{ ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم } جاءته المساءة والغم بسببهم مخافة أن يقصدهم قومه بسوء ، و { أن } صلة لتأكيد الفعلين واتصالهما . { وضاق بهم ذرعا } وضاق بشأنهم وتدبير أمرهم ذرعه أي طاقته كقولهم ضاقت يده وبإزائه رحب ذرعه بكذا إذا كان مطيقا له ، وذلك لأن طويل الذراع ينال ما لا يناله قصير الذراع . { وقالوا } لما رأوا فيه أثر الضجرة . { لا تخف ولا تحزن } على تمكنهم منا . { إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين } وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب " لننجينه " " ومنجوك " بالتخفيف ووافقهم أبو بكر وابن كثير في الثاني ، وموضع الكاف الجر على المختار ونصب { أهلك } بإضمار فعل أو بالعطف على محلها باعتبار الأصل .
قد أشعر قوله { إنا مهلكوا أهل هذه القرية } [ العنكبوت : 31 ] أن الملائكة يحلون بالقرية واقتضى ذلك أن يخبروا لوطاً بحلولهم بالقرية ، وأنهم مرسلون من عند الله استجابة لطلب لوط النصر على قومه ، فكان هذا المجيء مقدراً حصوله ، فمن ثم جعل شرطاً لحرف { لما } كما تقدم آنفاً في قوله { ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى } [ العنكبوت : 31 ] .
و { أن } حرف مزيد للتوكيد وأكثر ما يزاد بعد { لما } وهو يفيد تحقيق الربط بين مضمون الجملتين اللتين بعد { لما } ، فهي هنا لتحقيق الربط بين مجيء الرسل ومساءة لوط بهم . ومعنى تحقيقه هنا سرعة الاقتران والتوقيت بين الشرط والجزاء تنبيهاً على أن الإساءة عقبت مجيئهم وفاجأته من غير ريث ، وذلك لما يعلم من عادة معاملة قومه مع الوافدين على قريتهم فلم يكون لوط عالماً بأنهم ملائكة لأنهم جاءوا في صورة رجال فأريد هنا التنبيه على أن ما حدث به من المساءة وضيق الذرع كان قبل أن يعلم بأنهم ملائكة جاءوا لإهلاك أهل القرية وقبل أن يقولوا { لا تخف ولا تحزن } .
ولم تقع { أن } المؤكدة في آية سورة هود لأن في تلك السورة تفصيلاً لسبب إساءته وضيق ذرعه فكان ذلك مغنياً عن التنبيه عليه في هذه الآية فكان التأكيد هنا ضرباً من الإطناب . وقد تقدم تفصيل ذلك في سورة هود وتفسيرها هناك .
وبناء فعل { سيء } للمجهول لأن المقصود حصول المفعول دون فاعله .
وعطف عليه جملة { وقالوا لا تخف } لأنها من جملة ما وقع عقب مجيء الرسل لوطاً . وقد طويت جمل دل عليها قوله { إنا مُنَجُّوك وأهلك } وهي الجمل التي ذكرت معانيها في قوله { وجاءه قومه يهرعون إليه } إلى قوله { قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يَصِلُوا إليك } في سورة [ هود : 78 81 ] . وقدّموا تأمينه قبل إعلامه بأنهم منزلون العذاب على أهل القرية تعجيلاً بتطمينه .
وعطفُ { ولا تحزن } على { لا تخف } جمع بين تأمينه من ضرّ العذاب وبين إعلامه بأن الذين سيهلكون ليسوا أهلاً لأن يحزن عليهم ، ومن أولئك امرأته لأنه لا يحزن على من ليس بمؤمن به .
وجملة { إنا منجوك } تعليل للنهي عن الأمرين .
واستثناء امرأته من عموم أهله استثناء من التعليل لا من النهي ، ففي ذلك معذرة له بما عسى أن يحصل له من الحزن على هلاك امرأته مع أنه كان يحسبها مخلصة له ، وقد بيّنا وجه ذلك في تفسير سورة هود .
وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي { مُنْجوك } بسكون النون . وقرأ الباقون بفتح النون وتشديد الجيم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولما أن جاءت رسلنا} الملائكة، {لوطا}، وحسب أنهم من الإنس، {سيء بهم}، يعني: كرههم لوط لصنيع قومه بالرجال، {وضاق بهم ذرعا}، يعني بضيافة الملائكة ذرعا، يعني: مخافة عليهم أن يفضحوهم، {وقالوا}، وقالت الرسل للوط، عليه السلام: {لا تخف ولا تحزن}؛ لأن قومه وعدوه... فقالت الرسل: {إنا منجوك وأهلك}، ثم استثنى امرأته، فذلك قوله عز وجل: {إلا امرأتك كانت من الغابرين} يعني: من الباقين في العذاب.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"ولَمّا أنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطا" من الملائكة "سِيءَ بِهِمْ "يقول: ساءته الملائكة بمجيئهم إليه، وذلك أنهم تَضَيفوه، فساءوه بذلك، فقوله "سِيءَ بِهِمْ": فعل بهم، مِنْ ساءه بذلك.
وذُكر عن قتادة أنه كان يقول: ساء ظنه بقومه، وضاق بضيفه ذَرْعا...
وقوله: "وقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ" يقول تعالى ذكره: قالت الرسل للوط: لا تخف علينا أن يصل إلينا قومك، ولا تحزَن مما أخبرناك من أنّا مهلكوهم، وذلك أن الرسل قالت له: "يا لُوطُ إنّا رُسُلُ رَبّكَ لَنْ يَصِلُوا إلَيْكَ فَأسْرِ بأهْلِكَ بقِطْعٍ مِنَ اللّيْلِ" "إنّا مَنَجّوكَ" من العذاب الذي هو نازل بقومك "وأهْلَكَ" يقول: ومنجو أهلِك معك "إلاّ امْرأتَكَ" فإنها هالكة فيمن يهلك من قومها، كانت من الباقين الذين طالت أعمارهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وضاق بهم ذرعا} هذه كلمة تتكلم بها العرب عند انقطاع جميع الحيل. فلوط إنما قال ذلك لما لم ير لنفسه حيلة يدفع بها شرهم وما قصدوا بهم...
ألا ترى أنه قال في آية أخرى: {قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد}؟ [هود: 80]...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لمَّا أن رآهم لوطٌ ضاق بهم قلبُه لأنه لم يعلم أنهم ملائكةٌ، فخاف عليهم من فساد قومه: فكان ضِيقُ قلبه لأَجْلِ الله -سبحانه، فأخبروه بأنهم ملائكة، وأنَّ قومه لن يَصِلُوا إليهم. فعند ذلك سَكَنَ قلبُه، وزال ضيقُ صَدْرِه. ويقال أقربُ ما يكون العبد في البلاء من الفرج إذا اشتدَّ عليه البلاءُ؛ فعند ذلك يكون زوال البلاء، لأنه يصير مُضْطّراً، واللَّهُ سبحانه وَعَدَ المضطرين وشيك الإجابة، كذلك كان لوط في تلك الليلة، فقد ضاق بهم ذَرْعاً ثم لم يلبث أَنْ وَجَدَ الخلاصَ من ضيقة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَن} صلة أكدت وجود الفعلين مترتباً أحدهما على الآخر في وقتين متجاورين لا فاصل بينهما؛ كأنهما وجدا في جزء واحد من الزمان، كأنه قيل: كما أحس بمجيئهم فاجأته المساءة من غير ريث، خيفة عليهم من قومه {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} وضاق بشأنهم وبتدبير أمرهم ذرعُه أي طاقته، وقد جعلت العرب ضيق الذراع والذرع: عبارة عن فقد الطاقة، كما قالوا: رحب الذراع بكذا، إذا كان مطيقاً له، والأصل فيه أنّ الرجل إذا طالت ذراعه نال ما لا يناله القصير الذراع، فضرب ذلك مثلاً في العجز والقدرة.
...قال الزمخشري: يقال طال ذرعه وذراعه للقادر وضاق للعاجز، وذلك لأن من طال ذراعه يصل إلى ما لا يصل إليه قصير الذراع، والاستعمال يحتمل وجها معقولا غير ذلك، وهو أن الخوف والحزن يوجبان انقباض الروح ويتبعه اشتمال القلب عليه فينقبض هو أيضا والقلب هو المعتبر من الإنسان، فكان الإنسان انقبض وانجمع وما يكون كذلك يقل ذرعه ومساحته فيضيق، ويقال في الحزين ضاق ذرعه والغضب والفرح يوجبان انبساط الروح فينبسط مكانه وهو القلب ويتسع فيقال اتسع ذرعه...
المسألة الأولى: أنه تعالى قال من قبل: {ولما جاءت رسلنا إبراهيم} وقال ههنا: {ولما أن جاءت رسلنا} فما الحكمة فيه؟ فنقول حكمة بالغة وهي أن الواقع في وقت المجيء هناك قول الملائكة {إنا مهلكوا} وهو لم يكن متصلا بمجيئهم لأنهم بشروا أولا ولبثوا، ثم قالوا: إنا مهلكوا وأيضا فالتأني واللبث بعد المجيء ثم الإخبار بالإهلاك حسن فإن من جاء ومعه خبر هائل يحسن منه أن لا يفاجئ به، والواقع ههنا هو خوف لوط عليهم، والمؤمن حين ما يشعر بمضرة تصل بريئا من الجناية ينبغي أن يحزن ويخاف عليه من غير تأخير، إذا علم هذا فقوله ههنا: {ولما أن جاءت رسلنا} يفيد الاتصال يعني خاف حين المجيئ، فإن قلت هذا باطل بما أن هذه الحكاية جاءت في سورة هود، وقال: {ولما جاءت رسلنا لوطا} من غير أن، فنقول هناك جاءت حكاية إبراهيم بصيغة أخرى حيث قال هناك: {ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى} فقوله هنالك: {ولقد جاءت} لا يدل على أن قولهم: {أنا أرسلنا} كان في وقت المجيء.
وقوله: {ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم} دل على أن حزنه كان وقت المجيء. إذا علم هذا فنقول: هناك قد حصل ما ذكرنا من المقصود بقوله في حكاية إبراهيم: {ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى} ثم جرى أمور من الكلام وتقديم الطعام، ثم قالوا: {لا تخف} ولا تحزن {إنا أرسلنا إلى قوم لوط} فحصل تأخير الإنذار، وبقوله في حكاية لوط {ولما جاءت رسلنا} حصل بيان تعجيل الحزن، وأما هنا لما قال في قصة إبراهيم {ولما جاءت} قال في حكاية لوط {ولما أن جاءت} لما ذكرنا من الفائدة.
المسألة الثالثة: قولهم: {لا تخف ولا تحزن} لا يناسبه {إنا منجوك} لأن خوفه ما كان على نفسه، نقول بينهما مناسبة في غاية الحسن، وهي أن لوطا لما خاف عليهم وحزن لأجلهم قالوا له لا تخف علينا ولا تحزن لأجلنا فإنا ملائكة، ثم قالوا له: يا لوط خفت علينا وحزنت لأجلنا، ففي مقابلة خوفك وقت الخوف نزيل خوفك وننجيك، وفي مقابلة حزنك نزيل حزنك ولا نتركك تفجع في أهلك فقالوا: {إنا منجوك وأهلك}...
المسألة الرابعة: القوم عذبوا بسبب ما صدر منهم من الفاحشة وامرأته لم يصدر منها تلك فكيف كانت من الغابرين معهم؟ فنقول الدال على الشر له نصيب كفاعل الشر، كما أن الدال على الخير كفاعله وهي كانت تدل القوم على ضيوف لوط حتى كانوا يقصدونهم، فبالدلالة صارت واحدة منهم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
و {أن} حرف مزيد للتوكيد وأكثر ما يزاد بعد {لما} وهو يفيد تحقيق الربط بين مضمون الجملتين اللتين بعد {لما}، فهي هنا لتحقيق الربط بين مجيء الرسل ومساءة لوط بهم. ومعنى تحقيقه هنا سرعة الاقتران والتوقيت بين الشرط والجزاء تنبيهاً على أن الإساءة عقبت مجيئهم وفاجأته من غير ريث، وذلك لما يعلم من عادة معاملة قومه مع الوافدين على قريتهم... ولم تقع {أن} المؤكدة في آية سورة هود لأن في تلك السورة تفصيلاً لسبب إساءته وضيق ذرعه فكان ذلك مغنياً عن التنبيه عليه في هذه الآية فكان التأكيد هنا ضرباً من الإطناب. وقد تقدم تفصيل ذلك في سورة هود وتفسيرها هناك. وبناء فعل {سيء} للمجهول لأن المقصود حصول المفعول دون فاعله...
وجملة {إنا منجوك} تعليل للنهي عن الأمرين. واستثناء امرأته من عموم أهله استثناء من التعليل لا من النهي، ففي ذلك معذرة له بما عسى أن يحصل له من الحزن على هلاك امرأته مع أنه كان يحسبها مخلصة له، وقد بيّنا وجه ذلك في تفسير سورة هود.