الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّـٰلِمِينَۚ وَيَفۡعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ} (27)

وقوله سبحانه : { يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُوا بالقول الثابت فِي الحياة الدنيا وَفِي الأخرة } [ إبراهيم : 27 ] .

{ بالقول الثابت فِي الحياة الدنيا } : كلمةُ الإِخلاصِ والنجاةِ من النَّار : «لا إله إِلا اللَّه » ، والإِقرارُ بالنبوءة ، وهذه الآية تعمُّ العالَمَ مِنْ لدنْ آدم عليه السلام إِلى يوم القيامةِ . قال طَاوُسٌ ، وقتادة ، وجمهور من العلماء : { الحياة الدنيا } هي مدَّة حياةِ الإِنسان ، { وَفِي الأخرة } وَقْتُ سؤاله في قَبْرِهِ .

وقال البَرَاء بنَ عَازِبٍ وجماعة : { فِي الحياة الدنيا } : هي وقتُ سؤاله في قَبْره ، ورواه البَرَاءُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في لفظ متأوَّلٍ ، وفي الآخرة : هو يوم القيامة عندَ العَرْض ، والأولُ أحسن ، ورجَّحه الطبريُّ .

( ت ) : ولفظ البخاريِّ عن البراءِ بْنِ عازِبٍ أَنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( المُسْلِمُ إِذَا سُئِلَ فِي القَبْرِ ، يَشْهَدُ أَنْ لاَ إله إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ : { يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُوا بالقول الثابت فِي الحياة الدنيا وَفِي الأخرة } ) . وحديثُ البَرَاءِ خَرَّجه البخاريُّ ومسلم وأبو داود والنسائيُّ وابنُ ماجه .

قال صاحب «التذكرة » : وقد رَوَى هذا الحديثَ أبو هريرة وابن مسعود وابنُ عباس وأبو سَعِيدٍ الخدريُّ قال أبو سعيدٍ الخُدْرِيُّ : كُنَّا في جنازةٍ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : ( يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ تُبْتَلَى في قُبُورِهَا فإِذَا الإِنْسَانُ دُفِنَ وَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ ، جَاءَهُ مَلَكٌ بِيَدِهِ مِطْرَاقٌ ، فَأَقْعَدَهُ ، فَقَالَ : مَا تَقُولُ في هَذَا الرَّجُلِ ) الحديثَ .

وفيه : فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : ( مَا أَحَدٌ يَقُومُ عَلَى رَأْسِهِ مَلَكٌ بِيَدِهِ مِطْرَاقٌ إِلاَّ هَبلَ ، فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : { يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت فِي الحياة الدنيا وَفِي الأخرة وَيُضِلُّ الله الظالمين وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ } انتهى .

قال أبو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ البِرِّ : وُروِّينا من طرق أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعُمَرَ : ( كَيْفَ بِكَ يَا عُمَرُ ، إِذَا جَاءَكَ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ ، إِذَا مُتَّ ، وانطلق بِكَ قَوْمُكَ ، فَقَاسُوا ثَلاَثَةَ أَذْرُعٍ وشِبْراً في ذِرَاعٍ وَشِبْرٍ ، ثُمَّ غَسَّلُوكَ ، وَكَفَّنُوكَ ، وَحَنَّطُوكَ ، ثُمَّ احتملوك ، فَوَضَعُوكَ فِيهِ ، ثُمَّ أَهَالُوا عَلَيْكَ التُّرَابَ ، فَإِذَا انصرفوا عَنْكَ أَتَاكَ فَتَّانَا الْقَبْرِ : مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ ، أَصْواتُهُمَا كَالرَّعْدِ القَاصِفِ ، وَأَبْصَارُهُمَا كَالبَرْقِ الخَاطِفِ يَجُرَّانِ شُعُورَهُمَا مَعَهُمَا مِرْزَبَةٌ ، لَوْ اجتمع عَلَيْهَا أَهْلُ الأَرْضِ لَمْ يَقْلِبُوهَا ، فَقَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِن فَرِقْنَا فَحَقٌّ لَنَا أَنْ نَفْرَقَ أَنُبْعَثُ عَلَى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، قَالَ : إِذَنْ أَكْفِيَكَهُمَا ) ، انتهى . و«الظالمين » في هذه الآية : الكافرين .

{ وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ } ، أي : بحقِّ الملك فلا رادَّ لأَمره ، ولا معقِّب لِحُكْمه . وجاءتْ أحاديثٌ صحيحةٌ في مُسَاءلة العبد في قبره ، وجماعة السُّنَّة تقولُ : إِنَّ اللَّه سبْحَانه يَخْلُقُ للعَبْدِ في قَبْرِهِ إِدراكاتٍ وتحصيلاً : إِما بحياةٍ كالمتعارفة وإِما بحضورِ النَّفْس ، وإِن لم تتلبَّس بالجَسَدِ كالعُرْف ، كلُّ هذا جائزٌ في قُدْرة اللَّه تَبَارَكَ وتعالى غير أنَّ في الأحاديثِ الصَّحيحةِ «أَنَّهُ يَسْمَعُ خَفْقَ النِّعَالِ » ، ومنها : أنه يرى الضوء كَأَنَّ الشمْسَ دَنَتْ للغروب ، وفيها أنه يُرَاجَعُ ، وفيها : «فَيُعَادُ رُوحُهُ إِلَى جَسَدِهِ » ، وهذا كلُّه يتضمَّن الحياةَ ، فسُبْحَانَ مَنْ له هذه القدرةُ العظيمةُ .