{ يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت } الذي ثبت بالحجة عندهم وتمكن في قلوبهم { في الحياة الدنيا } فلا يزالون إذا فتنوا في دينهم كزكريا ويحي عليهما السلام وجرجيس وشمعون والذين فتنهم أصحاب الأخدود . { وفي الآخرة } فلا يتلعثمون إذا سئلوا عن معتقدهم في الموقف ، ولا تدهشهم أهوال يوم القيامة . وروي ( أنه صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح المؤمن فقال : ثم تعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه في قبره ويقولان له : من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ فيقول : ربي الله وديني الإسلام ، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم ، فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فذلك قوله : { يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت } . { ويضل الله الظالمين } الذين ظلموا أنفسهم بالاقتصار على التقليد فلا يهتدون إلى الحق ولا يثبتون في مواقف الفتن . { ويفعل الله ما يشاء } من تثبيت بعض وإضلال آخرين من غير اعتراض عليه .
{ القول الثابت في الحياة الدنيا } ، كلمة الإخلاص والنجاة من النار : لا إله إلا الله ، والإقرار بالنبوة .
وهذه الآية تعم العالم من لدن آدم عليه السلام إلى يوم القيامة ، وقال طاوس وقتادة وجمهور العلماء : { الحياة الدنيا } هي مدة حياة الإنسان . { وفي الآخرة } هي وقت سؤاله في قبره . وقال البراء بن عازب وجماعة { في الحياة الدنيا } هي وقت سؤاله في قبره -ورواه البراء عن النبي عليه السلام في لفظ متأول{[7073]} .
قال القاضي أبو محمد : ووجه القول لأن ذلك في مدة وجود الدنيا .
وقوله { في الآخرة } هو يوم القيامة عند العرض .
قال القاضي أبو محمد : والأول أحسن ، ورجحه الطبري .
و { الظالمين } في هذه الآية ، الكافرين ، بدليل أنه عادل بهم المؤمنين ، وعادل التثبيت بالإضلال ، وقوله : { ويفعل الله ما يشاء } تقرير لهذا التقسيم المتقدم ، كأن امرأً رأى التقسيم فطلب في نفسه علته ، فقيل له : { ويفعل الله ما يشاء } بحق الملك .
وفي هذه الآية رد على القدرية .
وذكر الطبري في صفة مساءلة العبد في قبره أحاديث ، منها ما وقع في الصحيح . وهي من عقائد الدين ، وأنكرت ذلك المعتزلة . ولم تقل بأن العبد يسأل في قبره ، وجماعة السنة تقول : إن الله يخلق له في قبره إدراكات وتحصيلاً ، إما بحياة كالمتعارفة ، وإما بحضور النفس وإن لم تتلبس بالجسد كالعرف ، كل هذا جائز في قدرة الله تعالى ، غير أن في الأحاديث : «إنه يسمع خفق النعال » ، ومنها : «إنه يرى الضوء كأن الشمس دنت للغروب » ، وفيها : «إنه ليراجع » ، وفيها : «فيعاد روحه إلى جسده » ، وهذا كله يتضمن الحياة - فسبحان رب هذه القدرة .
جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عما أثاره تمثيل الكلمة الطيبة بالشجرة الثابتة الأصل بأن يسأل عن الثبات المشبه به : ما هو أثره في الحالة المشبهة فيجاب بأن ذلك الثبات ظهر في قلوب أصحاب الحالة المشبهة وهم الذين آمنوا إذ ثبتوا على الدين ولم يتزعزعوا فيه لأنهم استثمروا من شجرة أصلها ثابت .
والقول : الكلام . والثابت الصادق الذي لا شك فيه . والمراد به أقوال القرآن لأنها صادقة المعاني واضحة الدليل ، فالتعريف في { القول } لاستغراق الأقوال الثابتة . والباء في { بالقول } للسببية .
ومعنى تثبيت الذين آمنوا بها أن الله يسر لهم فيهم الأقوال الإلهية على وجهها وإدراك دلائلها حتى اطمأنت إليها قلوبهم ولم يخامرهم فيها شك فأصبحوا ثابتين في إيمانهم غير مزعزعين وعاملين بها غير مترددين .
وذلك في الحياة الدنيا ظاهر ، وأما في الآخرة فبإلفائهم الأحوال على نحو مما علموه في الدنيا ، فلم تعترهم ندامة ولا لهف . ويكون ذلك بمظاهر كثيرة يَظهر فيها ثباتهم بالحق قولاً وانسياقاً ، وتظهر فيها فتنة غير المؤمنين في الأحوال كلها .
وتفسير ذلك بمقابلته بقوله : { ويضل الله الظالمين } ، أي المشركين ، أي يجعلهم في حيرة وعَماية في الدنيا وفي الآخرة . والضلال : اضطراب وارتباك ، فهو الأثر المناسب لسببه ، أعني الكلمة التي اجتثت من فوق الأرض كما دلت عليه المقابلة .
والظالمون : المشركون ، قال تعالى : { إن الشرك لظلم عظيم } [ سورة لقمان : 13 ] .
ومن مظاهر هذا التثبيت فيهما ما ورد من وصف فتنة سؤال القبر . روى البخاري والترمذي عن البَرَاء بن عازب أن رسول الله قال : المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فذلك قوله تعالى : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } .
وجملة { ويفعل الله ما يشاء } كالتذليل لما قبلها . وتحت إبهام { ما يشاء } وعمومه مطاوٍ كثيرة من ارتباط ذلك بمراتب النفوس ، وصفاء النيات في تطلب الإرشاد ، وتربية ذلك في النفوس بنمائه في الخير والشر حتى تبلغ بذور تيْنك الشجرتين منتهى أمدهما من ارتفاع في السماء واجتثاث من فوق الأرض المعبر عنها بالتثبيت والإضلال . وفي كل تلك الأحوال مراتب ودرجات لا تبلغ عقول البشر تفصيلها .
وإظهار اسم الجلالة في { ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء } لِقصد أن تكون كل جملة من الجمل الثلاث مستقلة بدلالتها حتى تسير مسير المثَل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر المؤمنين بالتوحيد في حياتهم وبعد موتهم، فقال سبحانه: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت}، وهو التوحيد، {في الحياة الدنيا}، ثم قال: {و} يثبتهم {وفي الآخرة}، يعني في قبره في أمر منكر ونكير... {ويضل الله الظالمين}، يعني المشركين، حيث لا يوفق لهم ذلك حين يسأل في قبره: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ {ويفعل الله ما يشاء} فيهما، فمشيئته أن يثيب المؤمنين ويضل الكافرين...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بقوله:"يُثَبّتُ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا" يحقق الله أعمالهم وإيمانهم "بالقَوْلِ الثّابِتِ "يقول: بالقول الحقّ، وهو فيما قيل: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدً رسول الله.
وأما قوله: "فِي الحَياةِ الدّنيْا" فإن أهل التأويل اختلفوا فيه:
فقال بعضهم: عني بذلك أن الله يثبتهم في قبورهم قبل قيام الساعة...
وقال آخرون: معنى ذلك: يثبت الله الذين آمنوا بالإيمان في الحياة الدنيا، وهو القول الثابت، وفي الآخرة: المسألة في القبر... حدثني الحسن بن سلمة بن أبي كبشة، ومحمد بن معمر البحراني، واللفظ لحديث ابن أبي كبشة، قالا: حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو، قال: حدثنا عباد بن راشد، عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فقال: «يا أيّها النّاسُ إنّ هَذِهِ الأُمّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِها، فإذَا الإنْسانُ دُفنَ وتَفَرّقَ عَنْهُ أصحَابُهُ، جاءَهُ مَلَكٌ بيَدِهِ مِطْرَاقٌ فأَقْعَدَهُ، فَقالَ: ما تَقولُ فِي هذَا الرّجُلِ؟ فإنْ كانَ مُؤمِنا قالَ: أشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وأنّ مُحَمّدا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَيَقُولُ لَهُ: صَدَقْتَ فيُفْتَحُ لَهُ بابٌ إلى النّارِ، فَيُقالُ: هذَا مَنْزِلُكَ لَوْ كَفَرْتَ بِرَبّكَ فَأمّا إذْ آمَنْتَ بِهِ، فإنّ اللّهَ أبْدَلَكَ بِهِ هَذَا. ثُمّ يُفْتَحُ لَهُ بابٌ إلى الجَنّةِ، فَيُرِيدُ أنْ يَنْهَضَ لَهُ، فَيُقالُ لَهُ: اسْكُنْ ثُمّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ. وأمّا الكافِرُ أوِ المُنافِقُ، فَيُقالُ لَهُ ما تَقُولُ فِي هذَا الرّجُلِ؟ فَيَقُولُ: ما أدْرِي، فَيُقالُ لَهُ: لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ وَلا اهْتَدَيْتَ ثُمّ يُفْتَحُ لَهُ بابٌ إلى الجَنّةِ، فَيُقالُ لَهُ: هذَا كانَ مَنْزِلَكَ لَوْ آمَنْتَ بِرَبّكَ فأمّا إذْ كَفَرْتَ فإنّ اللّهَ أبْدَلَكَ هَذَا. ثُمّ يُفْتَحُ لَهُ بابٌ إلى النّارِ، ثُمّ يَقْمَعُهُ المَلَكُ بالمِطْرَاقِ قَمْعَةً يَسْمَعُهُ خَلْقُ اللّهِ كُلّهُمْ إلاّ الثّقَلَيْنِ». قال بعض أصحابه: يا رسول الله ما منا أحد يقوم على رسه ملك بيده مطراق إلا هيل عند ذلك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُثَبّتُ اللّهُ الّذِيَنَ آمَنُوا بالقَوْلِ الثّابِتِ فِي الحَياةِ الدّنيْا وَفِي الاَخِرَةِ وَيُضِلّ اللّهُ الظّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ ما يَشاءُ»...
والصواب من القول في ذلك ما ثبت به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وهو أن معناه: يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا، وذلك تثبيته إياهم في الحياة الدنيا بالإيمان بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وفي الآخرة بمثل الذِي ثبتهم به في الحياة الدنيا، وذلك في قبورهم حين يُسألون عن الذي هم عليه من التوحيد والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم.
"وَيُضِلّ اللّهُ الظّالِمِينَ" فإنه يعني أن الله لا يوفق المنافق والكافر في الحياة الدنيا وفي الآخرة عند المسألة في القبر لما هدي له من الإيمان المؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم...
"وَيَفْعَلُ الله ما يَشاءُ" يعني تعالى ذكره بذلك: وبيد الله الهداية والإضلال، فلا تنكروا أيها الناس قُدرته ولا اهتداء من كان منكم ضالاّ ولا ضَلاَل من كان منكم مهتديا، فإن بيده تصريف خلقه وتقليب قلوبهم، يفعل فيها ما يشاء.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} يشبه أن يكون هذا صلة قوله: {ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة} (إبراهيم: 24) على تأويل من يقول: إن الكلمة الطيبة هي الإيمان، ويكون القول الثابت هو القرآن. يقول، والله أعلم: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا} حين تلقوه بالإجابة والقبول والعمل به {وفي الآخرة} أي بالآخرة والبعث يقرون به. {ويضل الله الظالمين} حين تركوا الإجابة، وتلقوه بالرد والمكابرة والعناد...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} فيه وجهان:
أحدهما: يزيدهم الله أدلة على القول الثابت.
الثاني: يديمهم الله على القول الثابت...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
بالقول الثابت وهو البقاء على الاستقامة، وترك العِوَج.
ويقال القول الثابت هو الشهادة الضرورية عن صفاء العقيدة وخلوص السريرة ويقال القول الثابت هو بنطق القلوب لا بذكر اللسان.
ويقال القول الثابت هو قول الله العزيز القديم الذي لا يجوز عليه الفناء والبطول فهو بالثبوت أَوْلَى من قول العبد...
ويقال إذا دَعَتْه الوساوسُ إلى متابعةِ الشيطان، وصيَّرتْه الهواجسُ إلى موافقة النَّفْس فالحق يثبته على موافقة رضاه.
ويقال إذا دَعَتْه دواعي المحبة من كل جنس كمحبة الدنيا، أو محبة الأولاد والأقارب والأموال والأحباب أعانه الحقُّ على اختيار النجاة منها، فيترك الجميع، ولا يتَحسَّسُ إلا دواعيَ الحقِّ -سبحانه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{القول الثابت} الذي ثبت بالحجة والبرهان في قلب صاحبه وتمكن فيه، فاعتقده واطمأنت إليه نفسه، وتثبيتهم به في الدنيا: أنهم إذا فتنوا في دينهم لم يزلوا، كما ثبت الذين فتنهم أصحاب الأخدود، والذين نشروا بالمناشير ومشطت لحومهم بأمشاط الحديد...
وتثبيتهم في الآخرة أنهم إذا سئلوا عند تواقف الأشهاد عن معتقدهم ودينهم، لم يتلعثموا ولم يبهتوا، ولم تحيرهم أهوال الحشر. وقيل معناه الثبات عند سؤال القبر... {وَيُضِلُّ الله الظالمين} الذين لم يتمسكوا بحجة في دينهم، وإنما اقتصروا على تقليد كبارهم وشيوخهم، كما قلد المشركون آباءهم فقالوا: {إِنَّا وَجَدْنآ ءابآءَنَا} [الزخرف: 22 -23] وإضلالهم في الدنيا أنهم لا يثبتون في مواقف الفتن وتزل أقدامهم أوّل شيء، وهم في الآخرة أضل وأذل.
{وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَآء}... من تثبيت المؤمنين وتأييدهم وعصمتهم عند ثباتهم وعزمهم، ومن إضلال الظالمين وخذلانهم، والتخلية بينهم وبين شأنهم عند زللهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه الآية تعم العالم من لدن آدم عليه السلام إلى يوم القيامة...
اعلم أنه تعالى لما بين أن صفة الكلمة الطيبة أن يكون أصلها ثابتا، وصفة الكلمة الخبيثة أن لا يكون لها أصل ثابت بل تكون منقطعة ولا يكون لها قرار ذكر أن ذلك القول الثابت الصادر عنهم في الحياة الدنيا يوجب ثبات كرامة الله لهم، وثبات ثوابه عليهم، والمقصود: بيان أن الثبات في المعرفة والطاعة يوجب الثبات في الثواب والكرامة من الله تعالى، فقوله: {يثبت الله} أي على الثواب والكرامة، وقوله: {بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} أي بالقول الثابت الذي كان يصدر عنهم حال ما كانوا في الحياة الدنيا.
ثم قال: {ويضل الله الظالمين} يعني كما أن الكلمة الخبيثة ما كان لها أصل ثابت ولا فرع باسق، فكذلك أصحاب الكلمة الخبيثة وهم الظالمون يضلهم الله عن كراماته ويمنعهم عن الفوز بثوابه... والمراد في الباء في قوله: {بالقول الثابت} هو أن الله تعالى إنما ثبتهم في القبر بسبب مواظبتهم في الحياة الدنيا على هذا القول، ولهذا الكلام تقرير عقلي وهو أنه كلما كانت المواظبة على الفعل أكثر كان رسوخ تلك الحالة في العقل والقلب أقوى، فكلما كانت مواظبة العبد على ذكر لا إله إلا الله وعلى التأمل في حقائقها ودقائقها أكمل وأتم، كان رسوخ هذه المعرفة في عقله وقلبه بعد الموت أقوى وأكمل...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
ثم أخبر سبحانه عن فضله وعدله في الفريقين: أصحاب الكلم الطيب، وأصحاب الكلم الخبيث. فأخبر أنه يثبت الذين آمنوا بإيمانهم بالقول الثابت أحوج ما يكونون إليه في الدنيا، والآخرة، وأنه يضل الظالمين، وهم المشركون عن القول الثابت. فأضل هؤلاء بعدله لظلمهم، وثبت المؤمنين بفضله لإيمانهم. تحت هذه الآية كنز عظيم، من وفق لمعرفته وحسن استخراجه واقتنائه وأنفق منه فقد غنم، ومن حرمه فقد حرم. وذلك أن العبد لا يستغني عن تثبيت الله له طرفة عين، فإن لم يثبته الله، وإلا زالت سماء إيمانه وأرضه عن مكانهما، وقد قال تعالى لأكرم خلقه عليه عبده ورسوله: {ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا} [الإسراء: 74] وقال تعالى لأكرم خلقه صلى الله عليه وسلم: {إذا يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا} [الأنفال: 12] وفي «الصحيحين» من حديث البجلي قال: «وهو يسألهم ويثبتهم». وقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك} [هود: 120]. فالخلق كلهم قسمان: (موفق بالتثبيت، ومخذول بترك التثبيت). ومادة التثبيت أصله ومنشؤه من القول الثابت، وفعل ما أمر به العبد، فبهما يثبت الله عبده، فكل من كان أثبت قولا وأحسن فعلا كان أعظم تثبيتا، قال تعالى: {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا} [النساء: 66]. فأثبت الناس قلبا: أثبتهم قولا...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
قال البخاري: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، أخبرني علقمة بن مَرْثَد قال: سمعت سعد بن عبيدة، عن البراء بن عازب، رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم إذا سئل في القبر، شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فذلك قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فلما برز الكلام إلى هذين المثالين، حصل التعجب ممن يترك ممثول الأول و يفعل ممثول الثاني، فوقع التنبيه على أن ذلك بفعل القاهر، فقال تعالى -جواباً لمن كأنه قال: إن هذا الصريح الحق، ثم إنا نجد النفوس مائلة إلى الضلال، وطائشة في أرجاء المحال، فكيف لنا بالامتثال؟ {يثبت الله} أي الذي له الجلال والجمال {الذين آمنوا} أي أوجدوا هذه الحقيقة ولو على أقل درجاتها {بالقول الثابت} أي الذي هو متابعة الدليل {في الحياة الدنيا} بمثل ما تقدم من محاورات أنبيائه {وفي الآخرة} ويهديهم عند كل سؤال إلى أحسن الأقوال حيث تطيش العقول وتدهش الأفكار لشدة الأهوال {ويضل الله} أي الذي له الأمر كله {الظالمين} أي العريقين في الظلم، ويزلزلهم لتقلبهم في الظلمات التي من شأن صاحبها الضلال والخبط، فيفعلون ما لا يرضاه عاقل... {ويفعل الله} أي الذي له الأمر كله، فلا يسأل عما يفعل {ما يشاء} لأن الكل بحكمه وقضائه وهو القادر القاهر، فلا يتعجب من شيء، وفي هذا إرشاد إلى الإقبال عليه وإلقاء أزمّة الافتقار إليه؛ روى البخاري في التفسير وغيره ومسلم في أواخر صفة الجنة والنار عن البراء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال:"المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله"، فذلك قوله تعالى {يثبت الله} الآية...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
وبعد أن وصف الكلمة الطيبة بما سلف أخبر بفوز أصحابها ببغيتهم في الدنيا والآخرة فقال: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة} أي يثبتهم بالكلمة الطيبة التي ذكرت صفاتها العجيبة فيما سلف مدة حياتهم، إذا وجد من يفتنهم عن دينهم ويحاول زللهم كما جرى لبلال وغيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد الموت في القبر الذي هو أول منزل من منازل الآخرة، وفي مواقف القيامة فلا يتلعثمون ولا يضطربون إذا سئلوا عن معتقدهم ولا تدهشهم الأهوال...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} عن الصواب في الدنيا والآخرة، وما ظلمهم الله ولكنهم ظلموا أنفسهم، وفي هذه الآية دلالة على فتنة القبر وعذابه، ونعيمه، كما تواترت بذلك النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة، وصفتها، ونعيم القبر وعذابه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
في ظل الشجرة الثابتة، التي يشارك التعبير في تصوير معنى الثبات وجوه، فيرسمها: أصلها ثابت مستقر في الأرض، وفرعها سامق ذاهب في الفضاء على مد البصر، قائم أمام العين يوحي بالقوة والثبات. في ظل الشجرة الثابتة مثلا للكلمة الطيبة: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة).. وفي ظل الشجرة الخبيثة المجتثة من فوق الأرض ما لها من قرار ولا ثبات: (ويضل الله الظالمين).. فتتناسق ظلال التعبير وظلال المعاني كلها في السياق! يثبت الله الذين آمنوا في الحياة الدنيا وفي الآخرة بكلمة الإيمان المستقرة في الضمائر، الثابتة في الفطر، المثمرة بالعمل الصالح المتجدد الباقي في الحياة. ويثبتهم بكلمات القرآن وكلمات الرسول؛ وبوعده للحق بالنصر في الدنيا، والفوز في الآخرة.. وكلها كلمات ثابتة صادقة حقة، لا تتخلف ولا تتفرق بها السبل، ولا يمس أصحابها قلق ولا حيرة ولا اضطراب. ويضل الله الظالمين بظلمهم وشركهم والظلم يكثر استعماله في السياق القرآني بمعنى الشرك ويغلب] وبعدهم عن النور الهادي، واضطرابهم في تيه الظلمات والأوهام والخرافات واتباعهم مناهج وشرائع من الهوى لا من اختيار الله.. يضلهم وفق سنته التي تنتهي. بمن يظلم ويعمى عن النور ويخضع للهوى إلى الضلال والتيه والشرود. (ويفعل الله ما يشاء).. بإرادته المطلقة، التي تختار الناموس، فلا تتقيد به ولكنها ترضاه. حتى تقتضي الحكمة تبديله فيتبدل في نطاق المشيئة التي لا تقف لها قوة، ولا يقوم في طريقها عائق؛ والتي يتم كل أمر في الوجود وفق ما تشاء...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عما أثاره تمثيل الكلمة الطيبة بالشجرة الثابتة الأصل بأن يسأل عن الثبات المشبه به: ما هو أثره في الحالة المشبهة فيجاب بأن ذلك الثبات ظهر في قلوب أصحاب الحالة المشبهة وهم الذين آمنوا إذ ثبتوا على الدين ولم يتزعزعوا فيه لأنهم استثمروا من شجرة أصلها ثابت. والقول: الكلام. والثابت الصادق الذي لا شك فيه. والمراد به أقوال القرآن لأنها صادقة المعاني واضحة الدليل، فالتعريف في {القول} لاستغراق الأقوال الثابتة. والباء في {بالقول} للسببية. ومعنى تثبيت الذين آمنوا بها أن الله يسر لهم فيهم الأقوال الإلهية على وجهها وإدراك دلائلها حتى اطمأنت إليها قلوبهم ولم يخامرهم فيها شك فأصبحوا ثابتين في إيمانهم غير مزعزعين وعاملين بها غير مترددين. وذلك في الحياة الدنيا ظاهر، وأما في الآخرة فبإلفائهم الأحوال على نحو مما علموه في الدنيا، فلم تعترهم ندامة ولا لهف. ويكون ذلك بمظاهر كثيرة يَظهر فيها ثباتهم بالحق قولاً وانسياقاً، وتظهر فيها فتنة غير المؤمنين في الأحوال كلها. وتفسير ذلك بمقابلته بقوله: {ويضل الله الظالمين}، أي المشركين، أي يجعلهم في حيرة وعَماية في الدنيا وفي الآخرة. والضلال: اضطراب وارتباك، فهو الأثر المناسب لسببه، أعني الكلمة التي اجتثت من فوق الأرض كما دلت عليه المقابلة...
وجملة {ويفعل الله ما يشاء} كالتذليل لما قبلها. وتحت إبهام {ما يشاء} وعمومه مطاوٍ كثيرة من ارتباط ذلك بمراتب النفوس، وصفاء النيات في تطلب الإرشاد، وتربية ذلك في النفوس بنمائه في الخير والشر حتى تبلغ بذور تيْنك الشجرتين منتهى أمدهما من ارتفاع في السماء واجتثاث من فوق الأرض المعبر عنها بالتثبيت والإضلال. وفي كل تلك الأحوال مراتب ودرجات لا تبلغ عقول البشر تفصيلها. وإظهار اسم الجلالة في {ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء} لِقصد أن تكون كل جملة من الجمل الثلاث مستقلة بدلالتها حتى تسير مسير المثَل...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
لقد قرر العلماء أن صاحب النفس المطمئنة الراضية بحكم الله المنفذة لتكليفه يلقى الله فيها بالإخلاص، والإخلاص لله يجعل النفس تشرق بنور الله، فتدرك فتؤمن فتقول الحق وتعمل به، ويكون من بعد ذلك السلوك الاجتماعي المستقيم بأمر الله ونهيه، فمعنى {بالقول الثابت} القول الذي يقوم على دعائم الحق، ولا يتزلزل لباطل...
وتوحي كلمة التثبيت أيضا بأن الإنسان ابن للأغيار، وتطرأ عليه الأحداث التي هي نتيجة لاختيار المُكلّفين في نفاذ حكم أو إبطاله، فالمكلّف حين يأمره الله بحكم، قد يُنفّذه، وقد لا ينفذه...
والقول ثابت، لأنه من الحق الذي لا يتغيّر، وهذا القول مُوجّه للمؤمنين الذين يواجههم قوم أشرار اختاروا أن يكونوا على غير منهج الله...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
تثبيت الله للمؤمنين في الدنيا والآخرة:
وهذا ما ينبغي للمؤمن أن يعيشه ويتحرك فيه ويسمو إليه، لينطلق في الحياة الفكرية التي تمثل خط السير لديه، من قاعدة ثابتةٍ على أساس الحق في المضمون، والحجّة في الحق، لئلا تهتز حياته باهتزاز قناعاته عند أوّل ريحٍ تهبّ على فكره من هنا وهناك، إنه القول الثابت بالحجة الواضحة القوية التي يستطيع الإنسان من خلالها أن يقف في ساحة الصراع بخطوات ثابتةٍ، لا يملك أهل الباطل أن ينحرفوا به عنها {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا} بحيث لا يسقطون أمام الفتنة، ولا ينهارون أمام الاضطهاد، ولا ينحرفون أمام الإغراء {وَفي الآخرةِ} في وقوفهم بثبات أمام الله، في لحظات الحساب دون أن تهزهم أو تسقطهم أهوال القيامة، لأنهم يملكون الرؤية الواضحة لكل الحق الذي اعتقدوه أو عملوا به. فهم يملكون لكل سؤالٍ جواباً، ولكل عملٍ تفسيراً، ذلك أن الإيمان الذي يتعمّق في الفكر والروح والشعور ويمتد في الحياة، يمنح صاحبه الثبات في الخطى، والقوّة في الموقف. إضلال الله الظالمين أمّا الذين كفروا، بما يمثله الكفر من أوهامٍ وتخيلات لا تثبت أمام النقد أو التحدّي لافتقارها إلى الحجة، فإنهم يزدادون ضلالاً كلما امتدت بهم الحياة، لأنّهم ولروحية العناد التي تحكمهم، لا يريدون لضلالهم أن يتحوّل إلى هدى، فيتركهم الله لضلالهم في الدنيا، من خلال اختيارهم لذلك، ويحمّلهم مسؤوليته في الآخرة، بالنتائج السلبية التي يفرضها، وهذا هو معنى إضلال الله لهم، إذ إنه يترك لحياتهم حرية التحرك من مواقع الأهواء...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لأنّ إيمانهم لم يكن إيماناً سطحياً وشخصيتهم لم تكن كاذبة ومتلوّنة، بل كانت شجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السّماء، وبما أنّ ليس هناك من لا يحتاج إلى اللطف الإلهي، وبعبارة أُخرى: كلّ المواهب تعود لذاته المقدّسة، فالمؤمنون المخلصون الثابتون بالاستناد إلى اللطف الإلهي يستقيمون كالجبال في مقابل أيّة حادثة. والله تعالى يحفظهم من الزلاّت التي تعتريهم في حياتهم ومن الشياطين الذين يوسوسون لهم زُخرف الحياة ليزلّوهم عن الطريق...