{ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } اللغو الساقط الذي لا يعتد به من كلام غيره ، ولغو اليمين مالا عقد معه كما سبق به اللسان ، أو تكلم به جاهلا لمعناه كقول العرب : لا والله وبلى والله ، لمجرد التأكيد لقوله : { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } والمعنى لا يؤاخذكم الله بعقوبة ولا كفارة بما لا قصد معه ، ولكن يؤاخذكم بهما أو بأحدهما بما قصدتم من الإيمان وواطأت فيها قلوبكم ألسنتكم . وقال أبو حنيفة : اللغو أن يحلف الرجل بناء على ظنه الكاذب ، والمعنى لا يعاقبكم بما أخطأتم فيه من الأيمان ، ولكن يعاقبكم بما تعمدتم الكذب فيه . { والله غفور } حيث لم يؤاخذ باللغو { حليم } حيث لم يعجل بالمؤاخذة على يمين الجد تربصا للتوبة .
استئناف بياني لأن الآية السابقة لما أفادت النهي عن التسرع بالحلف إفادة صريحة أو التزامية ، كانت نفوس السامعين بحيث يهجس بها التفكر والتطلع إلى حكم اليمين التي تجري على الألسن . ومناسبته لما قبله ظاهرة لا سيما إن جعلتَ قوله : { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم } [ البقرة : 224 ] نهياً عن الحلف .
والمؤاخذة مفاعلة من الأَخذ بمعنى العد والمحاسبة ، يقال أخذه بكذا أي عده عليه ليعاتبه أو يعاقبه ، قال كعب بن زهير :
لا تأخُذَنِّي بأَقْوال الوْشاةِ ولم *** أُذْنِبْ وإِنْ كَثُرَتْ فيَّ الأَقَاوِيل
فالمفاعلة هنا للمبالغة في الأخذ ؛ إذ ليس فيه حصول الفعل من الجانبين . والمؤاخذة باليمين هي الإلزام بالوفاء بها وعدم الحنث ؛ ويترتب على ذلك أن يأثم إذا وقع الحنث ، إلاّ ما أذن الله في كفّارته ، كما في آية سورة العقود .
واللغو مصدر لغا إذا قال كلاماً خَطَئاً ، يقال : لغا يلغُو لغواً كسعا ، ولغا يلغْى لَغْياً كسَعى . ولغة القرآن بالواو . وفي « اللسان » : « أنه لا نظير له إلاّ قولهم أسوته أسواً وأَسى أصلحتُه » وفي الكواشي : « ولغا يلغو لغواً قال باطلاً » ، ويطلق اللغو أيضاً على الكلام الساقط ، الذي لا يعتد به ، وهو الخطأ ، وهو إطلاق شائع . وقد اقتصر عليه الزمخشري في « الأساس » ولم يجعله مجازاً ؛ واقتصر على التفسير به في « الكشاف » وتبعه متابعوه .
و ( في ) للظرفية المجازية المراد بها الملابسة ، وهي ظرف مستقر ، صفة اللغو أو حال منه ، وكذلك قدره الكواشي فيكون المعنى على جعل اللغو بمعنى المصدر ، وهو الأظهر : لا يؤاخذكم الله بأن تلغوا لغواً ملابساً للأيمان ، أي لا يؤاخذكم بالأيمان الصادرة صدور اللغو ، أي غير المقصود من القول . فإذا جعلتَ اللغو اسماً بمعنى الكلام الساقط الخاطىء ، لم تصح ظرفيته في الأيمان ، لأنه من الأيمان ، فالظرفية متعلقة بيؤاخذكم ، والمعنى لا يؤاخذكم الله في أيمانكم باللغو ، أي لا يؤاخذكم من بين أيمانكم باليمين اللغو .
والأيمان جمع يمين ، واليمين القسم والحلف ، وهو ذكر اسم الله تعالى ، أو بعض صفاته ، أو بعض شؤونه العليا أو شعائره . فقد كانت العرب تحلف بالله ، وبرب الكعبة ، وبالهدي ، وبمناسك الحج . والقسم عندهم بحرف من حروف القسم الثلاثة : الواو والباء والتاء ، وربما ذكروا لفظ حلفت أو أقسمت ، وربما حلفوا بدماء البدن ، وربما قالوا والدماءِ ، وقد يدخلون لاماً على عَمْر الله ، يقال : لَعَمْرُ الله ، ويقولون : عمرَك الله ، ولم أر أنهم كانوا يحلفون بأسماء الأصنام . فهذا الحلف الذي يراد به التزام فعل ، أو براءة من حق . وقد يحلفون بأشياء عزيزة عندهم لقصد تأكيد الخبر أو الالتزام ، كقولهم وأبيك ولَعَمْرك ولعمري ، ويحلفون بآبائهم ، ولما جاء الإسلام نهى عن الحلف بغير الله . ومن عادة العرب في القسم أن بعض القسم يقسمون به على التزام فعل يفعله المقسِم ليُلجىء نفسه إلى عمله ولا يندم عنه ، وهو من قبيل قسم النذر ، فإذا أراد أحد أن يظهر عزمه على فعل لا محالة منه ، ولا مطمع لأحد في صرفه عنه ، أكده بالقسم ، قال بلعاء بن قيس :
وفارسٍ في غِمار المَوْت منغَمِس *** إذَا تَأَلَّى على مَكْروهَةٍ صَدَقَا
( أي إذا حلف على أن يقاتل أو يقتل أو نحو ذلك من المصاعب والأضرار ومنه سميت الحرب كريهة ) فصار نطقهم باليمين مؤذناً بالغرم ، وكثر ذلك في ألسنتهم في أغراض التأْكيد ونحوه ، حتى صار يجري ذلك على اللسان كما تجري الكلمات الدالة على المعاني من غير إرادة الحلف ، وصارت كثرته في الكلام لا تنحصر ، فكثر التحرج من ذلك في الإسلام قال كثيِّر :
قليل الألايى حافظ ليمينه *** وإن سبقت منه الأليَّة بَرَّتِ
فأشبهه جريانُ الحلف على اللسان اللغوَ من الكلام .
وقد اختلف العلماء في المراد من لغو اليمين في هذه الآية ، فذهب الجمهور إلى أن اللغو هو اليمين التي تجري على اللسان ، لم يقصد المتكلم بها الحلف ، ولكنها جرت مجرى التأكيد أو التنبيه ، كقول العرب : لا والله ، وبلى والله . وقول القائل : والله لقد سمعت من فلان كلاماً عجباً ، وغير هذا ليس بلغو ، وهذا قول عائشة ، رواه عنها في « الموطأ » و« الصِّحاح » ، وإليه ذهب الشعبي ، وأبو قِلابة ، وعكرمة ، ومجاهد ، وأبو صالح ، وأخذ به الشافعي ، والحجة له أن الله قد جعل اللغو قسيماً للتي كسبها القلب في هذه الآية ، وللتي عقد عليها الحالف اليمين في قوله : { ولكن يؤاخذكم بما } [ المائدة : 89 ] فما عقدتم الأيمان هو ما كسبته القلوب ؛ لأن ما كسبت قلوبكم مبيِّن ، فيحمل عليه مجمل { ما عقدتم } ، فتعين أن تكون اللغو هي التي لا قصد فيها إلى الحلف ، وهي التي تجري على اللسان دون قصد ، وعليه فمعنى نفي المؤاخذة نفي المؤاخذة بالإثم وبالكفارة ؛ لأن نفي الفعل يعم ، فاليمين التي لا قصد فيها لا إثم ولا كفارة عليها ، وغيرها تلزم فيه الكفارة للخروج من الإثم بدليل آية المائدة ؛ إذ فسر المؤاخذة فيها بقوله : { فكفارته إطعام عشرة مساكين } [ المائدة : 89 ] فيكون في الغموس ، وفي يمين التعليق ، وفي اليمين على الظن ، ثم يتبين خلافه ، الكفارة في جميع ذلك .
وقال مالك : « لغو اليمين أن يحلف على شيء يظنه كذلك ثم يتبيّن خلاف ظنه » قال في « الموطأ » : « وهذا أحسن ما سمعت إلى في ذلك » وهو مروي في غير « الموطأ » ، عن أبي هريرة ومن قال به الحسن وإبراهيم وقتادة والسدي ومكحول وابن أبي نجيح . ووجهه من الآية : أن الله تعالى جعل المؤاخذة على كسب القلب في اليمين ، ولا تكون المؤاخذة إلاّ على الحنث لا أصل القسم ؛ إذ لا مؤاخذة لأجل مجرد الحلف لا سيما مع البر ، فتعين أن يكون المراد من كسب القلب كسبه الحنث أي تعمده الحنث ، فهو الذي فيه المؤاخذة ، والمؤاخذة أجملت في هاته الآية ، وبينت في آية المائدة بالكفارة ، فالحالف على ظن يظهر بعد خلافه لا تعمد عنده للحنث ، فهو اللغو ، فلا مؤاخذة فيه ، أي لا كفارة وأما قول الرجل : لا والله وبلى والله ، وهو كاذب ، فهو عند مالك قسم ليس بلغو ، لأن اللغوية تتعلق بالحنث بعد اعتقاد الصدق ، والقائل : « لا والله » كاذباً ، لم يتبين حنثه له بعد اليمين ، بل هو غافل عن كونه حالفاً ، فإذا انتبه للحلف وجبت عليه الكفارة ، لأنه حلفها حين حلفها وهو حانث .
وإنما جعلنا تفسير ( ما كسبت قلوبكم ) كسب القلب للحنث ، لأن مساق الآية في الحنث لأن قوله : { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم } [ البقرة : 224 ] ، إما إذن في الحنث ، أو نهي عن الحلف خشية الحنث ، على الوجهين الماضيين ، وقوله : { لا يؤاخذكم الله } بيان وتعليل لذلك ، وحكم البيان حكم المبين ، لأنه عينه .
وقال جماعة : اللغو ما لم يقصد به الكذب ، فتشمل القسمين ، سواء كان بلا قصد كالتي تجري على الألسن في لا والله وبلى والله كان بقصد مع اعتقاد الصدق فتبين خلافه . وممن قال بهذا ابن عباس والشعبي وقال به أبو حنيفة ، فقال : اللغو لا كفارة فيها ولا إثم . واحتج لذلك بأن الله تعالى جعل اللغو هنا ، مقابلاً لما كسبته القلوب ، ونفى المؤاخذة عن اللغو وأثبتها لما كسبه القلب ، والمؤاخذة لا محالة على الحنث لا على أصل الحلف ، فاللغو هي التي لا حنث فيها ؛ ولم ير بين آية البقرة وآية المائدة تعارضاً حتى يحمل إحداهما على الأخرى بل قال : إن آية البقرة جعلت اللغو مقابلاً لما كسبه القلب ، وأثبت المؤاخذة لما كسبه القلب أي عزمت عليه النفس ، والمؤاخذة مطلقة تنصرف إلى أكمل أفرادها ، وهي العقوبة الأخروية فيتعين أنه ما كسبته القلوب ، أريد به الغموس ؛ وجعل في آية المائدة اللغو مقابلاً للأيمان المعقودة .
والعقد في الأصل : الربط ، وهو معناه لغة ، وقد أضافه إلى الأيمان ، فدل على أنها اليمين التي فيها تعليق ، وقد فسر المؤاخذة فيها بقوله : { فكفارته إطعام } [ المائدة : 89 ] الخ ، فظهر من الآيتين أن اللغو ما قابل الغموس ، والمنعقدة ، وهو نوعان لا محالة ، وظهر حكم الغموس ، وهي الحلف بتعمد الكذب ، فهو الإثم ، وحكم المنعقدة أنه الكفارة ، فوافق مالكاً في الغموس وخالفه في أحد نوعي اللغو ، وهذا تحقيق مذهبه . وفي اللغو غير هذه المذاهب مذاهب أنهاها ابن عطية إلى عشرة ، لا نطيل بها .
وقوله : { والله غفور حليم } تذييل لحكم نفي المؤاخذة ، ومناسبة اقتران وصف الغفور بالحليم هنا دون الرحيم ، لأن هذه مغفرة لذنب هو من قبيل التقصير في الأدب مع الله تعالى ، فلذلك وصف الله نفسه بالحليم ، لأن الحليم هو الذي لا يستفزه التقصير في جانبه ، ولا يغضب للغفلة ، ويقبل المعذرة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم}: وهو الرجل يحلف على أمر يرى أنه فيه صادق وهو مخطئ، فلا يؤاخذه الله بها، ولا كفارة عليه فيها، فذلك العفو.
{ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم}: يعني بما عقدت قلوبكم من المأثم، يعني اليمين الكاذبة التي حلف عليها، وهو يعلم أنه فيها كاذب، فهذه فيها كفارة،
{والله غفور}: إذ تجاوز عن اليمين التي حلف عليها. {حليم} حين لا يوجب فيها الكفارة...
قال مالك: أحسن ما سمعت في هذا، أن اللغو حلف الإنسان على الشيء يستقين أنه كذلك، ثم يوجد على غير ذلك، فهو اللغو.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"لا يُؤَاخُذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمْ" وفي معنى اللغو؛ فقال بعضهم في معناه: لا يؤاخذكم الله بما سبقتكم به ألسنتكم من الأيمان على عجلة وسرعة، فيوجب عليكم به كفارة إذا لم تقصدوا الحلف واليمين، وذلك كقول القائل: فعل هذا والله، أو أفعله والله، أو لا أفعله والله، على سبوق المتكلم بذلك لسانه بما وصل به كلامه من اليمين... عن ابن عباس: "لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ "قال: هي بلى والله، ولا والله... ما لم يعقد عليه قلبه.
حدثنا محمد بن موسى الحرسي، قال: حدثنا حسان بن إبراهيم الكرماني، قال: حدثنا إبراهيم الصائغ، عن عطاء في قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قال: قالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هُوَ قَوْلُ الرّجُلِ فِي بَيْتِهِ كَلاّ وَاللّهِ وَبَلى وَاللّهِ».
وقال آخرون: بل اللغو في اليمين: اليمين التي يحلف بها الحالف وهو يرى أنه كما يحلف عليه، ثم يتبين غير ذلك وأنه بخلاف الذي حلف عليه. عن مكحول أنه قال: اللغو الذي لا يؤاخذ الله به: أن يحلف الرجل على الشيء الذي يظن أنه فيه صادق، فإذا هو فيه غير ذلك، فليس عليه فيه كفارة، وقد عفا الله عنه.
وقال آخرون: بل اللغو من الأيمان التي يحلف بها صاحبها في حال الغضب على غير عقد قلب ولا عزم، ولكن وُصْلَةً للكلام... عن طاوس، قال: كل يمين حلف عليها رجل وهو غضبان فلا كفارة عليه فيها، قوله: "لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ"، وعلة من قال هذه المقالة ما:
حدثني به أحمد بن منصور المروزي، قال: حدثنا عمر بن يونس اليمامي، قال: حدثنا سليمان بن أبي سليمان الزهري، عن يحيى بن أبي كثير، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يمِينَ فِي غَضَبٍ».
وقال آخرون، بل اللغو في اليمين: الحلف على فعل ما نهى الله عنه، وترك ما أمر الله بفعله... عن سعيد بن جبير، قال: لغو اليمين أن يحلف الرجل على المعصية لله لا يؤاخذه الله بإيفائها.
وعلة من قال هذا القول من الأثر ما:
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، قال: ثني عبد الرحمن بن الحرث، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ نَذَرَ فِيما لا يَمْلِكُ فَلا نَذْرَ لَهُ، وَمَنْ حَلَفَ على مَعْصِيَةٍ اللّهِ فَلاَ يَمِينَ لَهُ، وَمَنْ حَلَفَ على قَطِيعَةِ رَحِمٍ فَلاَ يَمِينَ لَهُ».
وقال آخرون: اللغو من الأيمان: كل يمين وصل الرجل بها كلامه على غير قصد منه إيجابَها على نفسه... عن إبراهيم، قال: لغو اليمين: أن يصل الرجل كلامه بالحلف، والله ليأكلنّ، والله ليشربنّ، ونحو هذا لا يتعمد به اليمين ولا يريد به حلفا، ليس عليه كفارة.
وقال آخرون: اللغو من الأيمان: ما كان من يمين بمعنى الدعاء من الحالف على نفسه إن لم يفعل كذا وكذا، أو بمعنى الشرك والكفر... كقول الرجل: أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا وكذا، أخرجني الله من مالي إن لم آتك غدا. فهو هذا، ولا يترك الله له مالاً ولا ولدا. يقول: لو يؤاخذكم الله بهذا لم يترك لكم شيئا.
وقال آخرون: اللغو في الأيمان: ما كانت فيه كفارة... عن ابن عباس قوله: "لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ" فهذا في الرجل يحلف على أمر إضرار أن يفعله فلا يفعله، فيرى الذي هو خير منه، فأمره الله أن يكفر يمينه ويأتي الذي هو خير.
وقال آخرون: اللغو من الأيمان: هو ما حنث فيه الحالف ناسيا.
واللغو من الكلام في كلام العرب كل كلام كان مذموما وفعلاً لا معنى له مهجورا، يقال منه: لغا فلان في كلامه يلغو لغوا: إذا قال قبيحا من الكلام، ومنه قول الله تعالى ذكره: "وَإذَا سَمِعُوا اللّغْوَ أعْرَضُوا عَنْهُ" وقوله: "وَإذَا مَرّوا باللّغْوِ مَرّوا كِرَاما" ومسموع من العرب لغيت باسم فلان، بمعنى أولعت بذكره بالقبيح.
فإذا كان اللغو ما وصفت، وكان الحالف بالله ما فعلت كذا وقد فعل ولقد فعلت كذا وما فعل، واصلاً بذلك كلامه على سبيل سبوق لسانه من غير تعمد إثم في يمينه، ولكن لعادة قد جرت له عند عجلة الكلام، والقائل: والله إن هذا لفلان وهو يراه كما قال، أو والله ما هذا فلان وهو يراه ليس به، والقائل: ليفعلنّ كذا والله، أو لا يفعل كذا والله، على سبيل ما وصفنا من عجلة الكلام، وسبوق اللسان للعادة، على غير تعمد حلف على باطل، والقائل هو مشرك أو هو يهودي أو نصراني إن لم يفعل كذا، أو إن فعل كذا من غير عزم على كفر، أو يهودية أو نصرانية جميعهم قائلون هُجْرا من القول، وذميما من المنطق، وحالفون من الأيمان بألسنتهم ما لم تتعمد فيه الإثم قلوبهم. كان معلوما أنهم لغاة في أيمانهم لا تلزمهم كفارة في العاجل، ولا عقوبة في الاَجل لإخبار الله تعالى ذكره أنه غير مؤاخذ عباده بما لغوا من أيمانهم، وأن الذي هو مؤاخذهم به ما تعمدت فيه الإثم قلوبهم. وإذ كان ذلك كذلك، وكان صحيحا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ حَلَفَ على يمينٍ فرأى غيرَها خيرا مِنْها فَلْيأتِ الّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفّرْ عَنْ يَمِينِهِ» فأوجب الكفارة بإتيان الحالف ما حلف أن لا يأتيه مع وجوب إتيان الذي هو خير من الذي حلف عليه أن لا يأتيه، وكانت الغرامة في المال أو إلزام الجزاء من المجزيّ أبدال الجازين، لا شك عقوبة كبعض العقوبات التي جعلها الله تعالى ذكره نكالاً لخلقه فيما تعدّوا من حدوده، وإن كان يجمع جميعها أنها تمحيص وكفارات لمن عوقب بها فيما عوقبوا عليه كان بينا أن من ألزم الكفارة في عاجل دنياه فيما حلف به من الأيمان فحنث فيه، وإن كانت كفارة لذنبه فقد واخذه الله بها بإلزامه إياه الكفارة منها، وإن كان ما عجل من عقوبته إياه على ذلك مسقطا عنه عقوبته في آجله. وإذ كان تعالى ذكره قد واخذه بها، فغير جائز لقائل أن يقول: وقد واخذه بها هي من اللغو الذي لا يؤاخذ به قائله، فإذ كان ذلك غير جائز، فبين فساد القول الذي روي عن سعيد بن جبير أنه قال: اللغو: الحلف على المعصية، لأن ذلك لو كان كذلك لم يكن على الحالف، على معصية الله كفارة بحنثه في يمينه، وفي إيجاب سعيد عليه الكفارة دليل واضح على أن صاحبها بها مؤاخذ لما وصفنا: من أن من لزمه الكفارة في يمينه فليس ممن لم يؤاخذ بها.
فإذا كان اللغو هو ما وصفنا مما أخبرنا الله تعالى ذكره أنه غير مؤاخذنا به، وكل يمين لزمت صاحبها بحنثه فيها الكفارة في العاجل، أو أوعد الله تعالى ذكره صاحبها العقوبة عليها في الاَجل، وإن كان وضع عنه كفارتها في العاجل، فهي مما كسبته قلوب الحالفين، وتعمدت فيه الإثم نفوس المقسمين، وما عدا ذلك فهو اللغو وقد بينا وجوهه.
فتأويل الكلام إذًا: لا تجعلوا الله أيها المؤمنون عرضة لأيمانكم، وحجة لأنفسكم في أقسامكم في أن لا تبرّوا، ولا تتقوا، ولا تصلحوا بين الناس، فإن الله لا يؤاخذكم بما لغته ألسنتكم من أيمانكم، فنطقت به من قبيح الأيمان وذميمها، على غير تعمدكم الإثم وقصدكم بعزائم صدوركم إلى إيجاب عقد الأيمان التي حلفتم بها، ولكنه إِنما يؤاخذكم بما تعمدتم فيه عقد اليمين وإيجابها على أنفسكم، وعزمتم على الإتمام على ما حلفتم عليه بقصد منكم وإرادة، فيلزمكم حينئذ إما كفارة في العاجل، وإما عقوبة في الاَجل.
"وَلَكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ".
اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أوعد الله تعالى ذكره بقوله: "وَلَكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ" عباده أنه مؤاخذهم به بعد إجماع جميعهم على أن معنى قوله: "بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ": ما تعمدت؛ فقال بعضهم: المعنى الذي أوعد الله عباده مؤاخذتهم به هو حلف الحالف منهم على كذب وباطل... والواجب على هذا التأويل أن يكون قوله تعالى ذكره: "وَلَكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلوبُكُمْ" في الاَخرة بما شاء من العقوبات، وأن تكون الكفارة إنما تلزم الحالف في الأيمان التي هي لغو. وكذلك روي عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس أنه كان لا يرى الكفارة إلا في الأيمان التي تكون لغوا. فأما ما كسبته القلوب، وعقدت فيه على الإثم، فلم يكن يوجب فيه الكفارة. وقد ذكرنا الرواية عنهم بذلك فيما مضى قبل.
وإذ كان ذلك تأويل الآية عندهم، فالواجب على مذهبهم أن يكون معنى الآية في سورة المائدة: لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْوِ فِي أيمَانِكُمْ فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم، واحفظوا أيمانكم.
وبنحو ما ذكرناه عن ابن عباس من القول في ذلك كان سعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم وجماعة أخر غيرهم يقولون.
وقال آخرون: المعنى الذي أوعد الله تعالى عباده المؤاخذة به بهذه الآية هو حلف الحالف على باطل يعلمه باطلاً، وبذلك أوجب الله عندهم الكفارة دون اللغو الذي يحلف به الحالف وهو مخطئ في حلفه يحسب أن الذي حلف عليه كما حلف وليس ذلك كذلك... وكأن قائلي هذه المقالة وجهوا تأويل مؤاخذة الله عبده على ما كسبه قلبه من الأيمان الفاجرة، إلى أنها مؤاخذة منه له بإلزامه الكفارة فيه. وقال بنحو قول قتادة جماعة أخر في إيجاب الكفارة على الحالف اليمين الفاجرة، منهم عطاء والحكم...
عن عطاء والحكم أنهما كانا يقولان فيمن حلف كاذبا متعمدا: يكَفّر.
وقال آخرون: بل ذلك معنيان: أحدهما مؤاخذ به العبد في حال الدنيا بإلزام الله إياه الكفارة منه، والاَخر منهما مؤاخذ به في الاَخرة، إلا أن يعفو... وكأن قائل هذه المقالة وجه تأويل قوله: "وَلَكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ" إلى غير ما وجه إليه تأويل قوله: "وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقّدْتُمُ الأيمَانَ" وجعل قوله: بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبِكُمْ الغموس من الأيمان التي يحلف بها الحالف على علم منه بأنه في حلفه بها مبطل، وقوله: بِمَا عَقّدْتُمْ الأيمَانَ اليمين التي يستأنف فيها الحنث أو البرّ، وهو في حال حلفه بها عازم على أن يبرّ فيها.
وقال آخرون: بل ذلك هو اعتقاد الشرك بالله والكفر.
"وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ": والله غفور لعباده فيما لغوا من أيمانهم التي أخبر الله تعالى ذكره أنه لا يؤاخذهم بها، ولو شاء واخذهم بها، ولما واخذهم بها فكفروها في عاجل الدنيا بالتكفير فيه، ولو شاء واخذهم في آجل الاَخرة بالعقوبة عليه، فساتر عليهم فيها، وصافح لهم بعفوه عن العقوبة فيها وغير ذلك من ذنوبهم. حليم في تركه معاجلة أهل معصيته العقوبة على معاصيهم.
قد ذكر الله تعالى اللّغْوَ في مواضع، فكان المراد به معاني مختلفة على حسب الأحوال التي خرج عليها الكلام، فقال تعالى: {لا تسمع فيها لاغية} [الغاشية: 11] يعني: كلمة فاحشة قبيحة. و {لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً} [الواقعة: 25] على هذا المعنى. وقال: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه} [القصص: 55] يعني: الكفر والكلام القبيح. وقال: {والغوا فيه} يعني: الكلام لا يفيد شيئاً ليشغلوا السامعين عنه. وقال: {وإذا مروا باللغو مروا كراماً} [الفرقان: 72] يعني الباطل. ويقال: لَغَا في كلامه يَلْغُو، إذا أتى بكلام لا فائدة فيه.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} أصل اللغو في كلام العرب ما أسقط فلم يعتد به، واللغو واللغاء في الكلام ما لا خير فيه ولا معنى له.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" والله غفور حليم "فالحلم: الامهال بتأخير العقاب على الذنب.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ما جرى به اللسان على مقتضى السهو فليس له كثير خطرٍ في الخير والشر، ولكن ما انطوت عليه الضمائر، واحتوت عليه السرائر، من قصود صحيحة، وعزائم قوية فذلك الذي يؤخذ به إن كان خيراً فجزاءٌ جميل، وإن كان شراً فعناءٌ طويل...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فيه معنيان: أحدهما {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ} أي لا يعاقبكم بلغو اليمين الذي يحلفه أحدكم بالظن، ولكن يعاقبكم بما كسبت قلوبكم، أي اقترفته من إثم القصد إلى الكذب في اليمين وهو أن يحلف على ما يعلم أنه خلاف ما يقوله وهي اليمين الغموس.
والثاني: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ} أي لا يلزمكم الكفارة بلغو اليمين الذي لا قصد معه، ولكن يلزمكم الكفارة بما كسبت قلوبكم، أي بما نوت قلوبكم وقصدت من الإيمان، ولم يكن كسب اللسان وحده {والله غَفُورٌ حَلِيمٌ} حيث لم يؤاخذكم باللغو في أيمانكم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
فكسب المرء ما قصده ونواه، واللغو ما لم يتعمده أو ما حقه لهجنته أن يسقط، فيقوى على هذه الطريقة بعض الأقوال المتقدمة ويضعف بعضها، وقد رفع الله عز وجل المؤاخذة بالإطلاق في اللغو، فحقيقته ما لا إثم فيه ولا كفارة، والمؤاخذة في الأيمان هي بعقوبة الآخرة في الغموس المصبورة، وفيما ترك تكفيره مما فيه كفارة، وبعقوبة الدنيا في إلزام الكفارة، فيضعف القول بأنها اليمين المكفرة، لأن المؤاخذة قد وقعت فيها، {غفور حليم} صفتان لائقتان بما ذكر من طرح المؤاخذة، إذ هو باب رفق وتوسعة...
أما قوله تعالى: {والله غفور حليم} فقد علمت أن: الغفور، مبالغة في ستر الذنوب، وفي إسقاط عقوبتها، وأما: الحليم، فاعلم أن الحلم في كلام العرب الأناة والسكون، يقال: ضع الهودج على أحلم الجمال، أي على أشدها تؤدة في السير، ومنه الحلم لأنه يرى في حال السكون...
ومعنى: الحليم، في صفة الله: الذي لا يعجل بالعقوبة، بل يؤخر عقوبة الكفار والفجار...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، لأنه تعالى لما نهى عن جعل الله معرضاً للأيمان، كان ذلك حتماً لترك الأيمان وهم يشق عليهم ذلك، لأن العادة جرت لهم بالأيمان، فذكر أن ما كان منها لغواً فهو لا يؤاخذ به، لأنه مما لا يقصد به حقيقة اليمين، وإنما هو شيء يجري على اللسان عند المحاورة من غير قصد، وهذا أحسن ما يفسر به اللغو، لأنه تعالى جعل مقابلة ما كسبه القلب وهو ماله فيه اعتماد وقصد...
{والله غَفُورٌ حَلِيمٌ}. يحتمل أن يرجع « غفور» للغو اليمين و « حليم» لعدم المعاجلة بالعقوبة في اليمين الغموس.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تقدم إليهم سبحانه وتعالى في هذا وكانت ألسنتهم قد مرنت على الأيمان من غير قصد بحيث صاروا لا يقدرون على ترك ذلك إلا برياضة كبيرة ومعالجة طويلة وكان مما رحم الله به هذه الأمة العفو عما أخطأت به ولم تتعمده قال في جواب من كأنه سأل عن ذلك: {لا يؤاخذكم} أي لا يعاقبكم، وحقيقته يعاملكم معاملة من يناظر شخصاً في أن كلاًّ منهما يريد أخذ الآخر بذنب أسلفه إليه.
{الله} فكرر في الإطلاق والعفو الاسم الأعظم الذي ذكره في التقييد والمنع إيذاناً بأن عظمته لا تمنع من المغفرة.
{باللغو} وهو ما تسبق إليه الألسنة من القول على غير عزم قصد إليه -قاله الحرالي.
{في أيمانكم} فإن ذلك لا يدل على الامتهان بل ربما دل على المحبة والتعظيم. ولما بين ما أطلقه بين ما منعه فقال:
{ولكن يؤاخذكم} والعبارة صالحة للإثم والكفارة.
ولما كان الحامل على اليمين في الأغلب المنافع الدنيوية التي هي الرزق وكان الكسب يطلق على طلب الرزق وعلى القصد والإصابة عبر به فقال: {بما كسبت} أي تعمدت {قلوبكم} فاجتمع فيه مع اللفظ النية.
قال الحرالي: فيكون ذلك عزماً باطناً وقولاً ظاهراً فيؤاخذ باجتماعهما، ففي جملته ترفيع لمن لا يحلف بالله في عزم ولا لغو، وذلك هو الذي حفظ حرمة الحلف بالله، وفي مقابلته من يحلف على الخير أن لا يفعله...
ولم يبين هنا الكفارة صريحاً إشارة إلى أنهم ينبغي أن يكونوا أتقى من أن يمنعوا من شيء فيقارفوه، وأشار إليها في الإيلاء كما يأتي.
ولما كان ذكر المؤاخذة قطعاً لقلوب الخائفين سكنها بقوله مظهراً موضع الإضمار إشارة إلى أن رحمته سبقت غضبه: {والله} أي مع ما له من العظمة {غفور} أي ستور لذنوب عباده إذا تابوا.
ولما كان السياق للمؤاخذة التي هي معالجة كل من المتناظرين لصاحبه بالأخذ كان الحلم أنسب الأشياء لذلك فقال {حليم} لا يعاجلهم بالأخذ، والحلم احتمال الأعلى للأذى من الأدنى، وهو أيضاً رفع المؤاخذة عن مستحقها بجناية في حق مستعظم- قاله الحرالي...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف بياني لأن الآية السابقة لما أفادت النهي عن التسرع بالحلف إفادة صريحة أو التزامية، كانت نفوس السامعين بحيث يهجس بها التفكر والتطلع إلى حكم اليمين التي تجري على الألسن. ومناسبته لما قبله ظاهرة لا سيما إن جعلتَ قوله: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم} [البقرة: 224] نهياً عن الحلف.
والمؤاخذة مفاعلة من الأَخذ بمعنى العد والمحاسبة، يقال أخذه بكذا أي عده عليه ليعاتبه أو يعاقبه، المفاعلة هنا للمبالغة في الأخذ؛ إذ ليس فيه حصول الفعل من الجانبين.
والمؤاخذة باليمين هي الإلزام بالوفاء بها وعدم الحنث؛ ويترتب على ذلك أن يأثم إذا وقع الحنث، إلاّ ما أذن الله في كفّارته، كما في آية سورة العقود...
وقوله: {والله غفور حليم} تذييل لحكم نفي المؤاخذة، ومناسبة اقتران وصف الغفور بالحليم هنا دون الرحيم، لأن هذه مغفرة لذنب هو من قبيل التقصير في الأدب مع الله تعالى، فلذلك وصف الله نفسه بالحليم، لأن الحليم هو الذي لا يستفزه التقصير في جانبه، ولا يغضب للغفلة، ويقبل المعذرة...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
عبر سبحانه وتعالى عن القصد والتعمد بقوله تعالى:"بما كسبت قلوبكم" وكسب القلب أدق وأخص من مجرد التعمد، وذلك لأن كسب القلب معناه أن اليمين كان لها أثر فيه، قد اكتسبه منها، كما كسبت منه القصد والابتعاد عن معنى اللغو.
و الأثر الذي تنتجه الأيمان المقصودة يختلف باختلافها،فإن كانت يمينا برة هي خير في ذاتها وموضعها، والإصرار عليها لا ينتج إلا خيرا، اكتسبت القلوب عزيمة نحو الخير، وإصرارا عليه وإيمانا به، فتشرق بنور الله، وتستنير بذكر الله.
وإن كانت اليمين فاجرة كاذبة في موضوعها لم يقصد الحالف فيها إلا تزكية الإثم، فإن القلب يكسب منها شرا، إذ ينكث فيه الإثم نكتة سوداء، وبتكرارها تحيط بالقلب خطيئاته، وتستغرقه سيئاته، ويرين الله سبحانه وتعالى عليه بغشاوة كثيفة من الآثام.
و إن كانت اليمين غير فاجرة، ولكن الإصرار على موضوعها فيه منع للخير، يكون الكسب شرا إن أصر عليها، ويغفر الله إن اتخذ السبيل الذي يكون به تحلة الأيمان، وهو الكفارة السهلة الميسرة لكل إنسان.
هذا بعض ما يشير إليه التعبير الكريم السامي {بما كسبت قلوبكم}. {و الله غفور حليم} ذيل الله سبحانه هذه الآية الكريمة بهذه الجملة السامية لتأكيد معنى عدم المؤاخذة في اللغو،و لبيان أنه سبحانه يأخذ عباده بالرفق، ويسهل لهم سبيل العودة إلى الجادة المستقيمة إن حادوا عنها، وتنكبوا سبيل المؤمنين، ويرشدهم إلى ما يخرجون به مما يلقون بأنفسهم فيه من أقوال وأفعال، فهو يبين طريق التحلل من الأيمان إن حلفوا ليتركوا خيرا، أو ليرتكبوا شرا، وهو بحلمه وتدبيره وحكمته يبين لهم الحق والسبيل إليه، وإن سبقت الأيمان محاجزة دون الخير طلب إليهم ألا يستمسكوا بها ويفعلوا الخير. و أن رحمة الله سبحانه وتعالى في الأيمان وغفرانه وحلمه قد بدا في الإعفاء من يمين اللغو، وعدم اعتبارها، وفي المؤاخذة على ما تكسبه القلوب مع تسهيل العودة إلى فعل الخير، وفي بيان التحلل من اليمين إن حالت بين صاحبها والبر والتقوى والإصلاح بين الناس.
وكان من المناسب أن تأتي هذه الآية بعد كل ما سبق لأنه سبحانه أوضح لنا اليمين التي لا تقع وكأنه قال لنا: ارجعوا فيها واحنثوا وسأقبل رجوعكم في مقابل أن تبروا وتتقوا وتصلحوا، فإذا كان قد قبل تراجعنا عن هذا اليمين فلأن له مقابلا في فعل الخير. وقوله الحق: {بما كسبت قلوبكم} هو المعنى نفسه لقوله تعالى:
{ولكن يؤاخذكم بما عقّدتم الأيمان} (من الآية 89 سورة المائدة)... أي الشيء المعقود في النفس والذي رسخ داخل نفسك، لكن الشيء الذي يمر على اللسان فلا يؤاخذنا الله به. {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم}...