البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّـٰلِمِينَۚ وَيَفۡعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ} (27)

والقول الثابت هو الذي ثبت بالحجة والبرهان في قلب صاحبه وتمكن فيه ، واطمأنت إليه نفسه .

وتثبيتهم به في الدنيا كونهم لو فتنوا عن دينهم في الدنيا لثبتوا عليه وما زلوا ، كما جرى لأصحاب الأخدود ، والذين نشروا بالمناشير ، وكشطت لحومهم بأمشاط الحديد ، كما ثبت جرجيس وشمعون وبلال حتى كان يعذب بالرمضاء وهو يقول : أحد أحد .

وتثبيتهم في الآخرة كونهم إذا سئلوا عند توافق الإشهاد عن معتقدهم ولم يتلعثوا ، ولم يبهتوا ، ولم تحيرهم أهوال الحشر .

والذين آمنوا عام من لدن آدم إلى يوم القيامة .

وقال طاووس وقتادة وجمهور من العلماء : أن تثبيتهم في الدنيا هو مدة حياة الإنسان ، وفي الآخرة هو وقت سؤاله في قبره ، ورجح هذا القول الطبري .

وقال البراء بن عازب وجماعة : في الحياة الدنيا هي وقت سؤاله في قبره ، ورواه البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي الآخرة هو يوم القيامة عند العرض .

وقيل : معنى تثبيته في الحياة الدنيا وفي الآخرة هو حياته على الإيمان ، وحشره عليه .

وقيل : التثبيت في الدنيا الفتح والنصر ، وفي الآخرة الجنة والثواب .

وما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث البراء من تلاوته عند إيعاد المؤمن في قبره ، وسئل وشهد شهادة الإخلاص قوله تعالى : يثبت الله الذين آمنوا الآية ، لا يظهر منه يعني : أن الحياة الدنيا هي حياة الإنسان ، وأن الآخرة في القبر ، ولا أن الحياة الدنيا هي في القبر ، وأن الآخرة هي يوم القيامة ، بل اللفظ محتمل .

ومعنى يثبت : يديمهم عليه ، ويمنعهم من الزلل .

ومنه قول عبد الله بن رواحة :

فثبت الله ما آتاك من حسن *** تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا

والظاهر أنّ بالقول الثابت متعلق بقوله : يثبت .

وقيل : يتعلق بآمنوا .

وسؤال العبد في قبره معتقد أهل السنة .

ويضل الله الظالمين أي : الكافرين لمقابلتهم بالمؤمنين ، وإضلالهم في الدنيا كونهم لا يثبتون في مواقف الفتن ، وتزل أقدامهم وهي الحيرة التي تلحقهم ، إذ ليسوا متمسكين بحجة .

وفي الآخرة هو اضطرابهم في جوابهم .

ولما تقدم تشبيه الكلمة الطيبة على تشبيه الكلمة الخبيثة ، تقدم في هذا الكلام من نسبت إليه الكلمة الطيبة وتلاه من نسبت إليه الكلمة الخبيثة .

ولما ذكر تعالى ما فعل بكل واحد من القسمين ذكر أنه لا يمكن اعتراض فيما خص به كل واحد منهما ، إذ ذاك راجع إلى مشيئته تعالى ، إنّ الله يفعل ما يشاء ، لا يسئل عما يفعل .

وقال الزمخشري : ويفعل الله ما يشاء أي : توجيه الحكمة ، لأنّ مشيئة الله تابعة للحكمة من تثبيت المؤمنين وتأييدهم وعصمتهم عند ثباتهم وعزمهم ، ومن إضلال الظالمين وخذلانهم والتخلية بينهم وبين شأنهم عند زللهم انتهى .

وفيه دسيسة الاعتزال .