التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّـٰلِمِينَۚ وَيَفۡعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ} (27)

أما الآية الرابعة فهي مثابة التوجيه والتعقيب : فالذين آمنوا بالله يثبتهم الله بالقول الثابت الصالح النافع في الدنيا والآخرة ، وأما الظالمون أي الذين فسدت قلوبهم ودرجوا على البغي والإجرام والانحراف فهم محرومون من هذه العناية الربانية بسبب ظلمهم . والذي يريده الله هو الذي يكون على النحو الذي يشاؤه .

ويلفت النظر إلى أسلوب ومضمون الآية الأخيرة ، فقد انطويا على إزالة ما يمكن أن يقوم من وهم تحتيم الله سبحانه بضلال ضالين وإيمان مؤمنين بأعيانهم ، وعلى تقرير كون عناية الله وتثبيته قد كانا للمؤمنين بعد إيمانه ؛ لأنه أثبت بذلك حسن نيته وصدق رغبته ، وكون سخط الله وإضلاله قد كانا للظالم الكافر المنحرف ؛ لأنه اتصف بهذه الصفات أو أدرج عليها .

تعليق على آية

{ يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا

وفي الآخرة ويضل الله الظالمين }

وعلى ما ورد من أحاديث عن سؤال القبر

والآية في حد ذاتها جديرة بالتنويه بصورة خاصة . فهي تلهم أنها بسبيل تقرير أن من شأن الإيمان أن يشع في نفس صاحبه فيجعله يدرك الخير ويسير في طريقه فيسعد ويطمئن ويحظى برضاء الله وعنايته وتثبيته في كل موقف في الدنيا والآخرة بعكس الكفر الذي يغلق قلب صاحبه ويجعله مظلما قاتما فلا يتورع عن اقتراف الآثام والشرور دون رادع ولا وازع فيكون شؤما على نفسه وغيره مستحقا لسخط الله وغضبه وحرمانه من التسديد والتوفيق .

وننبه بنوع خاص إلى جملة { ويضل الله الظالمين } حيث ينطوي فيها تقرير كون إضلال الله وعدم إسعاده وتوفيقه للظالمين ، إنما كان لتحقق الظلم منهم ، وحيث تكون من نوع الضوابط التي ما فتئنا ننبه عليها في مناسباتها لإزالة إشكال العبارات القرآنية المطلقة في هداية الناس وإضلالهم .

ومع أن مضمون الآية وروحها شاملان لمواقف الدنيا والآخرة فقد أورد البخاري في فصل التفسير من صحيحه حديثا رواه البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم يوهم أنه تفسير لهذه الآية ، وأنها في صدد السؤال الذي يوجه للموتى في قبورهم بعد دفنهم وجوابهم عليه حيث جاء فيه : ( المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قوله { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } {[1215]} .

ولقد أورد المفسرون في سياق هذه الآية أحاديث أخرى بعضها يبدو أنها تفسير أو تطبيق للآية وبعضها في سؤال القبر ونعيمه وعذابه كما روى أصحاب كتب الأحاديث الصحيحة أحاديث عديدة في هذا الباب ، من ذلك حديث رواه أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } ذلك إذا قيل له في القبر : من ربك وما دينك ومن نبيك ؟ فيقول : ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد جاءنا بالبينات من عند الله فآمنت به وصدقت ، فيقال له : صدقت ، على هذا عشت وعليه متّ وعليه تبعث ){[1216]} . ومن ذلك حديث عن البراء قال : ( خرجنا مع رسول الله في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولمّا يلحد ، فجلس رسول الله وجلسنا حوله كأن على رؤوسنا الطير وفي يده عود ينكت به الأرض فرفع رأسه فقال : استعيذوا بالله من عذاب القبر ؛ مرتين أو ثلاثا ثم قال : إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال إلى الآخرة نزلت إليه الملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر ، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس المطمئنة أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان ، فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء ، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن ، وفي ذلك الحنوط ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا : ما هذه الروح الطيبة ؟ فيقولون : فلان ابن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا ، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح له فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها ، حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة فيقول الله : اكتبوا كتاب عبدي في عليّين وأعيدوه إلى الأرض ، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى . فتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : ربي الله ، فيقولان : ما دينك ؟ فيقول : الإسلام ، فيقولان ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هو رسول الله ، فيقولان : وما علمك ؟ فيقول : قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت . فينادي مناد من السماء : أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة ، فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره ، ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول : أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي توعد ، فيقول له : من أنت فوجهك الوجه الذي يأتي بالخير ؟ فيقول : أنا عملك الصالح ، فيقول : رب أقم الساعة رب أقم الساعة . وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء سود الوجه معهم المسوح فجلسوا منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت فيجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس الخبيثة أخرجي إلى سخط من الله وغضب ، فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها ، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح فيخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض ، فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا : ما هذه الروح الخبيثة ؟ فيقولون : فلان ابن فلان ، بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا ، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح . ثم يقرأ رسول الله { لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط } [ الأعراف : 40 ] فيقول الله : اكتبوا كتابه في سجين الأرض السفلى ، فتطرح روحه طرحا ، ثم قرأ : { ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق } [ الحج : 31 ] فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه ويقولان له : من ربك ؟ فيقول : هاه هاه لا أدري : فيقولان : ما دينك ؟ فيقول : هاه هاه لا أدري ، فيقولان : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هاه هاه لا أدري . فينادي مناد من السماء أن كذّب عبدي فافرشوه من النار وافتحوا له بابا إلى النار ، فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه حتى تختلف فيه أضلاعه ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول : أبشر بالذي يسوؤك ، هذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول : من أنت فوجهك الذي يجيء بالشر ؟ فيقول : أنا عملك الخبيث فيقول : رب لا تقم الساعة ) {[1217]} . وقد روى أصحاب كتب الصحاح الخمسة : البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي معا حديثا فيه بعض هذا الحديث عن أنس جاء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه ، وإنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان : ما كنت تقول في هذا الرجل ( أي محمد ) ؟ فأما المؤمن فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله ، فيقال له : انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة ، فيراهما جميعا . وأما الكافر أو المنافق فيقال له : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : لا أدري كنت أقول ما يقول الناس ، فيقال : لا دريت ولا تليت ويضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين ){[1218]} .

ورووا كذلك حديثا عن أسماء قالت : ( إن النبي صلى الله عليه وسلم حمد الله وأثنى عليه ثم قال : ما من شيء لم أكن أريته إلا رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار فأوحي إليّ أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبا من فتنة المسيح الدجال . يقال : ما علمك بهذا الرجل ؟ فأما المؤمن أو الموقن فيقول : هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى فأجبناه واتبعناه هو محمد ثلاثا ، فيقال : نم صالحا فقد علمنا إن كنت موقنا به . وأما المنافق أو المرتاب فيقول : لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته ) {[1219]} .

ورووا أيضا حديثا عن ابن عمر قال : ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة ){[1220]} . ورووا : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو : اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب النار ومن فتنة المحيا والممات ومن فنتنة المسيح الدجال ){[1221]} . وروى الترمذي عن عثمان بن عفان قال : ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن القبر أول منازل الآخرة ، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه ، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما رأيت منظرا قط إلا القبر أفظع منه ) {[1222]} .

وهناك أحاديث كثيرة أخرى غير ما أوردناه فاكتفينا بما أوردناه {[1223]} . ونقول تعليقا على ما ورد منه كتفسير أو تطبيق للآية : إنه ما دام مضمون الآية وروحها يلهمان أنها أوسع شمولا ، وأنها تتناول كل موقف في الحياة الدنيا وفي الآخرة فالمتبادر أن ما جاء في الأحاديث هو من باب التمثيل لتثبيت الله للمؤمن واضطراب الكافر في موقف من المواقف .

ونقول في موضوع سؤال القبر ونعيمه وعذابه مادام قد ورد فيه أحاديث صحيحة لا يصح الممارة فيها : إن من واجب المسلم أن يؤمن بأخبار الغيب التي تثبت عن رسول الله ولو لم يدركها العقل العادي ويقف عند ذلك كما هو الشأن فيما جاء من ذلك في القرآن مع الإيمان بأن ذلك في نطاق قدرة الله ، وبأنه لا بد لذكر ذلك من حكمة . والمتبادر أن من الحكمة هنا تطمين المؤمن وتشويقه وتثبيته والحث على الإيمان وتخويف الكافر وتقبيح الكفر .

وهذا ما يمكن أن يستلهم من نصوص الأحاديث وبخاصة حديث البراء الطويل ، والله أعلم .

وورود الآيات بعد بيان مصير كل من المؤمنين والكافرين في الآخرة يجعل الصلة بينها وبين ما قبلها قائمة كما هو المتبادر .


[1215]:انظر التاج ج 4 ص 136.
[1216]:انظر تفسير الآية في ابن كثير.
[1217]:تفسير ابن كثير وقد ذكر المفسر أن هذا الحديث رواه أبو داود من حديث الأعمش والنسائي وابن ماجه من حديث المنهال بن عمرويه.
[1218]:انظر التاج ج 1 ص 338-339.
[1219]:انظر المصدر نفسه ص 339-340.
[1220]:انظر المصدر نفسه.
[1221]:انظر التاج أيضا ج 1 ص 339-340.
[1222]:انظر المصدر نفسه.
[1223]:انظر المصدر نفسه وانظر تفسير الآية في كتب تفسير ابن كثير والطبري والبغوي والخازن.