فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّـٰلِمِينَۚ وَيَفۡعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ} (27)

{ يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء ( 27 ) }

{ يُثَبِّتُ اللّهُ } راجع للمثل الأول { الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ } أي بالحجة الواضحة 0عندهم وهي الكلمة الطيبة المتقدم ذكرها ، وقد ثبت في الصحيح أنها كلمة الشهادة يقولها المؤمن إذا قعد في قبره قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( فذلك قوله تعالى يثبت الله ) الآية{[1013]} وقيل معنى تثبيت الله لهم هو أن يدوموا عليه { فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } ويستمروا حتى إذا فتنوا في دينهم لم يزالوا كما ثبت الذين فتنهم أصحاب الأخدود وغير ذلك .

{ وَفِي الآخِرَةِ } أي في القبر بتلقين الجواب وتمكين الصواب ، قاله الجمهور وقيل يوم القيامة عند البعث والحساب ، وقيل المراد بالحياة الدنيا وقت المسألة في القبر وفي الآخرة وقت المسألة يوم القيامة والمراد أنهم إذا سئلوا عن معتقدهم ودينهم أوضحوا ذلك بالقول الثابت من دون تلعثم{[1014]} ولا تردد ولا جهل ، كما يقول من لم يوفق لا أدري فيقال له لا دريت ولا تليت .

وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله ) فذلك قوله : { يثبت الله الذين آمنوا } الآية{[1015]} ، وعن البراء قال : ( إذا جاء الملكان إلى الرجل في القبر فقالا من ربك فقال ربي الله ، وقالا وما دينك قال ديني الإسلام ، وقالا من نبيك قال نبيي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فذلك التثبيت في الحياة الدنيا ) {[1016]} وعن ابن عباس نحوه ، وعن أبي سعيد قال في الآخرة القبر ، وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( هذا في القبر ) .

وأخرج البزار عنها أيضا قالت : قلت يا رسول الله تبتلى هذه الأمة في قبورها فكيف بي وأنا امرأة ضعيفة ؟ قال : { يثبت الله الذين آمنوا } . الآية .

وعن عثمان بن عفان قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال : ( استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل ) {[1017]} أخرجه أبو داود ، وقد وردت أحاديث كثيرة في سؤال الملائكة للميت في قبره وفي جوابه عليهم وفي عذاب القبر وفتنته ، وليس هذا موضع بسطها وهي معروفة ، نسأل الله التثبيت في القبر وحسن الجواب وتسهيله بفضله إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير .

{ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ } راجع للمثل الثاني ، أي يضلهم عن حجتهم التي هي القول الثابت فلا يقدرون على التكلم في قبورهم ولا عند الحساب ، كما أضلهم عن اتباع الحق في الدنيا ، قيل والمراد بالظالمين هنا الكفرة ، وقيل كل من ظلم نفسه ولو بمجرد الإعراض عن البينات الواضحة فإنه لا يثبت في مواقف الفتن ولا يهتدي إلى الحق .

{ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء } من التثبيت للمؤمنين والخذلان للظالمين لا راد لحكمه ولا اعتراض عليه . قال الفراء : أي لا تنكر له قدرة ولا يسأل عما يفعل والإظهار في محل الإضمار في الموضعين لتربية المهابة .


[1013]:النسائي كتاب الجنائز باب 114.
[1014]:التلعثم، التوقف أهـ، قاموس أهـ منه.
[1015]:مسلم 2871 – البخاري 725.
[1016]:أبو داود كتاب السنة باب 24 – الترمذي تفسير سورة 14.
[1017]:أبو داود كتاب الجنائز الباب 69.