وسئلا: أواجبة العمرة على الناس؟ فكلاهما قال: ما نعلمها إلا واجبة، كما قال الله: "وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ"...
فتأويل هؤلاء في قوله تبارك وتعالى: "وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ" أنهما فرضان واجبان من الله تبارك وتعالى أمر بإقامتهما، كما أمر بإقامة الصلاة، وأنهما فريضتان، وأَوجب العمرة وجوب الحجّ. وهم عدد كثير من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الخالفين كرهنا تطويل الكتاب بذكرهم وذكر الروايات عنهم. وقالوا: معنى قوله: "وأتِمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ": وأقيموا الحجّ والعمرة... وكأنهم عنوا بقوله: أقيموا الحجّ والعمرة: ائتوا بهما بحدودهما وأحكامهما على ما فرض عليكم.
وقال آخرون ممن قرأ قراءة هؤلاء بنصب العمرة: العمرة تطوّع. ورأوا أنه لا دلالة على وجوبها في نصبهم العمرة في القراءة، إذ كان من الأعمال ما قد يلزم العبد عمله وإتمامه بدخوله فيه، ولم يكن ابتداء الدخول فيه فرضا عليه، وذلك كالحجّ التطوّع لا خلاف بين الجميع فيه أنه إذا أحرم به أن عليه المضيّ فيه وإتمامه ولم يكن فرضا عليه ابتداء الدخول فيه. وقالوا: فكذلك العمرة غير فرض واجب الدخول فيها ابتداء، غير أن على من دخل فيها وأوجبها على نفسه إتمامها بعد الدخول فيها.
قالوا: فليس في أمر الله بإتمام الحجّ والعمرة دلالة على وجوب فرضها.
قالوا: وإنما أوجبنا فرض الحجّ بقوله عزّ وجل: "ولِلّهِ على النّاسِ حِجّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً"، وممن قال ذلك جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين. فأما الذين قرأوا ذلك برفع العمرة فإنهم قالوا: لا وجه لنصبها، فالعمرة إنما هي زيارة البيت، ولا يكون مستحقا اسم معتمر إلا وهو له زائر، قالوا: وإذا كان لا يستحق اسم معتمر إلا بزيارته، وهو متى بلغه فطاف به وبالصفا والمروة، فلا عمل يبقى بعده يؤمر بإتمامه بعد ذلك، كما يؤمر بإتمامه الحاج بعد بلوغه والطواف به وبالصفا والمروة بإتيان عرفة والمزدلفة، والوقوف بالمواضع التي أمر بالوقوف بها وعمل سائر أعمال الحجّ الذي هو من تمامه بعد إتيان البيت، لم يكن لقول القائل للمعتمر أتمّ عمرتك وجه مفهوم، وإذا لم يكن له وجه مفهوم فالصواب من القراءة في العمرة الرفع على أنه من أعمال البرّ لله، فتكون مرفوعة بخبرها الذي بعدها، وهو قوله: لله.
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندنا، قراءة من قرأ بنصب العمرة على العطف بها على الحج، بمعنى الأمر بإتمامهما له. ولا معنى لاعتلال من اعتلّ في رفعها بأن العمرة زيارة البيت، فإن المعتمر متى بلغه، فلا عمل بقي عليه يؤمر بإتمامه، وذلك أنه إذا بلغ البيت فقد انقضت زيارته وبقي عليه تمام العمل الذي أمره الله به في اعتماره، وزيارته البيت وذلك هو الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، وتجنب ما أمر الله بتجنبه إلى إتمامه ذلك، وذلك عمل وإن كان مما لزمه بإيجاب الزيارة على نفسه غير الزيارة. هذا مع إجماع الحجة على قراءة العمرة بالنصب، ومخالفة جميع قرّاء الأمصار قراءة من قرأ ذلك رفعا، ففي ذلك مستغنى عن الاستشهاد على خطأ من قرأ ذلك رفعا.
وأما أولى القولين اللذين ذكرنا بالصواب في تأويل قوله:"...والعُمْرَةَ لِلّهِ" على قراءة من قرأ ذلك نصبا؛ فقول عبد الله بن مسعود، ومن قال بقوله من أن معنى ذلك: وأتموا الحجّ والعمرة لله إلى البيت بعد إيجابكم إياهما لا أن ذلك أمر من الله عزّ وجل بابتداء عملهما والدخول فيهما وأداء عملهما بتمامه بهذه الآية، وذلك أن الآية محتملة للمعنيين اللذين وصفنا من أن يكون أمرا من الله عزّ وجل بإقامتهما ابتداء وإيجابا منه على العباد فرضهما، وأن يكون أمرا منه بإتمامهما بعد الدخول فيهما، وبعد إيجاب موجبهما على نفسه، فإذا كانت الآية محتملة للمعنيين اللذين وصفنا، فلا حجة فيها لأحد الفريقين على الآخر، إلا وللآخر عليه فيها مثلها. وإذا كان كذلك ولم يكن بإيجاب فرض العمرة خبر عن الحجة للعذر قاطعا، وكانت الأمة في وجوبها متنازعة، لم يكن لقول قائل هي فرض بغير برهان دالّ على صحة قوله معنى، إذ كانت الفروض لا تلزم العباد إلا بدلالة على لزومها إياهم واضحة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، وحدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: حدثنا شريك، عن معاوية بن إسحاق، عن أبي صالح الحنفي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحَجّ جِهادٌ والعُمْرَةُ تَطَوّعٌ».
وإن أولى القولين في العمرة بالصواب قول من قال: هي تطوّع لا فرض. وإن معنى الآية: وأتموا أيها المؤمنون الحجّ والعمرة لله بعد دخولكم فيهما وإيجابكموهما على أنفسكم على ما أمركم الله من حدودهما.
وإنما أنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية على نبيه عليه الصلاة والسلام في عمرة الحديبية التي صدّ فيها عن البيت معرفه والمؤمنين فيها ما عليهم في إحرامهم إن خلي بينهم وبين البيت، ومبينا لهم فيها ما المخرج لهم من إحرامهم إن أحرموا، فصدّوا عن البيت وبذكر اللازم لهم من الأعمال في عمرتهم التي اعتمروها عام الحديبية وما يلزمهم فيها بعد ذلك في عمرتهم وحجهم، افتتح بقوله: "يَسْألُونَكَ عَن الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للنّاسِ والحَجّ" وقد دللنا فيما مضى على معنى الحجّ والعمرة بشواهد، فكرهنا تطويل الكتاب بإعادته.
"فإنْ أُحْصِرُتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْي".
اختلف أهل التأويل في الإحصار الذي جعل الله على من ابتلي به في حجه وعمرته ما استيسر من الهدي؛ فقال بعضهم: هو كل مانع أو حابس منع المحرم وحبسه عن العمل الذي فرضه الله عليه في إحرامه ووصوله إلى البيت الحرام... قال مجاهد في قوله: "فإنْ أُحْصِرْتُمْ": يمرض إنسان أو يكسر أو يحبسه أمر فغلبه كائنا ما كان، فليرسل بما استيسر من الهدي، ولا يحلق رأسه، ولا يحل حتى يوم النحر.
وعلة من قال بهذه المقالة أن الإحصار معناه في كلام العرب: منع العلة من المرض وأشباهه غير القهر والغلبة من قاهر أو غالب إلا غلبة علة من مرض أو لدغ أو جراحة، أو ذهاب نفقة، أو كسر راحلة. فأما منع العدوّ، وحبس حابس في سجن، وغلبة غالب حائل بين المحرم والوصول إلى البيت من سلطان، أو إنسان قاهر مانع، فإن ذلك إنما تسميه العرب حصرا لا إحصارا.
قالوا: ومما يدل على ذلك قول الله جل ثناؤه: "وَجَعَلْنا جَهَنّمَ للْكافِرِينَ حَصِيرا": يعني به: حاصرا: أي حابسا.
قالوا: ولو كان حبس القاهر الغالب من غير العلل التي وصفنا يسمى إحصارا لوجب أن يقال: قد أحصر العدوّ. قالوا: وفي اجتماع لغات العرب على «حوصر العدوّ» و «العدوّ محاصر»، دون «أحصر العدوّ» و«هم محصرون»، و«أحصر الرجل» بالعلة من المرض والخوف، أكبر الدلالة على أن الله جل ثناؤه إنما عنى بقوله: "فإنْ أُحْصِرْتُمْ" بمرض أو خوف أو علة مانعة.
قالوا: وإنما جعلنا حبس العدوّ ومنعه المحرم من الوصول إلى البيت بمعنى حصر المرض قياسا على ما جعل الله جل ثناؤه من ذلك للمريض الذي منعه المرض من الوصول إلى البيت، لا بدلالة ظاهر قوله: "فإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ"، إذ كان حبس العدوّ والسلطان والقاهر علة مانعة، نظيرة العلة المانعة من المرض والكسر.
وقال آخرون: معنى قوله: "فإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ": فإن حبسكم عدوّ عن الوصول إلى البيت، أو حابس قاهر من بني آدم. قالوا: فأما العلل العارضة في الأبدان كالمرض والجراح وما أشبهها، فإن ذلك غير داخل في قوله: "فإنْ أُحْصِرْتُمْ"... عن ابن عباس أنه قال: الحصر: حصر العدوّ، فيبعث الرجل بهديته، فإن كان لا يستطيع أن يصل إلى البيت من العدو، فإن وجد من يبلغها عنه إلى مكة، فإنه يبعث بها ويحرم. قال محمد بن عمرو، قال أبو عاصم: لا ندري قال يحرم أو يحلّ من يوم يواعد فيه صاحب الهدي إذا اشترى، فإذا أمن فعليه أن يحجّ أو يعتمر، فإذا أصابه مرض يحبسه وليس معه هدي، فإنه يحلّ حيث يحبس، فإن كان معه هدي فلا يحلّ حتى يبلغ الهدي محله، فإذا بعث به فليس عليه أن يحجّ قابلاً، ولا يعتمر إلا أن يشاء.
وقال مالك بن أنس: «بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلّ وأصحابه بالحديبية، فنحروا الهدي، وحلقوا رؤوسهم، وحلوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت، وقبل أن يصل إليه الهدي، ثم لم نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أحدا من أصحابه ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئا ولا أن يعودوا لشيء».
حدثني بذلك يونس، قال: أخبرنا ابن وهب عنه. قال: وسئل مالك عمن أحصر بعدوّ وحيل بينه وبين البيت؟ فقال: يحلّ من كلّ شيء، وينحر هديه، ويحلق رأسه حيث يحبس، وليس عليه قضاء إلا أن يكون لم يحجّ قط، فعليه أن يحجّ حجة الإسلام. قال: والأمر عندنا فيمن أحصر بغير عدوّ بمرض أو ما أشبهه، أن يبدأ بما لا بدّ منه، ويفتدي، ثم يجعلها عمرة، ويحجّ عاما قابلاً ويهدي.
وعلة من قال هذه المقالة أعني من قال قولَ مالك أن هذه الآية نزلت في حصر المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت، فأمر الله نبيه ومن معه بنحر هداياهم والإحلال. قالوا: فإنما أنزل الله هذه الآية في حصر العدوّ، فلا يجوز أن يصرف حكمها إلى غير المعنى الذي نزلت فيه.
قالوا: وأما المريض، فإنه إذا لم يطق لمرضه السير حتى فاتته عرفة، فإنما هو رجل فاته الحجّ، عليه الخروج من إحرامه بما يخرج به من فاته الحج، وليس من معنى المحصر الذي نزلت هذه الآية في شأنه.
وأولى التأويلين بالصواب في قوله: "فإنْ أُحْصِرْتُمْ" تأويل من تأوله بمعنى: فإن أحصركم خوف عدوّ أو مرض أو علة عن الوصول إلى البيت، أي صيركم خوفكم أو مرضكم تحصرون أنفسكم، فتحبسونها عن النفوذ لما أوجبتموه على أنفسكم من عمل الحجّ والعمرة. فلذا قيل «أحصرتم»، لما أسقط ذكر الخوف والمرض. يقال منه: أحصرني خوفي من فلان عن لقائك، ومرضي عن فلان، يراد به: جعلني أحبس نفسي عن ذلك. فأما إذا كان الحابس الرجل والإنسان، قيل: حصرني فلان عن لقائك، بمعنى حبسني عنه.
فلو كان معنى الآية ما ظنه المتأوّل من قوله: "فإنْ أُحْصِرْتُمْ" فإن حبسكم حابس من العدوّ عن الوصول إلى البيت، لوجب أن يكون: فإن حُصِرتم.
ومما يبين صحة ما قلناه من أن تأويل الآية مراد بها إحصار غير العدوّ وأنه إنما يراد بها الخوف من العدوّ، قوله: "فإنْ أمِنْتُمْ فمَنْ تَمَتّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحَجّ"، والأمن إنما يكون بزوال الخوف. وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الإحصار الذي عنى الله في هذه الآية هو الخوف الذي يكون بزواله الأمن.
وإذا كان ذلك كذلك، لم يكن حبس الحابس الذي ليس مع حبسه خوف على النفس من حبسه داخلاً في حكم الآية بظاهرها المتلّو، وإن كان قد يلحق حكمه عندنا بحكمه من وجه القياس من أجل أن حبس من لا خوف على النفس من حبسه، كالسلطان غير المخوفة عقوبته، والوالد وزوج المرأة، إن كان منهم أو من بعضهم حبس، ومنع عن الشخوص لعمل الحجّ، أو الوصول إلى البيت بعد إيجاب الممنوع الإحرام، غير داخل في ظاهر قوله: "فإنْ أُحْصِرْتُمْ" لما وصفنا من أن معناه: فان أحصركم خوف عدوّ، بدلالة قوله: "فإذَا أمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحجّ".
وإذ كان ذلك أولى التأويلين بالآية لما وصفنا، وكان ذلك منعا من الوصول إلى البيت، فكل مانع عرض للمحرم فصدّه عن الوصول إلى البيت، فهو له نظير في الحكم.
ثم اختلف أهل العلم في تأويل قوله: "فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ"؛ فقال بعضهم: هو شاة... عن النعمان بن مالك، قال: سألت ابن عباس عما استيسر من الهدي؟ قال: من الأزواج الثمانية من الإبل والبقر والمعز والضأن.
[عن] ابن عباس كان يقول: ما استيسر من الهدي: شاة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال مالك: وذلك أحبّ إلي.
وقال آخرون: «ما استيسر من الهدي»: من الإبل والبقر، سنّ دون سنّ. وأولى القولين بالصواب قول من قال: ما استيسر من الهدي شاة؛ لأن الله جل ثناؤه إنما أوجب ما استيسر من الهدي، وذلك على كل ما تيسر للمهدي أن يهديه كائنا ما كان ذلك الذي يهدي. إلا أن يكون الله جل ثناؤه خصّ من ذلك شيئا، فيكون ما خصّ من ذلك خارجا من جملة ما احتمله ظاهر التنزيل، ويكون سائر الأشياء غيره مجزئا إذا أهداه المهدي بعد أن يستحقّ اسم هدي.
فإن قال قائل: فإن الذين أبوا أن تكون الشاة مما استيسر من الهدي بأنه لا يستحقّ اسم هدي كما أنه لو أهدى دجاجة أو بيضة لم يكن مهديا هديا مجزئا؟ قيل: لو كان في المهدي الدجاجة والبيضة من الاختلاف نحو الذي في المهدي الشاة لكان سبيلهما واحدة في أن كل واحد منهما قد أدّى ما عليه بظاهر التنزيل إذا لم يكن أحد الهَدْيَيْن يخرجه من أن يكون مؤديا بإهدائه ما أهدى من ذلك مما أوجبه الله عليه في إحصاره. ولكن لما أخرج المهدي ما دون الجذع من الضأن والثني من المعز والإبل والبقر فصاعدا من الأسنان من أن يكون مهديا ما أوجبه الله عليه في إحصاره أو متعته بالحجة القاطعة العذر، نقلاً عن نبينا صلى الله عليه وسلم وراثة، كان ذلك خارجا من أن يكون مرادا بقوله: فمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ وإن كان مما استيسر لنا من الهدايا.
ولما اختلف في الجذع من الضأن والثنيّ من المعز، كان مجزئا ذلك عن مهديه لظاهر التنزيل، لأنه مما استيسر من الهدي.
وأما الهدي؛ فإنه جمع واحدها هَدِيّة، على تقدير جَدِيّة السرج، والجمع الجَدْي مخفف.
والهدي عندي إنما سمي هديا لأنه تقرّب به إلى الله جل وعزّ مهديه بمنزلة الهدية يهديها الرجل إلى غيره متقرّبا بها إليه، يقال منه: أهديت الهدي إلى بيت الله فأنا أهديه إهداء، كما يقال في الهدية يهديها الرجل إلى غيره: أهديت إلى فلان هدية وأنا أهديها. ويقال للبدنة هدية.
"وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حتّى يَبْلُغَ الهَدْىُ مَحِلّه": فإن أحصرتم فأردتم الإحلال من إحرامكم، فعليكم ما استيسر من الهدي، ولا تحلوا من إحرامكم إذا أحصرتم حتى يبلغ الهدي الذي أوجبته عليكم لإحلالكم من إحرامكم الذي أحصرتم فيه قبل تمامه وانقضاء مشاعره ومناسكه، محله، وذلك أن حلق الرأس إحلال من الإحرام الذي كان المحرم قد أوجبه على نفسه، فنهاه الله عن الإحلال من إحرامه بحلاقه، حتى يبلغ الهدي الذي أباح الله له الإحلال جل ثناؤه بإهدائه محله.
ثم اختلف أهل العلم في محل الهدي الذي عناه الله جل اسمه الذي متى بلغه كان للمحصر الإحلال من إحرامه الذي أحصر فيه؛
فقال بعضهم: محلّ هدي المحصر الذي يحلّ به ويجوز له ببلوغه إياه حلق رأسه، إذا كان إحصاره من خوف عدوّ منعه ذبحه إن كان مما يذبح، أو نحره إن كان مما ينحر، في الحلّ ذبح أو نحر أو في الحرم حيث حبس، وإن كان من غير خوف عدوّ فلا يحلّ حتى يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة. وهذا قول من قال: الإحصار إحصار العدوّ دون غيره؛ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، أخبرني مالك بن أنس أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلّ هو وأصحابه بالحديبية، فنحروا الهدي وحلقوا رؤوسهم، وحلّوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت، وقبل أن يصل إليه الهدي. ثم لم نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أحدا من أصحابه ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئا، ولا أن يعودوا لشيء...
وقال بعضهم: محل هدي المحصر الحرم لا محلّ له غيره.
وقال آخرون منهم: حصار العدو ثابت اليوم وبعد اليوم، على نحو ما ذكرنا من أقوالهم الثلاثة التي حكينا عنهم. وقال: ومعنى الآية: فإن أحصرتم عن الحج حتى فاتكم، فعليكم ما استيسر من الهدي لفوته إياكم... فأولى الأفعال أن يقتدى به، فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لم يأت بحظره خبر، ولم تقم بالمنع منه حجة. فإذ كان ذلك كذلك، وكان أهل العلم مختلفين فيما اخترنا من القول في ذلك، فمن متأوّل معنى الآية تأويلنا، ومن مخالف ذلك، ثم كان ثابتا بما قلنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النقل كان الذي نقل عنه أولى الأمور بتأويل الآية، إذ كانت هذه الآية لا يتدافع أهل العلم أنها يومئذٍ نزلت، وفي حكم صدّ المشركين إياه عن البيت أوحيت.
وقد رُوي بنحو الذي قلنا في ذلك خبر.
حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: ثني الحجاج بن أبي عثمان، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، أن عكرمة مولى ابن عباس حدثه، قال: حدثني الحجاج بن عمرو الأنصاري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَن كُسِرَ أوْ عُرِجَ فَقَدْ حَلّ وَعَلَيْهِ حَجّةٌ أُخْرَى» قال: فحدثت ابن عباس وأبا هريرة بذلك، فقالا: صدق.
ومعنى هذا الخبر الأمر بقضاء الحجة التي حلّ منها نظير فعل النبيّ عليه الصلاة والسلام وأصحابه في قضائهم عمرتهم التي حلوا منها عام الحديبية من القابل في عام عمرة القضية.
ويقال لمن زعم أن الذي حصره عدوّ إذا حلّ من إحرامه التطوّع فلا قضاء عليه، وأن المحصر بالعلل عليه القضاء، ما العلة التي أوجبت على أحدهما القضاء وأسقطت عن الاَخر، وكلاهما قد حلّ من إحرام كان عليه إتمامه لولا العلة العائقة؟
فإن قال: لأن الآية إنما نزلت في الذي حصره العدو، فلا يجوز لنا نقل حكمها إلى غير ما نزلت فيه قيل له: قد دفعك عن ذلك جماعة من أهل العلم، غير أنا نسلم لك ما قلت في ذلك، فهلا كان حكم المنع بالمرض والإحصار له حكم المنع بالعدو إذ هما متفقان في المنع من الوصول إلى البيت وإتمام عمل إحرامهما، وإن اختلفت أسباب منعهما، فكان أحدهما ممنوعا بعلة في بدنه، والاَخر بمنع مانع؟ ثم يسئل الفرق بين ذلك من أصل أو قياس، فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الاَخر مثله.
وأما الذين قالوا: لا إحصار في العمرة، فإنه يقال لهم: قد علمتم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما صد عن البيت، وهو محرم بالعمرة، فحل من إحرامه؟ فما برهانكم على عدم الإحصار فيها؟ أو رأيتم إن قال قائل: لا إحصار في حج، وإنما فيه فوت، وعلى الفائت الحج المقام على إحرامه حتى يطوف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة، لأنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سن في الإحصار في الحجّ سنة؟ فقد قال ذلك جماعة من أئمة الدين. فأما العمرة فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم سنّ فيها ما سنّ، وأنزل الله تبارك وتعالى في حكمها ما بين من الإحلال والقضاء الذي فعله صلى الله عليه وسلم، ففيها الإحصار دون الحجّ هل بينها وبينه فرق؟ ثم يعكس عليه القول في ذلك، فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله.
" فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَريضا أوْ بِهِ أذَىً مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ".
يعني بذلك جل ثناؤه فإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ، وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلّهُ إلا أن يضطرّ إلى حلقه منكم مضطرّ، إما لمرض، وإما لأذى برأسه، من هوامّ أو غيرها، فيحلق هنالك للضرورة النازلة به، وإن لم يبلغ الهدي محلّه، فيلزمه بحلاق رأسه وهو كذلك فدية من صيام أو صدقة أو نسك.
وقال آخرون: لا يحلق إن أراد أن يفتدي الحجّ بالنسك أو الإطعام إلا بعد التكفير، وإن أراد أن يفتدي بالصوم حلق ثم صام.
وقال آخرون: معنى ذلك: فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه، فعليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك قبل الحِلاق إذا أراد حلاقه. وعلة من قال هذه المقالة ما.
حدثنا به المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن يعقوب، قال: سألت عطاء، عن قوله: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِه فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ فقال: إن كعب بن عجرة مرّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وبرأسه من الصئبان والقمل كثير، فقال له النبيّ عليه الصلاة والسلام: «هَلْ عِنْدَكَ شاةٌ»؟ فقال كعب: ما أجدها. فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنْ شِئْتَ فأطْعِمْ سِتّةَ مَساكِين، وإنْ شِئْتَ فَصُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ، ثُم احْلِقْ رأسَكَ».
فأما المرض الذي أبيح معه العلاج بالطيب وحلق الرأس، فكل مرض كان صلاحه بحلقه كالبرسام الذي يكون من صلاح صاحبه حلق رأسه، وما أشبه ذلك، والجراحات التي تكون بجسد الإنسان التي يحتاج معها إلى العلاج بالدواء الذي فيه الطيب ونحو ذلك من القروح والعلل العارضة للأبدان.
وأما الأذى الذي يكون إذا كان برأس الإنسان خاصة له حلقه، فنحو الصداع والشقيقة، وما أشبه ذلك، وأن يكثر صئبان الرأس، وكل ما كان للرأس مؤذيا مما في حلقه صلاحه ودفع المضرّة الحالّة به، فيكون ذلك له بعموم قول الله جل وعزّ: أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ. وقد تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية نزلت عليه بسبب كعب بن عجرة، إذ شكا كثرة أذى برأسه من صئبانه، وذلك عام الحديبية. ذكر الأخبار التي رويت في ذلك:
واختلف أهل العلم في مبلغ الصيام والطعام اللذين أوجبهما الله على من حلق شعره من المحرمين في حال مرضه أو من أذى برأسه؛ فقال بعضهم: الواجب عليه من الصيام ثلاثة أيام، ومن الطعام ثلاثة آصع بين ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع. واعتلّوا بالأخبار التي ذكرناها قبل... عن أبي مالك: "فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك" قال: الصيام: ثلاثة أيام، والطعام: إطعام ستة مساكين، والنسك: شاة.
وقال آخرون: الواجب عليه إذا حلق رأسه من أذى، أو تطيب لعلة من مرض، أو فعل ما لم يكن له فعله في حال صحته وهو محرم من الصوم: صيام عشرة أيام، ومن الصدقة: إطعام عشرة مساكين... وقاس قائلو هذا القول كل صيام وجب على محرم أو صدقة جزاء من نقص دخل في إحرامه، أو فعل ما لم يكن له فعله بدلاً من دم على ما أوجب الله على المتمتع من الصوم إذا لم يجد الهدي. وقالوا: جعل الله على المتمتع صيام عشرة أيام مكان الهدي إذا لم يجده، قالوا: فكل صوم وجب مكان دم فمثله، قالوا: فإذا لم يصم وأراد الإطعام فإن الله جل وعز أقام إطعام مسكين مكان صوم يوم لمن عجز عن الصوم في رمضان. قالوا: فكل من جعل الإطعام له مكان صوم لزمه فهو نظيره، فلذلك أوجبوا إطعام عشرة مساكين في فدية الحلق.
وقال آخرون: بل الواجب على الحالق النسك شاة إن كانت عنده، فإن لم تكن عنده قوّمت الشاة دراهم والدراهم طعاما، فتصدّق به، وإلا صام لكل نصف صاع يوما.
وقال آخرون: بل هو مخير بين الخلال الثلاث يفتدي بأيها شاء... عن ابن عباس، قال: كلّ شيء في القرآن «أو أو»، فهو مخير فيه، فإن كان «فمن فمن»، فالأولَ فالأولَ.
والصواب من القول في ذلك عندنا ما ثبت به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتظاهرت به عنه الرواية أنه أمر كعب بن عجرة بحلق رأسه من الأذى الذي كان برأسه ويفتدي إن شاء بنسك شاة، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام فرق من طعام بين ستة مساكين كل مسكين نصف صاع. وللمفتدي الخيار بين أيّ ذلك شاء لأن الله لم يحصره على واحدة منهن بعينها، فلا يجوز له أن يعدوها إلى غيرها، بل جعل إليه فعل أيّ الثلاث شاء. ومن أبى ما قلنا من ذلك قيل له: ما قلت في المكفر عن يمينه أمخير إذا كان موسرا في أن يكفر بأيّ الكفارات الثلاث شاء؟ فإن قال: لا، خرج من قول جميع الأمة، وإن قال بلى، سئل الفرق بينه وبين المفتدي من حلق رأسه وهو محرم من أذى به، ثم لن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الاَخر مثله. على أن ما قلنا في ذلك إجماع من الحجة، ففي ذلك مستغنى عن الاستشهاد على صحته بغيره.
وأما الزاعمون أن كفارة الحلق قبل الحلق، فإنه يقال لهم: أخبرونا عن الكفارة للمتمتع قبل التمتع أو بعده؟ فإن زعموا أنها قبله قيل لهم: وكذلك الكفارة عن اليمين قبل اليمين. فإن زعموا أن ذلك كذلك، خرجوا من قول الأمة. وإن قالوا: ذلك غير جائز. قيل: وما الوجه الذي من قبله وجب أن تكون كفارة الحلق قبل الحلق وهدي المتعة قبل التمتع ولم يجب أن تكون كفارة اليمين قبل اليمين؟ وهل بينكم وبين من عكس عليكم الأمر في ذلك فأوجب كفارة اليمين قبل اليمين وأبطل أن تكون كفارة الحلق كفارة له إلا بعد الحلق فرق من أصل أو نظير؟ فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله.
فإن اعتلّ في كفارة اليمين قبل اليمين أنها غير مجزئة قبل الحلف بإجماع الأمة، قيل له فردّ الأخرى قياسا عليها إن كان فيها اختلاف.
وأما القائلون إن الواجب على الحالق رأسه من أذى من الصيام: عشرة أيام، ومن الإطعام: عشرة مساكين فمخالفون نصّ الخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيقال لهم: أرأيتم من أصاب صيدا فاختار الإطعام أو الصيام، أتسوّون بين جميع ذلك بقتله الصيد صغيره وكبيره من الإطعام والصيام، أم تفرّقون بين ذلك على قدر افتراق المقتول من الصيد في الصغر والكبر؟ فإن زعموا أنهم يسوون بين جميع ذلك سوّوا بين ما يجب على من قتل بقرة وحشية وبين ما يجب على من قتل ولد ظبية من الإطعام والصيام وذلك قول إن قالوه لقول الأمة مخالف. وإن قالوا: بل نخالف بين ذلك، فنوجب ذلك عليه على قدر قيمة المصاب من الطعام والصيام. قيل: فكيف رددتم الواجب على الحالق رأسه من أذى من الكفارة على الواجب على المتمتع من الصوم، وقد علمتم أن المتمتع غير مخير بين الصيام والإطعام والهدي، ولا هو متلف شيئا وجبت عليه منه الكفارة، وإنما هو تارك عملاً من الأعمال، وتركتم ردّ الواجب عليه وهو متلف بحلق رأسه ما كان ممنوعا من إتلافه، ومخير بين الكفارات الثلاث، نظير مصيب الصيد، الذي هو بإصابته إياه له متلف ومخير في تكفيره بين الكفارات الثلاث؟ وهل بينكم وبين من خالفكم في ذلك وجعل الحالق قياسا لمصيب الصيد، وجمع بين حكميهما لاتفاقهما في المعاني التي وصفنا، وخالف بين حكمه وحكم المتمتع في ذلك لاختلاف أمرهما فيما وصفنا فرق من أصل أو نظير؟ فلن يقولوا في ذلك قولاً إلا ألزموا في الاَخر مثله، مع أن اتفاق الحجة على تخطئة قائل هذا القول في قوله هذا كفاية عن الاستشهاد على فساده بغيره، فكيف وهو مع ذلك خلاف ما جاءت به الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقياس عليه بالفساد شاهد؟
واختلف أهل العلم في الموضع الذي أمر الله أن ينسك نسك الحلق ويطعم فديته، فقال بعضهم: النسك والإطعام بمكة لا يجزئ بغيرها من البلدان... عن الحسن، قال: ما كان من دم أو صدقة فبمكة، وما سوى ذلك حيث شاء.
[و] عن طاووس، قال: كل شيء من الحجّ فبمكة، إلا الصوم.
وقال آخرون: النسك في الحلق والإطعام والصوم حيث شاء المفتدي. وقال آخرون: ما كان من دم نسك فبمكة، وما كان من إطعام وصيام فحيث شاء المفتدي... وعلة من قال: الدم والإطعام بمكة، القياس على هدي جزاء الصيد وذلك أن الله شرط في هديه بلوغ الكعبة فقال: "يَحكُمُ بهَ ذَوا عَدْلٍ منكُم هدْيا بالغَ الكعبْةِ". قالوا: فكل هدي وجب من جزاء أو فدية في إحرام، فسبيله سبيل جزاء الصيد في وجوب بلوغه الكعبة. قالوا: وإذا كان ذلك حكم الهدي كان حكم الصدقة مثله، لأنها واجبة لمن وجب عليه الهدي، وذلك أن الإطعام فدية وجزاء كالدم، فحكمهما واحد.
وأما علة من زعم أن للمفتدي أن ينسك حيث شاء ويتصدّق ويصوم أن الله لم يشترط على الحالق رأسه من أذى هديا، وإنما أوجب عليه نسكا أو إطعاما أو صياما، وحيثما نسك أو أطعم أو صام فهو ناسك ومطعم وصائم، وإذا دخل في عداد من يستحقّ ذلك الاسم كان مؤدّيا ما كلفه الله، لأن الله لو أراد من إلزام الحالق رأسه في نسكه بلوغ الكعبة لشرط ذلك عليه، كما شرط في جزاء الصيد، وفي ترك اشتراط ذلك عليه دليل واضح، أنه حيث نسك أو أطعم أجزأ.
وأما علة من قال: النسك بمكة والصيام والإطعام حيث شاء، فالنسك دم كدم الهدي، فسبيله سبيل هدي قاتل الصيد.
وأما الإطعام فلم يشترط الله فيه أن يصرف إلى أهل مسكنة مكان دون مكان، كما شرط في هدي الجزاء بلوغ الكعبة، فليس لأحد أن يدّعي أن ذلك لأهل مكان دون مكان، إذْ لم يكن الله شرط ذلك لأهل مكان بعينه، كما ليس لأحد أن يدّعى أن ما جعله الله من الهدي لساكني الحرم لغيرهم، إذ كان الله قد خصّ أن ذلك لمن به من أهل المسكنة.
والصواب من القول في ذلك، أن الله أوجب على حالق رأسه من أذى من المحرمين فدية من صيام أو صدقة أو نسك، ولم يشترط أن ذلك عليه بمكان دون مكان، بل أبهم ذلك وأطلقه، ففي أي مكان نسك أو أطعم أو صام فيجزي عن المفتدي، وذلك لقيام الحجة على أن الله إذ حرم أمهات نسائنا فلم يحصرهن على أنهن أمهات النساء المدخول بهن لم يجب أن يكنّ مردودات الأحكام على الربائب المحصورات على أن المحرمة منهن المدخول بأمها، فكذلك كل مبهمة في القرآن غير جائز ردّ حكمها على المفسرة قياسا، ولكن الواجب أن يحكم لكل واحدة منهما بما احتمله ظاهر التنزيل إلا أن يأتي في بعض ذلك خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم بإحالة حكم ظاهره إلى باطنه، فيجب التسليم حينئذ لحكم الرسول، إذ كان هو المبين عن مراد الله. وأجمعوا على أن الصيام مجزئ عن الحالق رأسه من أذى حيث صام من البلاد.
واختلفوا فيما يجب أن يفعل بنسك الفدية من الحلق، وهل يجوز للمفتدي الأكل منه أم لا؟ فقال بعضهم: ليس للمفتدي أن يأكل منه، ولكن عليه أن يتصدّق بجميعه... عن عطاء، قال: ثلاث لا يؤكل منهنّ: جزاء الصيد، وجزاء النسك، ونذر المساكين.
وعلة من حظر على المفتدي الأكل من فدية حلاقه وفدية ما لزمته منه الفدية، أن الله أوجب على الحالق والمتطيب ومن كان بمثل حالهم فدية من صيام أو صدقة أو نسك، فلن يخلو ذلك الذي أوجبه عليه من الإطعام والنسك من أحد أمرين: إما أن يكون أوجبه عليه لنفسه أو لغيره أو له ولغيره، فإن كان أوجبه لغيره فغير جائز له أن يأكل منه، لأن ما لزمه لغيره فلا يجزيه فيه إلا الخروج منه إلى من وجب له أو يكون له وحده، وما وجب له فليس عليه لأنه غير مفهوم في لغة أن يقال: وجب على فلان لنفسه دينار أو درهم أو شاة، وإنما يجب له على غيره، فأما على نفسه فغير مفهوم وجوبه. أو يكون وجب عليه له ولغيره، فنصيبه الذي وجب له من ذلك غير جائز أن يكون عليه لما وصفنا. وإذا كان ذلك كذلك كان الواجب عليه ما هو لغيره وما هو لغيره بعض النسك، وإذا كان ذلك كذلك فإنما وجب عليه بعض النسك لا النسك كله.
قالوا: وفي إلزام الله إياه النسك تاما ما يبين عن فساد هذا القول.
وعلة من قال له أن يأكل من ذلك أن الله أوجب على المفتدي نسكا، والنسك في معاني الأضاحي وذلك هو ذبح ما يجزي في الأضاحي من الأزواج الثمانية.
قالوا: ولم يأمر الله بدفعه إلى المساكين. قالوا: فإذا ذبح فقد نسك، وفعل ما أمره الله، وله حينئذ الأكل منه، والصدقة منه بما شاء، وإطعام ما أحبّ منه من أحب، كما له ذلك في أضحيته.
والذي نقول به في ذلك: أن الله أوجب على المفتدي نسكا إن اختار التكفير بالنسك، ولن يخلو الواجب عليه في ذلك من أن يكون ذبحه دون غيره، أو ذبحه والتصدّق به. فإن كان الواجب عليه في ذلك ذبحه، فالواجب أن يكون إذا ذبح نسكا فقد أدى ما عليه، وإن أكل جميعه ولم يطعم مسكينا منه شيئا، وذلك ما لا نعلم أحدا من أهل العلم قاله، أو يكون الواجب عليه ذبحه والصدقة به فإن كان ذلك عليه، فغير جائز له أكل ما عليه أن يتصدّق به، كما لو لزمته زكاة في ماله لم يكن له أن يأكل منها، بل كان عليه أن يعطيها أهلها الذين جعلها الله لهم. ففي إجماعهم على أن ما ألزمه الله من ذلك فإنما ألزمه لغيره، دلالة واضحة على حكم ما اختلفوا فيه من غيره.
ومعنى النسك: الذبح لله في لغة العرب، يقال: نسك فلان لله نسيكة، بمعنى: ذبح لله ذبيحة يَنْسكها نَسكا.
"فإذَا أمِنْتُمْ"،اختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛ فقال بعضهم: معناه: فإذا برأتم من مرضكم الذي أحصركم عن حجكم أو عمرتكم. وقال آخرون: معنى ذلك: فإذا أمنتم من وجع خوفكم. عن الربيع: "فإذَا أمِنْتُمْ" قال: إذا أمن من خوفه، وبرأ من مرضه.
وهذا القول أشبه بتأويل الآية، لأن الأمن هو خلاف الخوف، لا خلاف المرض، إلا أن يكون مرضا مخوفا منه الهلاك، فيقال: فإذا أمنتم الهلاك من خوف المرض وشدته، وذلك معنى بعيد.
وإنما قلنا: إن معناه الخوف من العدو لأن هذه الآيات نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الحديبية وأصحابه من العدو خائفون، فعرفهم الله بها ما عليهم إذا أحصرهم خوف عدوهم عن الحج، وما الذي عليهم إذا هم أمنوا من ذلك، فزال عنهم خوفهم.
"فَمَنْ تَمَتّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ": فإن أحصرتم أيها المؤمنون، فما استيسر من الهدي، فإذا أمنتم فزال عنكم خوفكم من عدوكم أو هلاككم من مرضكم فتمتعتم بعمرتكم إلى حجكم، فعليكم ما استيسر من الهدي.
ثم اختلف أهل التأويل في صفة التمتع الذي عنى الله بهذه الآية؛ فقال بعضهم: هو أن يحصره خوف العدو، وهو محرم بالحج أو مرض أو عائق من العلل حتى يفوته الحج، فيقدم مكة، فيخرج من إحرامه بعمل عمرة، ثم يحل فيستمتع بإحلاله من إحرامه ذلك إلى السنة المستقبلة، ثم يحج ويهدي، فيكون متمتعا بالإحلال من لدن يحل من إحرامه الأوّل إلى إحرامه الثاني من القابل. وقال آخرون: بل معنى ذلك: فإن أحصرتم في حجكم فما استيسر من الهدي، فإذا أمنتم وقد حللتم من إحرامكم ولم تقضوا عمرة تخرجون بها من إحرامكم بحجكم ولكن حللتم حين أحصرتم بالهدي وأخرتم العمرة إلى السنة القابلة فاعتمرتم في أشهر الحج ثم حللتم فاستمتعتم بإحلالكم إلى حجكم، فعليكم ما استيسر من الهدي.
وقال آخرون: عَنَى بذلك المحصر وغير المحصر. وقال آخرون: معنى ذلك: فمن فسخ حجه بعمرة، فجعله عمرة، واستمتع بعمرته إلى حجه، فعليه ما استيسر من الهدي. وقال آخرون: بل ذلك الرجل يقدم معتمرا من أفق من الاَفاق في أشهر الحج، فإذا قضى عمرته أقام حلالاً بمكة حتى ينشئ منها الحج، فيحج من عامه ذلك، فيكون مستمتعا بإحلال إلى إحرامه بالحج.
وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: عَنَى بها: فإن أحصرتم أيها المؤمنون في حجكم فما استيسر من الهدي، فإذا أمنتم فمن تمتع ممن حلّ من إحرامه بالحجّ بسبب الإحصار بعمرة اعتمرها لفوته الحجّ في السنة القابلة في أشهر الحجّ إلى قضاء الحجة التي فاتته حين أحصر عنها، ثم دخل في عمرته فاستمتع بإحلاله من عمرته إلى أن يحجّ، فعليه ما استيسر من الهدي، وإن كان قد يكون متمتعا من أنشأ عمرة في أشهر الحجّ وقضاها ثم حلّ من عمرته وأقام حلالاً حتى يحجّ من عامه غير أن الذي هو أولى بالذي ذكره الله في قوله: "فَمَنْ تَمَتّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحَجّ" هو ما وصفنا من أجل أن الله جل وعز أخبر عما على المحصر عن الحجّ والعمرة من الأحكام في إحصاره، فكان مما أخبر تعالى ذكره أنه عليه إذا أمن من إحصاره فتمتع بالعمرة إلى الحجّ ما استيسر من الهدي، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، كان معلوما بذلك أنه معنيّ به اللازم له عند أمنه من إحصاره من العمل بسبب الإحلال الذي كان منه في حجه الذي أحصر فيه دون المتمتع الذي لم يتقدم عمرته ولا حجه إحصار مرض ولا خوف.
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ}: فما استيسر من الهدي، فهَدْيه جزاء لاستمتاعه بإحلاله من إحرامه الذي حلّ منه حين عاد لقضاء حجته التي أحصر فيها وعمرته التي كانت لزمته بفوت حجته، فإن لم يجد هديا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحجّ في حجه وسبعة إذا رجع إلى أهله.
ثم اختلف أهل التأويل في الثلاثة أيام التي أوجب الله عليه صومهنّ في الحجّ أي أيّ أيام الحجّ هن؟ فقال بعضهم: هن ثلاثة أيام من أيام حجه، أيّ أيام شاء بعد أن لا يتجاوز بآخرهن يوم عرفة. وقال آخرون: بل آخرهن انقضاء يوم منى. وقال آخرون: يصومهنّ في عشر ذي الحجة دون غيرها. وقال آخرون: له أن يصومهن قبل الإحرام بالحج.
وقال آخرون: لا يجوز أن يصومهنّ إلا بعد ما يحرم بالحج. والصواب من القول في ذلك عندي أن للمتمتع أن يصوم الأيام الثلاثة التي أوجب الله عليه صومهنّ لمتعته إذا لم يجد ما استيسر من الهدي من أول إحرامه بالحج بعد قضاء عمرته واستمتاعه بالإحلال إلى حجه إلى انقضاء آخر عمل حجه وذلك بعد انقضاء أيام منى سوى يوم النحر، فإنه غير جائز له صومه ابتدأ صومهن قبله أو ترك صومهن فأخره حتى انقضاء يوم عرفة.
وإنما قلنا: له صوم أيام التشريق، لما ذكرنا من العلة لقائل ذلك قَبْلُ، فإن صامهنّ قبل إحرامه بالحج فإنه غير مجزئ صومه ذلك من الواجب عليه من الصوم الذي فرضه الله عليه لمتعته وذلك أن الله جل وعز إنما أوجب الصوم على من لم يجد هديا ممن استمتع بعمرته إلى حجه، فالمعتمر قبل إحلاله من عمرته وقبل دخوله في حجه غير مستحق اسم متمتع بعمرته إلى حجه، وإنما يقال له قبل إحرامه معتمر حتى يدخل بعد إحلاله في الحج قبل شخوصه عن مكة، فإذا دخل في الحج محرما به بعد قضاء عمرته في أشهر الحج ومقامه بمكة بعد قضاء عمرته حلالاً حتى حج من عامه سمي متمتعا. فإذا استحقّ اسم متمتع لزمه الهدي، وحينئذ يكون له الصوم بعدمه الهدي إن عدمه فلم يجده. فأما إن صامه قبل دخوله في الحجّ وإن كان من نيته الحج، فإنما هو رجل صام صوما ينوي به قضاء عما عسى أن يلزمه أو لا يلزمه، فسبيله سبيل رجل معسر صام ثلاثة أيام ينوي بصومهن كفارة يمين ليمين يريد أن يحلف بها ويحنث فيها، وذلك ما لا خلاف بين الجميع أنه غير مجزئ من كفارة إن حلف بها بعد الصوم فحنث.
فإن ظن ظانّ أن صوم المعتمر بعد إحلاله من عمرته أو قبله وقبل دخوله في الحج مجزئ عنه من الصوم الذي أوجبه الله عليه إن تمتع بعمرته إلى الحج، نظير ما أجزأ الحالف بيمين إذا كفر عنها قبل حنثه فيها بعد حلفه بها فقد ظن خطأ لأن الله جعل ثناؤه جعل لليمين تحليلاً هو غير تكفير، فالفاعل فيها قبل الحنث فيها ما يفعله المكفر بعد حنثه فيها محلل غير مكفر. والمتمتع إذا صام قبل تمتعه صائم تكفيرا لما يظنّ أنه يلزمه ولما يلزمه، وهو كالمكفر عن قتل صيد يريد قتله وهو محرم قبل قتله، وعن تطيب قبل تطيبه.
ومن أبى ما قلنا في ذلك ممن زعم أن للمعتمر الصوم قبل إحرامه بالحج، قيل له: ما قلت فيمن كفَّر من المحرمين عن الواجب على من ترك رمي الجمرات أيام منى يوم عرفة، وهو ينوي ترك الجمرات، ثم أقام بمنى أيام منى حتى انقضت تاركا رمي الجمرات، هل يجزيه تكفيره ذلك عن الواجب عليه في ترك ما ترك من ذلك؟ فإن زعم أن ذلك يجزيه، سئل عن مثل ذلك في جميع مناسك الحجّ التي أوجب الله في تضييعه على المحرم أو في فعله كفارة، فإن سوّى بين جميع ذلك فاد قوله، وسئل عن نظير ذلك في العازم على أن يجامع في شهر رمضان، وهو مقيم صحيح إذا كفَّر قبل دخول الشهر، ودخل الشهر ففعل ما كان عازما عليه هل تجزيه كفارته التي كفَّر عن الواجب من وطئه ذلك، وكذلك يسئل عمن أراد أن يظاهر من امرأته، فإن فاد قوله في ذلك، خرج من قول جميع الأمة. وإن أبى شيئا من ذلك، سئل الفرق بينه وبين الصائم لمتعته قبل تمتعه وقبل إحرامه بالحجّ، ثم عكس عليه القول في ذلك، فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الاَخر مثله.
{وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتمْ}: فمن لم يجد ما استيسر من الهدي، فعليه صيام ثلاثة أيام في حجه وصيام سبعة أيام إذا رجع إلى أهله ومصره.
فإن قال لنا قائل: أو ما يجب عليه صوم السبعة الأيام بعد الأيام الثلاثة التي يصومهن في الحجّ إلا بعد رجوعه إلى مصره وأهله؟ قيل: بل قد أوجب الله عليه صوم الأيام العشرة بعدم ما استيسر من الهدي لمتعته، ولكن الله تعالى ذكره رأفة منه بعباده رخص لمن أوجب ذلك عليه، كما رخص للمسافر والمريض في شهر رمضان الإفطار وقضاء عدّة ما أفطر من الأيام من أيام أخر. ولو تحمل المتمتع فصام الأيام السبعة في سفره قبل رجوعه إلى وطنه، أو صامهنّ بمكة، كان مؤدّيا ما عليه من فرض الصوم في ذلك، وكان بمنزلة الصائم شهر رمضان في سفره أو مرضه، مختارا للعسر على اليسر.
فإن قال: وما برهانك على أن معنى قوله: وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ إذا رجعتم إلى أهليكم وأمصاركم دون أن يكون معناه: إذا رجعتم من منى إلى مكة؟ قيل: إجماع جميع أهل العلم على أن معناه ما قلنا دون غيره. "تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ"؛
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "كامِلَةٌ"؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: فصيام الثلاثة الأيام في الحج والسبعة الأيام بعد ما يرجع إلى أهله عشرة كاملة من الهدي. وقال آخرون: بل معنى ذلك: كملت لكم أجر من أقام على إحرامه ولم يحلّ ولم يتمتع تمتعكم بالعمرة إلى الحج.
وقال آخرون: معنى ذلك الأمر وإن كان مخرجه مخرج الخبر، وإنما عنى بقوله: "تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ": تلك عشرة أيام فأكملوا صومها لا تقصروا عنها، لأنه فرض عليكم صومها.
وقال آخرون: بل قوله: "كامِلَةٌ" توكيد للكلام، كما يقول القائل: سمعته بأذني ورأيته بعيني، وكما قال: "فَخَرّ عَلَيهِمُ السّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ" ولا يكون الخرّ إلا من فوق، فأما من موضع آخر فإنما يجوز على سعة الكلام.
وقال آخرون: إنما قال: "تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ" وقد ذكر سبعة وثلاثة، لأنه إنما أخبر أنها مجزئة وليس يخبر عن عدّتها، وقالوا: ألا ترى أن قوله: «كاملة» إنما هو وافية.
وأولى هذه الأقوال عندي قول من قال: معنى ذلك تلك عشرة كاملة عليكم فرضنا إكمالها. وذلك أنه جل ثناؤه قال: فمن لم يجد الهدي فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع، ثم قال: تلك عشرة أيام عليكم إكمال صومها لمتعتكم بالعمرة إلى الحج. فأخرج ذلك مخرج الخبر، ومعناه الأمر بها.
{ذَلِكَ لَمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري المَسْجِدِ الحَرَامِ}: ذَلِكَ: أي التمتع بالعمرة إلى الحجّ لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام... عن الربيع: ذَلِكَ لَمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري المَسْجِدِ الحَرَامِ يعني المتعة أنها لأهل الاَفاق، ولا تصلح لأهل مكة.
ثم اختلف أهل التأويل فيمن عنى بقوله: "ذَلِكَ لَمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري المَسْجِدِ الحَرَامِ" بعد إجماع جميعهم على أن أهل الحرم معنيون به، وأنه لا متعة لهم. فقال بعضهم: عنى بذلك أهل الحرم خاصة دون غيرهم. وقال آخرون: عنى بذلك أهل الحرم ومن كان منزله دون المواقيت إلى مكة. وقال بعضهم: بل عنى بذلك أهل الحرم، ومن قرب منزله منه. وأولى الأقوال في ذلك بالصحة عندنا قول من قال: إن حاضري المسجد الحرام من هو حوله ممن بينه وبينه من المسافة ما لا تقصر إليه الصلوات لأن حاضر الشيء في كلام العرب هو الشاهد له بنفسه. وإذا كان ذلك كذلك، وكان لا يستحق أن يسمى غائبا إلا من كان مسافرا شاخصا عن وطنه، وكان المسافر لا يكون مسافرا إلا بشخوصه عن وطنه إلى ما تقصر في مثله الصلاة، وكان من لم يكن كذلك لا يستحق اسم غائب عن وطنه ومنزله، كان كذلك من لم يكن من المسجد الحرام على ما تقصر إليه الصلاة غير مستحقّ أن يقال: هو من غير حاضريه إذ كان الغائب عنه هو من وصفنا صفته.
وإنما لم تكن المتعة لمن كان من حاضري المسجد الحرام من أجل أن التمتع إنما هو الاستمتاع بالإحلال من الإحرام بالعمرة إلى الحجّ مرتفقا في ترك العود إلى المنزل والوطن بالمقام بالحرم حتى ينشئ منه الإحرام بالحجّ، وكان المعتمر متى قضى عمرته في أشهر الحجّ ثم انصرف إلى وطنه، أو شخص عن الحرم إلى ما تقصر فيه الصلاة، ثم حجّ من عامه ذلك، بطل أن يكون مستمتعا لأنه لم يستمتع بالمرفق الذي جعل للمستمتع من ترك العود إلى الميقات والرجوع إلى الوطن بالمقام في الحرم، وكان المكيّ من حاضري المسجد الحرام لا يرتفق بذلك من أجل أنه متى قضى عمرته أقام في وطنه بالحرم، فهو غير مرتفق بشيء مما يرتفق به من لم يكن أهله من حاضري المسجد الحرام فيكون متمتعا بالإحلال من عمرته إلى حجه.
{وَاتّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ شَدِيدُ العِقابِ}: واتقوا الله بطاعته فيما ألزمكم من فرائضه وحدوده، واحذروا أن تعتدوا في ذلك وتتجاوزوا فيما بيّن لكم من مناسككم، فتستحلوا ما حرّم فيها عليكم. "واعْلَمُوا": تيقنوا أنه تعالى ذكره شديد عقابه لمن عاقبه على ما انتهك من محارمه وركب من معاصيه.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلى الْحَجِّ فَمَا استَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} اختلفوا في هذا المتمتع على ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه المُحْصَرُ بالحج، إذا حَلَّ منه بالإحصار، ثم عاد إلى بلده متمتعاً بعد إحلاله، فإذا قضى حجَّه في العام الثاني، صار متمتعاً بإحلالٍ بيْن الإحْرَامَين، وهذا قول الزبير.
والثاني: فمن نسخ حَجَّهُ بعمرة، فاستمتع بعمرة بعد فسخ حَجِّهِ، وهذا قول السدي.
والثالث: فمن قَدِمَ الحرم معتمراً في أشهر الحج، ثم أقام بمكة حتى أحرم منها بالحج في عامِهِ، وهذا قول ابن عباس، وابن عمر، ومجاهد، وعطاء، والشافعي.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا}، فِيهِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَحْرِمُوا بِهِمَا مِنْ دِيَارِكُمْ؛ قَالَهُ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَسُفْيَانُ.
الثَّانِي: أَتِمُّوهُمَا إلَى الْبَيْتِ؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ.
الثَّالِثُ: بِحُدُودِهِمَا وَسُنَنِهِمَا؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
الرَّابِعُ: أَلَّا يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا؛ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ.
الْخَامِسُ: أَلَّا يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ.
السَّادِسُ: إتْمَامُهُمَا إذَا دَخَلَ فِيهِمَا؛ قَالَهُ مَسْرُوقٌ.
السَّابِعُ: أَلَا يَتَّجِرَ مَعَهُمَا. قَالَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حَقِيقَةُ الْإِتْمَامِ لِلشَّيْءِ اسْتِيفَاؤُهُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَشُرُوطِهِ، وَحِفْظُهُ مِنْ مُفْسِدَاتِهِ وَمُنْقِصَاتِهِ. وَكُلُّ الْأَقْوَالِ مُحْتَمَلٌ فِي مَعْنَى الْآيَةِ؛ إلَّا أَنَّ بَعْضَهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {لِلَّهِ}. الْأَعْمَالُ كُلُّهَا لِلَّهِ، خَلْقٌ وَتَقْدِيرٌ، وَعِلْمٌ وَإِرَادَةٌ، وَمَصْدَرٌ وَمَوْرِدٌ، وَتَصْرِيفٌ وَتَكْلِيفٌ؛ وَفَائِدَةُ هَذَا التَّخْصِيصِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَقْصِدُ الْحَجَّ لِلِاجْتِمَاعِ وَالتَّظَاهُرِ، وَالتَّنَاضُلِ وَالتَّنَافُرِ، وَالتَّفَاخُرِ وَقَضَاءِ الْحَوَائِجِ، وَحُضُورِ الْأَسْوَاقِ؛ وَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهِ حَظٌّ يُقْصَدُ، وَلَا قُرْبَةٌ تُعْتَقَدُ؛ فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْقَصْدِ إلَيْهِ لِأَدَاءِ فَرْضِهِ وَقَضَاءِ حَقِّهِ، ثُمَّ سَامَحَ فِي التِّجَارَةِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ...
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ}. قَالَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَائِنَا: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} إنَّهُ إحْصَارُ الْعَدُوِّ؛ لِأَنَّ الْأَمْنَ يَكُونُ مِنْ خَوْفِ الْعَدُوِّ، وَالْبُرْءُ يَكُونُ مِنْ الْمَرَضِ، وَإِلَيْهِ مَالَ مَنْ احْتَجَّ عَن ابْنِ الْقَاسِمِ بِأَنْ لَا هَدْيَ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَلَا نَقُولُ هَكَذَا، بَلْ زَوَالُ كُلِّ أَلَمٍ مِنْ مَرَضٍ، وَهُوَ أَمْنٌ، وَجَاءَ بِلَفْظِ الْأَمْنِ، وَهُوَ عَامٌّ، كَمَا جَاءَ بِلَفْظِ "أُحْصِرَ "وَهُوَ عَامٌّ فِي الْعَدُوِّ وَالْمَرَضِ؛ لِيَكُونَ آخِرُ الْكَلَامِ عَلَى نِظَامِ أَوَّلِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ}. الْمَعْنَى أَكْمِلُوا مَا بَدَأْتُمْ بِهِ مِنْ عِبَادَةٍ، مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، إلَّا أَنْ يَمْنَعَكُمْ مَانِعٌ؛ فَإِنْ كَانَ مَانِعٌ حَلَلْتُمْ حَيْثُ حُبِسْتُمْ وَتَرَكْتُمْ مَا مُنِعْتُمْ مِنْهُ، وَيَجْزِيكُمْ مَا اسْتَيْسَرَ مِن الْهَدْيِ بَعْدَ حَلْقِ رُءُوسِكُمْ؛ فَإِذَا أَمِنْتُمْ -أَيْ زَالَ الْمَانِعُ، وَقَدْ كُنْتُمْ حَلَلْتُمْ عَنْ عُمْرَةٍ فَحَجَجْتُمْ، فَعَلَيْكُمْ مَا اسْتَيْسَرَ مِن الْهَدْيِ.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
قوله تعالى:"أو نسك" النسك: جمع نسيكة، وهي الذبيحة ينسكها العبد لله تعالى. ويجمع أيضا على نسائك. والنسك: العبادة في الأصل، ومنه قوله تعالى: "وأرنا مناسكنا "[البقرة: 128] أي متعبداتنا. وقيل: إن أصل النسك في اللغة الغسل، ومنه نسك ثوبه إذا غسله، فكأن العابد غسل نفسه من أدران الذنوب بالعبادة. وقيل: النسك سبائك الفضة، كل سبيكة منها نسيكة، فكأن العابد خلص نفسه من دنس الآثام وسبكها.
قال بعض الطلبة: فيبقى السؤال لأيّ شيء لم يقل: فهي عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ؟ فقال ابن عرفة: « تِلْكَ» القصد بها التعظيم. قال ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بأن القاعدة أنّ الصوم المتتابع أعظم ثوابا من المفرّق، فقد يتوهّم بتفريقها أن ثوابها أقل من ثوابها لو كانت مجموعة (فأشار بقوله « عشرة» إلى أن ثوابها على هذه الصفة أعْظَمُ من ثوابها لو كانت مجموعة فرعا عن أن) يكون مثله ولذلك قال: « كاملة»...
قوله تعالى: {ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام...}. قال ابن عرفة: يؤخذ فيمن له أهل بمكة وأهل بغيرها. فقد قال الإمام مالك رضي الله عنه: إنها من مشبَّهات الأمور يؤخذ منه أن حكمه حكم الحاضر بدليل قول (مالك) في المسافر: إذا سافر ومر ببلد له فيها أهل فإنه يتمّ الصلاة كالمقيم...
قوله تعالى: {واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب}. دليل على أنّ الطلب المتقدم قبل هذا كله للوجوب...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ختم آيات القتال بالنفقة في سبيل الله لشدة حاجة الجهاد إليها وكان سبيل الله اسماً يقع على الحج كما يقع على الجهاد كما ورد في الحديث "الحج من سبيل الله "رجع إلى الحج والعمرة المشير إليهما {مثابة للناس} [البقرة: 125] و {إن الصفا والمروة} [البقرة: 158] الآية، و {مواقيت للناس والحج} ولا سيما وآيات القتال هذه إنما نظمت ههنا بسببهما توصيلاً إليهما بعضها سببه عمرة الحديبية التي صدّ المشركون عنها، فكان كأنه قيل: مواقيت للناس والحج فحجوا واعتمروا أي تلبسوا بذلك وإن صددتم عنه وقاتلوا في سبيل الله من قاتلكم في وجهكم ذلك لينفتح لكم السبيل،
ولما كان ذلك بعد الفتح ممكناً لا صاد عنه عبر بالإتمام فقال: {وأتموا} أي بعد فتح السبيل بالفتح {الحج والعمرة} بمناسكهما وحدودهما وشرائطهما وسننهما.
ولما تقدم الإنفاق في سبيل الله والقتال في سبيل الله نبه هنا على أن ذلك كلّه إنما هو لتقام العبادات التي هي مبنى الإسلام له سبحانه وتعالى فقال: {لله} الملك الذي لا كفوء له أي لذاته، ولم يضمر لئلا يتقيد بقيد...
ولما كان الحاج هو الشعث التفل أشار إلى حرمة التعرض لشعره بقوله: {ولا تحلقوا رؤوسكم} أي شعرها إذا كنتم محرمين بحج أو عمرة، من الحلق.
قال الحرالي: وهو إزالة ما يتأتى للزوال بالقطع من الآلة الماضية في عمله، والرأس مجتمع الخلقة ومجتمع كل شيء رأسه...
قال الحرالي: والهدي ما تقرب به الأدنى للأعلى وهو اسم ما يتخذ فداء من الأنعام بتقديمه إلى الله سبحانه وتعالى وتوجيهه إلى البيت العتيق، وفي تعقيب الحلق بالهدي إشعار باشتراكهما في معنى واحد وهو الفداء،
والهدي في الأصل فداء لذبح الناسك نفسه لله سنة إبراهيم في ولده عليهما الصلاة والسلام، وإزالة الشعر فداء من جزاء لرأس لله، ولذلك لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن تقديم أحدهما على الآخر قال: "افعل ولا حرج"، لأن الجميع غاية بالمعنى الشامل للفداء...
{فمن تمتع} أي تلذذ باستباحة دخوله إلى الحرم بإحرامه في أشهر الحج على مسافة القصر من الحرم {بالعمرة} ليستفيد الحل حين وصوله إلى البيت ويستمر حلالاً في سفره ذلك {إلى الحج} أي إحرامه به من عامة ذلك من مكة المشرفة من غير رجوع إلى الميقات
{فما} أي فعليه ما {استيسر} وجد اليسر به {من الهدي} من النعم يكون هذا الهدي لأجل ما تمتع به بين النسكين من الحل وهو مسافر، هذا للمتمتع وأما القارن فلجمعه بين النسكين في سفر واحد وشأنهما أن يكونا في وقتين وقت حل ووقت حرم، وفي العبارة إشعار بصحة إرداف الحج على العمرة لأنه ترق من إحرام أدنى إلى إحرام أعلى...
{فمن لم يجد} أي هدياً، من الوجد وهو الطول والقدرة... ولما كان زمن الصومين مختلفاً قال: {كاملة} نفياً لتوهم أن الصوم بعد الإحلال دون ما في الإحرام، والكمال:
قال الحرالي: الانتهاء إلى الغاية التي ليس وراءها مزيد من كل وجه، وقال: فكما استوى حال الهدي في انتهائه إلى الحرم أو الحل كذلك استوى حال الصوم في البلد الحرام والبلد الحلال ليكون في إشارته إشعار بأن الأرض لله مسجد كما أن البيت الحرام لله مسجد فأظهر معنى استوائهما في الكمال في حكم الأجر لأهل الأجور والقبول لأهل القبول والرضاء لأهل الرضاء والوصول لأهل الوجهة كل عامل على رتبة عمله...
ولو قال: تامة، لم يفد هذا لأن التمام قد يكون في العدد مع خلل بعض الأوصاف...
ولما كثرت الأوامر في هذه الآيات وكان لا يحمل على امتثالها إلا التقوى أكثر تعالى فيها من الأمر بها. قال الحرالي: لما تجره النفوس من مداخل نقص في النيات والأعمال والتنقلات من الأحكام إلى أبدالها فما انبنى على التقوى خلص ولو قصر...
ولما كان من الأوامر ما هو معقول المعنى ومنها ما هو تعبدي وكان عقل المعنى يساعد على النفس في الحمل على امتثال الأمر ناسب اقتران الأمر به بالترغيب كما قال: {واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب} [البقرة: 196]
ولما كان امتثال ما ليس بمعقول المعنى من عند قوله: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة: 196] شديداً على النفس مع جماحها عن جميع الأوامر ناسب اقترانه بالتهديد فكان ختامه بقوله: {واتقوا} أي فافعلوا جميع ذلك واحملوا أنفسكم على التحري فيه والوقوف عند حدوده ظاهراً وباطناً واتقوا {الله} أي اجعلوا بينكم وبين غضب هذا الملك الأعظم وقاية،
وأكد تعظيم المقام بالأمر بالعلم وتكرير الاسم الأعظم ولئلا يفهم الإضمار تقييد شديد عقابه بخشية مما مضى فقال: {واعلموا} تنبيهاً على أن الباعث على المخافة إنما هو العلم، {أن الله} أي الذي لا يداني عظمته شيء {شديد العقاب} وهو الإيلام الذي يتعقب به جرم سابق؛ هذا مع مناسبة هذا الختام لما بعده من النهي عن الرفث وما في حيزه، ومن تدبر الابتداء عرف الختم ومن تأمل الختم لاح له الابتداء...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قوله تعالى: {تلك عشرة كاملة} إشارة إلى الثلاثة والسبعة مبين لجملة العدد الواجب كما بين تفصيله ومزيل لوهم من عساه يتوهم أن الواو العاطفة للسبعة للتخيير كما عليه بعض العرب في مثل: جالس الحسن وابن سيرين.
وروي أن بعض العرب كانوا يستعملون عدد السبعة للكثرة في الآحاد كما يستعملون عدد السبعين لغاية الكثرة فالفذلكة تزيل وهم هؤلاء أيضا ولذلك أكدها بقوله كاملة. قال الأستاذ الإمام إن الله تعالى إذا أراد أن يقرر حكما وكان في التعبير المألوف عنه ما يوهم خلاف المقصود ولو لبعض المخاطبين يأتي بما يؤكد الحكم وينفي أدنى وهم يعرض فيه ولذلك وصف كتابه بالمبين وبالتبيان. وإذا كان هذا شأنه فيستحيل أن يطلق في مقام بيان الأحكام القول في نفي شيء بصيغة الإثبات كما قدر بعضهم النفي في قوله: {وعلى الذين يطيقونه فدية} (البقرة: 184)...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
بعد ذلك يجيء الحديث عن الحج والعمرة وشعائرهما. والتسلسل في السياق واضح بين الحديث عن الأهلة وإنها مواقيت للناس والحج؛ والحديث عن القتال في الأشهر الحرم وعن المسجد الحرام؛ والحديث عن الحج والعمرة وشعائرهما في نهاية الدرس نفسه...
وأول ما يلاحظ في بناء الآية هو تلك الدقة التعبيرية في معرض التشريع، وتقسيم الفقرات في الآية لتستقل كل فقرة ببيان الحكم الذي تستهدفه. ومجيء الاستدراكات على كل حكم قبل الانتقال إلى الحكم التالي..
ثم ربط هذا كله في النهاية بالتقوى ومخافة الله... {واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب}.. وهذه الأحكام ضمان القيام بها هو هذه التقوى، وهي مخافة الله، وخشية عقابه. والإحرام بصاحبه تحرج. فإذا أباح لهم الإحلال فترة أقام تقوى الله وخشيته في الضمير، تستجيش فيه هذا [الشعور]، وتقوم بالحراسة في انتباه
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
هاتان الآيتان متصلتان بما قبلهما أوثق الاتصال، وذلك بأن الآيات الكريمات من قوله تعالى: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر...} (البقرة 177) فيها تنظيم للجماعة الفاضلة، ببيان حق الفقير في مال الغني، وبيان المساواة العادلة في تطبيق القوانين الإسلامية، لا فرق بين قوي ولا ضعيف، ولا شريف ووضيع، وبيان أن العقوبة تكون على قدر الجريمة، وإن في ذلك حياة الجماعة حياة فاضلة عادلة [و لكم في القصاص حياة...] (البقرة 179) وفيها تنظيم للأسرة بالتعاون بين آحادها، بأن يمد الغني الفقير بالهبات في الحياة، والوصايا بعد الوفاة، وفيها بيان لما يهذب النفس، ويقوي الروح فذكر الصيام، ثم فيه إشارة إلى الحج الذي يجمع في ثناياه بين إصلاح الآحاد في ذات أنفسهم، وإصلاح الجماعة وتنظيمها، وفي أحكامه تتلاقى ذرائع التنظيم الاجتماعي، والإصلاح النفسي، فهو في ذاته رحلة روحية يشارف المؤمن فيها المقام القدسي، إذ يحل في المكان الذي شرفه الله سبحانه بنسبته إليه، ووضع قواعده النبيون الصد يقون، وفيه الصدقات وإمداد الفقراء، بل في بعض كفاراته الصوم، وفيه التنظيم الاجتماعي العام بالتعارف بين المسلمين في كل البقاع، فكان حقا أن يجئ الحج بعد الأحكام المنظمة، والعبادات المصلحة للنفس، المهذبة للروح، لأنه يجمعها في أحكامه.
و لكن الحج في إبان نزول القرآن كان متعذرا أو متعسرا، لأن المزار الأكبر وهو البيت الحرام، والمشعر الحرام، كان المشركون قد سيطروا عليه، والأصنام تحيط به من كل جانب، وهم يمنعون المسلمين منه، والعداوة بينهم وبين النبي وصحبه مستعرة، فكان لابد من القتال للوصول إليه، وأداء تلك الشعيرة الإسلامية، لذلك جاء القتال بين الإشارة إليه بقوله تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها...189} (البقرة) وبين بيان بعض أحكامه في قوله تعالى: {و أتموا الحج والعمرة لله}.
ثم هناك ارتباط خاص بين أحكام القتال وأحكام الحج، لأن القتال جهاد لحماية الدولة في الخارج، والحج جهاد لتهذيب النفس وحماية الدولة الإسلامية في الداخل، بالجمع بين أقطارها، والتعارف العام بين شعوبها، ونشر المساواة العادلة بين آحادها، ولذلك لم يعتبر النبي صلى الله عليه وسلم عبادة تلي الجهاد في سبيل الله غير الحج لله...
و ما المراد بالمحل في الآية؟ أيراد به اسم زمان، أم يراد به اسم مكان؟ لاشك أن اللفظ يحتملهما، فيحتمل الزمان والمكان، وإن كان في المكان أظهر، وأقرب ورودا للخاطر، ولذلك كان لابد من السنة لمعرفة المراد يقينا، أو أن يستبين ذلك من آيات أخر، وقد قال الحنفية: إن المحل هو اسم مكان يراد به البيت الحرام، وقد تبين ذلك بالقرآن، فقد قال الله تعالى: [ثم محلها إلى البيت العتيق 33] (الحج)، والقرآن يفسر بعضه بعض، وعلى ذلك لا يصح للمحصر أن يحلق ويتحلل، حتى يصل الهدي الذي يرسله إلى البيت العتيق ويذبح، وقد تأيد ذلك بآية أخرى، وهي قوله تعالى: {هديا بالغ الكعبة...95} (المائدة)، ففيها التصريح بأن الهدي في الكعبة. وقد قال الجهور إن محل الهدي للمحصر هو المكان الذي كان فيه الإحصار، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فإن المسور بن مخرمة يروي:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما منع من البيت الحرام في تلك السنة وعقد الصلح قال لأصحابه: «قوموا فانحروا ثم احلقوا»، فوالله ما قام رجل منهم، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فقالت: يا نبي الله أتحب ذلك؟ أخرج ثم لا تكلم أحدا منهم بكلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك، ففعل، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا". فهذا يدل على أن محل الهدي للمحصر هو حيث الإحصار، وأنه إذا كان ممنوعا فإن الهدي قد يمنع أيضا. وقد أجاب الحنفية عن ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الحرم لا في الحل، فهو كان في محله، لأنه أحصر في طرف الحديبية القريب من مكة وهو من الحرم. و لاشك أن رأي جمهور الفقهاء مع السنة النبوية، وفيه تسهيل على المحصرين، والمناسب لحالهم هو التيسير لا التصعيب. ولا شك أن ذبحهم في المكان الذي أحصروا فيه أشد كلفة، والصدقة لا يتعين مكانها في الضيق، ولكن النص الكريم {حتى يبلغ الهدي محله} لا ينطبق تمام الانطباق على رأي الجمهور، إذا فسرنا المحل بالمكان، لأن البلوغ يقتضي مسافة بين المكانين، ولا ينطبق ذلك على مكان الحصر، بل ينطبق على مكان يكون فيه بلوغ، وإذا فسرنا المحل بالزمان تأتى معنى البلوغ بأن ينتظر المحصر حتى يجئ وقت الهدي وهو يوم النحر، ويكون بالغا محله أي بالغا زمانه، وحينئذ لا يتقيد المحصر بالمكان، ولكن يتقيد في الذبح بالزمان، وإن زال الإحصار قبل زمانه، وأمكن الوصول إلى الحج في إبانه، فقد زال موجب الذبح، وتعين إتمام الحج.
و لقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن قوله تعالى: {و لا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} خطاب عام لكل المكلفين في هذه الشعيرة، لا فرق بين محصر وطليق، وذي عذر وغيره، فهو بيان لوقت التحلل من الإحرام بشكل عام، وبيان لمكان الذبح بشكل عام وهو الكعبة. وإن لذلك الكلام وجاهته واستقامته، وهو تخريج يعاضد رأي الجمهور، لأن الكلام يكون في مكان الذبح العام، لا في الإحصار، ومكان الذبح في الإحصار علم من السنة الصحيحة في الحديبية... وعبر سبحانه وتعالى بالفدية ولم يعبر بكفارة، لأنه لا ذنب ولا اعتداء، حتى يكون التكفير من الإثم...
و التمتع أصل معناه الانتفاع الممتد المستمر، مأخوذ من المتوع بمعنى الامتداد والارتفاع، والمراد هنا معنى إسلامي وهو الجمع بين العمرة والحج في عام واحد على أن يحرم بالعمرة أولا ثم بالحج، فمعنى قوله تعالى: [فمن تمتع بالعمرة إلى الحج] أي فمن أحرم بالعمرة منتفعا بعبادته ونسكه إلى أن أحرم بالحج، فلكي يتحلل في إبان التحلل يذبح هديا..إلخ. وسمي ذلك الجمع تمتعا، لأن المحرم يجمع بين متعة الروح ومتعة الجسد، فيحرم بالعمرة ويستمر فيها، وتلك متعة روحية، ويجوز أن يتحلل منها ثم يحرم بالحج، وتلك متعة جسدية، ثم هو يعتمر ويحج في سفر واحد، وتلك متعة مادية، من أجل ذلك سمي هذا تمتعا...
و لقد قال سبحانه وتعالى: [تلك عشرة كاملة] ليتقرر الحكم نصا، وليتبين أن الذي يحل محل النسك هو العشرة الكاملة لا بعضها، ولكي لا ينسى الناس صوم السبعة الأيام إذا عادوا إلى أهلهم حاسبين أن حجهم قد تم، بل عليهم أن يفهموا أن الحج لم يتم حتى يصوموا...
{و اتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب} ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة التي كانت فيها الإشارة إلى أعمال الحج ونسكه وشعائره بالأمر بتقواه للإشارة إلى أن الاعتبار في أعمال الحج لا يكون لما تعمله الجوارح، وما تقوم به من أفعال، إنما العبرة في ذلك إلى أثرها في القلوب، فإن أوجدت رحمة بالعباد، ورهبة من الخلاق، وتقوى من الله، فقد أديت على وجهها إذ خلصت النية، واستقامت الإرادة، وإن لم تؤد إلى تقوى الله والرحمة بعباده فقد خالطها رياء ولم تخلص النية، وحق العقاب، ولذا قال سبحانه [واعلموا أن الله شديد العقاب] ليلقي في نفوس الناس الرهبة من عقابه حال رجاء ثوابه، والناس يصلحون بالثواب والعقاب، حتى إذا علت المدارك وقويت الروح كان الثواب رضا الرحمان، ولذا قال سبحانه بعد ثواب المؤمنين: [و رضوان من الله... 15] (آل عمران)...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
يمكن القول: إن الآيات [189-203] سلسلة واحدة نزلت دفعة واحدة أو متتابعة. وإذا صح هذا – والقرائن تؤيد صحته إن شاء الله – فتكون مناسك الحج والعمرة قد فرضت على المسلمين وبينت لهم قبل عام الحديبية ويكون بعض المسلمين كانوا يتمكنون من الوصول إلى مكة وأداء مناسك الحج والعمرة منفردين قبل فتح مكة. وفي آية الطواف بين الصفا والمروة التي مرّ تفسيرها ما يمكن أن يكون قرينة من قرائن صحة هذا الاحتمال. وفي الآية الثانية من سورة المائدة التي نزلت على الأرجح قبل فتح مكة قرينة أقوى أو دليل على ذلك وهي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} المائدة [2]
ولقد أراد بعض المسلمين أن يحج بعد منع المشركين النبي والمسلمين من زيارة الكعبة عام الحديبية فحاول بعض آخر منعهم من ذلك انتقاماً لمنع المشركين لهم. وهذا ما انطوى في جملة {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ...} المائدة: [2] الخ...
وما دامت العمرة هي زيارة الكعبة فتكون كلمة {الْحَجَّ} المطلقة التي جاءت مع كلمة العمرة قد عنت شيئا آخر، وهو ما فسّر في الأحاديث بأنه الوقوف في عرفة. الذي عرف يقيناً أنه يجب أن يكون في التاسع من شهر ذي الحجة. والراجح أن كلمة {يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ} في آية سورة التوبة الثالثة: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ {3}} قد عنته.
وقد روى أصحاب السنن حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: « الحجّ يوم عرفة» وعلى ضوء هذا يمكن القول إن جملة: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} تعني أن فريضة الحج الإسلامية ركنان هما العمرة أي الطواف والسعي في أشهر الحج والوقوف في عرفة في اليوم التاسع من ذي الحجة. وقد ذكرت فرضية حج البيت في القرآن ولم تذكر فرضية الوقوف في عرفة بصراحة قطعية فيه فاقتضت حكمة الله ورسوله إتمام ذلك بالحديث والله أعلم.
وليس من تعارض بين زيارة الكعبة في موسم الحج التي هي ركن من أركان الحج الإسلامي في موسم الحج وبين الزيارة التي تكون للكعبة في غير موسم الحج التي انطوى ذكرها في الآية [158] من سورة البقرة وشرحنا مداها...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إنَّ الأمر بالتقوى، انطلاقاً من العلم بأنه شديد العقاب، أسلوب قرآني درج عليه القرآن في ما يريد اللّه أن يثيره أمام الإنسان من قضايا الحياة والتشريع، ليقف الإنسان فيه عند حدود اللّه من موقع النفس التقية التي تراقب اللّه وتخاف عقابه. أمّا مناسبة ذلك، هنا، فهو الحديث عن تفصيلات تشريع الحج والعمرة من إتمامهما، والحديث عن الحكم في حالة الإحصار وفي حالة الأمن، وعن الحكم في حج التمتع في حالة التمكن من الهدي والعجز عنه؛ فإنَّ ذلك كلّه مما يوحي بالحاجة إلى الانضباط والالتزام والتقوى في حدود هذه الأمور ومواردها الشرعية، ويكفي ذلك مناسبة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يُعتبر الحجّ من أهم العبادات التي شُرعت في الإسلام ولها آثار وبركات كثيرة جدّاً، فهو مصدر عظمة الإسلام وقوّة الدّين واتّحاد المسلمين، والحجّ هو الشعيرة العباديّة التي ترعب الأعداء وتضخ في كلّ عام دماً جديداً في شرايين المسلمين...