{ إلا تنصروه فقد نصره الله } أي إن لم تنصروه فسينصره الله كما نصره . { إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين } ولم يكن معه إلا رجل واحد ، فحذف الجزاء وأقيم ما هو كالدليل عليه مقامه ، أو إن لم تنصروه فقد أوجب الله له النصر حتى نصره في مثل ذلك الوقت فلن يخذله في غيره ، وإسناد الإخراج إلى الكفرة لأن همهم بإخراجه أو قتله تسبب لإذن الله له بالخروج . وقرئ { ثاني اثنين } بالسكون على لغة من يجري المنقوص مجرى المقصور في الإعراب ونصبه على الحال . { إذ هما في الغار } بدل من إذ أخرجه بدل البعض إذ المراد به زمان متسع ، والغار نقب في أعلى ثور وهو جبل في يمنى مكة على مسيرة ساعة مكثا فيه ثلاثا . { إذ يقول } بدل ثان أو ظرف لثاني . { لصاحبه } وهو أبو بكر رضي الله تعالى عنه { لا تحزن إن الله معنا } بالعصمة والمعونة . روي ( أن المشركين طلعوا فوق الغار فأشفق أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما ظنك باثنين الله ثالثهما " ، فأعماهم الله عن الغار فجعلوا يترددون حوله فلم يروه ) . وقيل لما دخلا الغار بعث الله حمامتين فباضتا في أسفله والعنكبوت فنسجت عليه . { فأنزل الله سكينته } أمنته التي تسكن عندها القلوب . { عليه } على النبي صلى الله عليه وسلم ، أو على صاحبه وهو الأظهر لأنه كان منزعجا . { وأيّده بجنود لم تروها } يعني الملائكة أنزلهم ليحرسوه في الغار أو ليعينوه على العدو يوم بدر والأحزاب وحنين ، فتكون الجملة معطوفة على قوله { نصره الله } . { وجعل كلمة الذين كفروا السفلى } يعني الشرك أو دعوة الكفر . { وكلمة الله هي العليا } يعني التوحيد أو دعوة الإسلام ، والمعنى وجعل ذلك بتخليص الرسول صلى الله عليه وسلم عن أيدي الكفار إلى المدينة فإنه المبدأ له ، بتأييده إياه بالملائكة في هذه المواطن أو بحفظه ونصره له حيث حضر . وقرأ يعقوب { وكلمة الله } بالنصب عطفا على كلمة { الذين } ، والرفع أبلغ لما فيه من الإشعار بأن { كلمة الله } عالية في نفسها وإن فاق غيرها فلا ثبات لتفوقه ولا اعتبار ولذلك وسط الفصل . { والله عزيز حكيم } في أمره وتدبيره .
هذا أيضاً شرط وجواب والجواب في الفاء من قوله { فقد } وفيما بعدها ، قال النقاش : هذه أول آية نزلت من سورة براءة ، ومعنى الآية أنكم إن تركتم نصره فالله متكفل به ، إذ فقد نصره في موضع القلة والانفراد وكثرة العدو ، فنصره إياه اليوم أحرى منه حينئذ ، وقوله { إذ أخرجه الذين كفروا } يريد فعلوا من الأفاعيل ما أدى إلى خروجه ، وأسند الإخراج إليهم إذ المقصود تذنيبهم ، ولما كان مقصد أبي سفيان بن الحارث الفخر في قوله : من طردت كل مطرد ، لم يقرره النبي صلى الله عليه وسلم ، والإشارة إلى خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وفي صحبته أبو بكر ، واختصار القصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينتظر أمر الله عز وجل في الهجرة من مكة ، وكان أبو بكر حين ترك ذمة ابن الدغنة قد أراد الخروج من مكة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «اصبر فلعل الله أن يسهل في الصحبة » ، فلما أذن الله لرسوله في الخروج تجهز من دار أبي بكر وخرجا فبقيا في الغار الذي في جبل ثور في غربي مكة ثلاث ليال ، وخرج المشركون في أثرهم حتى انتهو إلى الغار ، فطمس عليهم الأثر ، وقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم : لو نظر أحدهم لقدمه لرآنا ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «ما ظنك باثنين الله ثالثهما » .
ويروى أن العنكبوت نسجت على باب الغار ، ويروى أن الحمامة عششت عند باب الغار ، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يجعل ثماماً{[5655]} في باب الغار فتخيله المشركون نابتاً وصرفهم الله عنه ، ووقع في الدلائل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه نبتت على باب الغار«راءة » أمرها الله بذلك في الحين ، قال الأصمعي : جمعها راء وهي نبات من السهل .
وروي أن أبا بكر لما دخل الغار خرق رداءه فسدَّ به كواء{[5656]} الغار لئلا يكون فيها حيوان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم .
وروي أنه بقيت واحدة فسدها برجله فوقى الله تعالى ، وكان يروح عليهما باللبن عامر بن فهيرة مولى أبي بكر ، وقوله { ثاني اثنين } معناه أحد اثنين ، وهذا كثالث ثلاثة ورابع أربعة فإذا اختلف اللفظ فقلت رابع ثلاثة فالمعنى صير الثلاثة بنفسه أربعة ، وقرأ جمهور الناس «ثانيَ اثنين » بنصب الياء من «ثاني » .
قال أبو حاتم : لا يعرف غير هذا وقرأت فرقة «ثاني اثنين » بسكون الياء من ثاني ، قال أبو الفتح : حكاها أبو عمرو بن العلاء ، ووجهه أنه سكن الياء تشبيهاً لها بالألف .
قال القاضي أبو محمد : فهذه كقراءة ما بقي من الربا{[5657]} وكقوله جرير : [ البسيط ]
هو الخليفةُ فارضوا ما رضي لكمُ*** ماضي العزيمة ما في حكمه جنف{[5658]}
و «صاحبه » أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وروي أن أبا بكر الصديق قال يوماً وهو على المنبر : أيكم يحفظ سورة التوبة ، فقال رجل أنا ، فقال اقرأ فقرأ ، فلما انتهى إلى قوله { إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } بكى وقال أنا والله صاحبه ، وقال الليث : ما صحب الأنبياء مثل أبي بكر الصديق ، وقال سفيان بن عيينة : خرج أبو بكر بهذه الآية من المعاتبة التي في قوله : { إلا تنصروه } .
قال القاضي أبو محمد : أقول بل خرج منها كل من شاهد غزوة تبوك ولم يتخلف ، وإنما المعاتبة لمن تخلف فقط ، أما إن هذه الآية منوهة بأبي بكر حاكمة بقدمه وسابقته في الإسلام رضي الله عنه ، وقوله : { إن الله معنا } يريد به النصر والإنجاء واللطف{[5659]} ، وقوله تعالى : { فأنزل الله سكينته عليه } الآية ، قال حبيب بن أبي ثابت : الضمير في { عليه } عائد على أبي بكر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل ساكن النفس ثقة بالله عز وجل .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول من لم ير السكينة إلا سكون النفس والجأش ، وقال جمهور الناس : الضمير عائد على النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أقوى ، و «السكينة » عندي إنما هي ما ينزله الله على أنبيائه من الحياطة لهم والخصائص التي لا تصلح إلا لهم{[5660]} ، كقوله تعالى : { فيه سكينة من ربكم }{[5661]} ويحتمل أن يكون قوله { فأنزل الله سكينته } إلى آخر الآية يراد به ما صنعه الله لنبيه إلى وقت تبوك من الظهور والفتوح لا أن تكون هذه الآية تختص بقصة الغار والنجاة إلى المدينة ، فعلى هذا تكون «الجنود » الملائكة النازلين ببدر وحنين ، ومن رأى أن الآية مختصة بتلك القصة قال «الجنود » ملائكة بشروه بالنجاة وبأن الكفار لا ينجح لهم سعي ، وفي مصحف حفصة «فأنزل الله سكينته عليهما وأيدهما » ، وقرأ مجاهد «وأأيده » بألفين ، والجمهور «وأيّده » بشد الياء ، وقوله : { وجعل كلمة الذين كفروا السفلى } يريد بإدحارها ودحضها وإذلالها ، { وكلمة الله هي العليا } قيل : يريد لا إله الا الله ، وقيل :الشرع بأسره ، وقرأ جمهور الناس «وكلمةُ » بالرفع على الابتداء ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن ويعقوب «وكلمةَ » بالنصب على تقدير وجعل كلمة ، قال الأعمش : ورأيت في مصحف أنس بن مالك المنسوب إلى أبيّ بن كعب «وجعل كلمته هي العليا » .
... قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول في قوله: {ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه} هو أبو بكر، وكان يرفع من أبي بكر بذلك جدا.
- ابن العربي: روي عن مالك أنه قال: خير الناس بعد نبيهم أبو بكر.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذا إعلام من الله أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم أنه المتوكل بنصر رسوله على أعداء دينه وإظهاره عليهم دونهم، أعانوه أو لم يعينوه، وتذكير منه لهم فعل ذلك به، وهو من العدد في قلة والعدوّ في كثرة، فكيف به وهو من العدد في كثرة والعدوّ في قلّة؟ يقول لهم جلّ ثناؤه: إلا تنفروا أيها المؤمنون مع رسولي إذا استنفركم فتنصروه، فالله ناصره ومعينه على عدوّه ومغنيه عنكم وعن معونتكم ونصرتكم كما نصره إذ أخرجه الذين كفروا بالله من قريش من وطنه وداره ثانِيَ اثْنَيْنِ يقول: أخرجوه وهو أحد الاثنين: أي واحد من الاثنين، وكذلك تقول العرب: «هُوَ ثانِيَ اثْنَيْنِ» يعني أحد الاثنين، وثالث ثلاثة، ورابع أربعة، يعني: أحد ثلاثة، وأحد الأربعة... وإنما عنى جلّ ثناؤه بقوله:"ثانِيَ اثْنَيْنِ" رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، رضي الله عنه، لأنهما كانا اللذين خرجا هاربين من قريش، إذ همّوا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم واختفيا في الغار.
وقوله: "إذْ هُما فِي الغارِ "يقول إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رحمة الله عليه في الغار والغار: النقب العظيم يكون في الجبل. "إذ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ" يقول: إذ يقول رسول الله لصاحبه أبي بكر: "لا تَحْزَنْ" وذلك أنه خاف من الطلب أن يعلموا بمكانهما، فجزع من ذلك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لاَ تَحْزَنْ لأنّ اللّهَ مَعَنا، واللّهُ ناصِرُنا، فَلَنِ يَعْلَمَ المُشْرِكُونَ بِنا، وَلَنْ يَصِلُوا إلَيْنَا يقول جلّ ثناؤه: فقد نصره الله على عدوّه وهو بهذه الحال من الخوف وقلة العدد، فكيف يخذله ويحوجه إليكم وقد كثر الله أنصاره وعدد جنوده؟.
"فأَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وأيّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَة الّذِينَ كَفَروُا السّفْلَى وكلمةٌ اللّهِ هِيَ العُلْيا واللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"؛ يقول تعالى ذكره: فأنزل الله طمأنينته وسكونه على رسوله وقد قيل: على أبي بكر.
"وأيّدهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا" يقول: وقوّاه بجنود من عنده من الملائكة لم تروها أنتم. "وَجَعَلَ كِلِمَةَ الّذِينَ كَفَرُوا" وهي كلمة الشرك السّفْلَى لأنها قُهرت وأذّلت وأبطلها الله تعالى ومحق أهلها، وكلّ مقهور ومغلوب فهو أسفل من الغالب والغالب هو الأعلى. "وكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ العْلْيَا" يقول: ودين الله وتوحيده وقول لا إله إلا الله، وهي كلمته العليا على الشرك وأهله، الغاليةُ...
قوله: "وَجَعَلَ كَلِمَةَ الّذِينَ كَفَرُوا السّفْلَى" وهي: الشرك بالله. "وكَلِمَةُ اللّهُ هِيَ العُلْيا" وهي لا إله إلا الله.
وأما قوله: "واللّهُ عَزِيرٌ حَكِيمٌ" فإنه يعني: والله عزيز في انتقامه من أهل الكفر به، لا يقهره قاهر ولا يغلبه غالب ولا ينصره من عاقبه ناصر، حكيم في تدبيره خلقه وتصريفه إياهم في مشيئته.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
قوله تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} يعني إلا تنصروا أيها الناس النبي صلى الله عليه وسلم بالنفير معه وذلك حين استنفرهم إلى تبوك فتقاعدوا فقد نصره الله. {إِذْ أَخَرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} يعني من مكة ولم يكن معه من يحامي عنه ويمنع منه إلا الله تعالى، ليعلمهم بذلك أن نصره نبيه ليس بهم فيضره انقطاعهم وقعودهم، وإنما هو من قبل الله تعالى فلم يضره قعودهم عنه.
وفي قوله: {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} وجهان: أحدهما: بإرشاده إلى الهجرة حتى أغناه عن معونتهم. والثاني: بما تكفل به من إمداده بملائكته...
{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبهِ لاَ تَحْزَنْ} يريد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لصاحبة أبي بكر "لا تَحْزَنْ "فاحتمل قوله ذلك له وجهين:
أحدهما: أن يكون تبشيراً لأبي بكر بالنصر من غير أن يظهر منه حزن.
والثاني: أن يكون قد ظهر منه حزن فقال له ذلك تخفيفاً وتسلية.
وليس الحزن خوفاً وإنما هو تألم القلب بما تخيله من ضعف الدين بعد الرسول فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا" أي ناصرنا على أعدائنا. {... فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ}... في السكينة أربعة أقاويل: أحدها: أنها الرحمة، قاله ابن عباس. والثاني: أنها الطمأنينة، قاله الضحاك. والثالث: الوقار، قاله قتادة. والرابع: أنها شيء يسكن الله به قلوبهم، قاله الحسن وعطاء.
{وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} فيه وجهان: أحدهما: بالملائكة. والثاني: بالثقة بوعده واليقين بنصره.
وفي تأييده وجهان: أحدهما: إخفاء أثره في الغار حين طلب. والثاني: المنع من التعرض له حين هاجر.
{وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ الْسُّفْلَى} يحتمل وجهين: أحدهما: بانقطاع الحجة. والثاني: جعل كلمة الذين كفروا السفلى بذُلّ الخوف.
وكلمة الله هي العليا بعز الظفر. {وَكَلِمَةُ اللهِ هيَ العُلْيَا} بظهور الحجة...
آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :
ومن فضائل أبي بكر المشهورة، قوله عز وجل: (إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}. فهذه فضيلة منقولة بنقل الكافة لا خلاف بين أحد في أنه أبو بكر، فأوجب الله تعالى له فضيلة المشاركة في إخراجه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنه خصه باسم الصحبة له، وبأنه ثانيه في الغار، وأعظم من ذلك كله، أن الله معهما، وهذا ما لا يلحقه فيه أحد...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: كيف يكون قوله: {فَقَدْ نَصَرَهُ الله} جواباً للشرط؟ قلت: فيه وجهان أحدهما: إلاّ تنصروه فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلاّ رجل واحد ولا أقل من الواحد، فدلّ بقوله: {فَقَدْ نَصَرَهُ الله} على أنه ينصره في المستقبل، كما نصره في ذلك الوقت. والثاني: أنه أوجب له النصرة وجعله منصوراً في ذلك الوقت، فلن يخذل من بعده. وأسند الإخراج إلى الكفار كما أسند إليهم في قوله: {مّن قَرْيَتِكَ التى أَخْرَجَتْكَ} [محمد: 13] لأنهم حين هموا بإخراجه أذن الله له في الخروج فكأنهم أخرجوه {ثَانِيَ اثنين} أحد اثنين، كقوله: {ثالث ثلاثة} وهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق رضي الله عنه...
{سَكِينَتَهُ} ما ألقى في قلبه من الأمنة، التي سكن عندها وعلم أنهم لا يصلون إليه، والجنود الملائكة يوم بدر والأحزاب وحنين. و"كلمة الذين كفروا": دعوتهم إلى الكفر. {وَكَلِمَةُ الله} دعوته إلى الإسلام... و {هِي} فصل أو مبتدأ، وفيها تأكيد فضل كلمة الله في العلوّ، وأنها المختصة به دون سائر الكلم...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: النَّصْرُ: هُوَ الْمَعُونَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ}:
وَلِلْعَرَبِ فِي ذَلِكَ لُغَتَانِ: تَقُولُ ثَانِيَ اثْنَيْنِ، وَثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَرَابِعُ أَرْبَعَةٍ، بِمَعْنَى أَحَدُهُمَا، مُشْتَقَّةٌ من الْمُضَافِ إلَيْهِ. وَتَقُولُ أَيْضًا: خَامِسُ أَرْبَعَةٍ، أَيْ الَّذِي صَيَّرَهُمْ خَمْسَةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {إلَّا تَنْصُرُوهُ}: يَعْنِي يُعِينُوهُ بِالنَّفِيرِ مَعَهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ بِصَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَيَّدَهُ بِجُنُودِ الْمَلَائِكَةِ.
رَوَى أَصْبَغُ، وَأَبُو زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الْغَارِ إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا)، هُوَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ. قَالَ: فَرَأَيْت مَالِكًا يَرْفَعُ بِأَبِي بَكْرٍ جِدًّا لِهَذِهِ الْآيَةِ.
قَالَ: وَكَانُوا فِي الْهِجْرَةِ أَرْبَعَةً، مِنْهُمْ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَرُقَيْطُ الدَّلِيلُ.
قَالَ غَيْرُ مَالِكٍ: يُقَالُ أُرَيْقِطُ قَالَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَحَقٌّ أَنْ يَرْفَعَ مَالِكٌ أَبَا بَكْرٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَفِيهَا عِدَّةُ فَضَائِلَ مُخْتَصَّةٍ لَمْ تَكُنْ لِغَيْرِهِ، مِنْهَا قَوْلُهُ: إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ، فَحَقَّقَ لَهُ تَعَالَى [قَوْلَهُ لَهُ] بِكَلَامِهِ، وَوَصَفَ الصُّحْبَةَ فِي كِتَابِهِ مَتْلُوًّا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {إنَّ اللَّهَ مَعَنَا}. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ فِي الْغَارِ: (يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّك بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهَا؟) وَهَذِهِ مَرْتَبَةٌ عُظْمَى، وَفَضِيلَةٌ شَمَّاءُ، لَمْ يَكُنْ لِبَشَرٍ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ ثَالِثُ اثْنَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَبُو بَكْرٍ، كَمَا أَنَّهُ قَالَ مُخْبِرًا عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبِي بَكْرٍ ثَانِيَ اثْنَيْنِ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا}. وَقَالَ مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى وَبَنِي إسْرَائِيلَ: (كَلًّا إنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ).
قَالَ لَنَا أَبُو الْفَضَائِلِ الْمُعَدِّلُ: قَالَ لَنَا جَمَالُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْقَاسِمِ قَالَ مُوسَى: (كَلًّا إنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ)، وَقَالَ فِي مُحَمَّدٍ وَصَاحِبِهِ: (لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا). لَا جَرَمَ لَمَّا كَانَ اللَّهُ مَعَ مُوسَى وَحْدَهُ ارْتَدَّ أَصْحَابُهُ بَعْدَهُ، فَرَجَعَ من عِنْدِ رَبِّهِ، وَوَجَدَهُمْ يَعْبُدُونَ الْعِجْلَ.
وَلَمَّا قَالَ فِي مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ اللَّهَ مَعَنَا، بَقِيَ أَبُو بَكْرٍ مُهْتَدِيًا مُوَحِّدًا، عَالِمًا عَازِمًا، قَائِمًا بِالْأَمْرِ لَمْ يَتَطَرَّقْ إلَيْهِ اخْتِلَالٌ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ}:
أَحَدُهُمَا: عَلَى النَّبِيِّ. الثَّانِي: عَلَى أَبِي بَكْرٍ.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَهُوَ الْأَقْوَى؛ لِأَنَّ الصِّدِّيقَ خَافَ عَلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -من الْقَوْمِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ؛ لِيَأْمَنَ عَلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فَسَكَنَ جَأْشُهُ، وَذَهَبَ رَوْعُهُ، وَحَصَلَ لَهُ الْأَمْنُ، وَأَنْبَتَ اللَّهُ شَجَرَ ثُمَامِهِ، وَأَلْهَمَ الْوَكْرَ هُنَالِكَ حَمَامَهُ، وَأَرْسَلَ الْعَنْكَبُوتَ فَنَسَجَتْ عَلَيْهِ بَيْتًا، فَمَا أَضْعَفَ هَذِهِ الْجُنُودِ فِي ظَاهِرِ الْحِسِّ؛ وَمَا أَقْوَاهَا فِي بَاطِنِ الْمَعْنَى. وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِعُمَرَ حِينَ تَغَامَرَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ: (هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي، إنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ قَالُوا كَذَبْت، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقْت).
وَمِنْهَا: أَنَّهُ جَعَلَ أَبَا بَكْرٍ فِي مُقَابَلَةِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعَ، فَقَالَ: (إلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ بِصَاحِبِهِ فِي الْغَارِ، بِتَأْنِيسِهِ لَهُ، وَحَمْلِهِ عَلَى عُنُقِهِ)؛ [وَوَفَائِهِ لَهُ] بِوِقَايَتِهِ لَهُ [بِنَفْسِهِ]، وَبِمُوَاسَاتِهِ بِمَالِهِ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ (أَنَّ مِيزَانًا نَزَلَ من السَّمَاءِ، فَوُزِنَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -بِالْخَلْقِ فَرَجَحَهُمْ ثُمُّ وُزِنَ أَبُو بَكْر بِالخَلْقِ فَرَجَحَهُم)؛ وَبِهَذِهِ الْفَضَائِلِ اسْتَحَقَّ أَنْ يُقَالَ فِيهِ: لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاِتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا. وَسَبَقَتْ لَهُ بِذَلِكَ كُلِّهِ الْفَضِيلَةُ عَلَى النَّاسِ.
رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نُخَيِّرُ بَيْنَ النَّاسِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَنُخَيِّرُ أَبَا بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرَ ثُمَّ عُثْمَانَ.
وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ أَبُو بَكْرٍ. وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ النُّورِ بَيَانُ ذَلِكَ مُسْتَوْفًى إنْ شَاءَ اللَّهُ...
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْفِرَارِ من خَوْفِ الْعَدُوِّ، وَتَرْكِ الصَّبْرِ عَلَى مَا يَنْزِلُ من بَلَاءِ اللَّهِ، وَعَدَمِ الِاسْتِسْلَامِ الْمُؤَدِّي إلَى الْآلَامِ وَالْهُمُومِ، وَأَلَّا يُلْقِيَ بِيَدِهِ إلَى الْعَدُوِّ، تَوَكُّلًا عَلَى اللَّهِ، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكُمْ لَعَصَمَهُ مَعَ كَوْنِهِ مَعَهُمْ، وَلَكِنَّهَا سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ وَسِيرَةُ الْأُمَمِ، حَكَمَ اللَّهُ بِهَا لِتَكُونَ قُدْرَةً لِلْخَلْقِ، وَأُنْمُوذَجًا فِي الرِّفْقِ، وَعَمَلًا بِالْأَسْبَابِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَتْ الْإِمَامِيَّةُ قَبَّحَهَا اللَّهُ: حُزْنُ أَبِي بَكْرٍ فِي الْغَارِ مَعَ كَوْنِهِ مَعَ النَّبِيِّ دَلِيلٌ عَلَى جَهْلِهِ وَنَقْصِهِ وَضَعْفِ قَلْبِهِ وَحَيْرَتِهِ.
أَجَابَ عَلَى ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا بِثَلَاثَةِ أَجْوِبَةٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: لَا تَحْزَنْ، لَيْسَ بِمُوجِبٍ بِظَاهِرِهِ وُجُودَ الْحُزْنِ، إنَّمَا يَقْتَضِي مَنْعَهُ مِنْهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَلَعَلَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قَالَ لَهُ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي طُمَأْنِينَةِ قَلْبِهِ؛ فَإِنَّ الصِّدِّيقَ قَالَ لِلنَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا. فَقَالَ لَهُ: {لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا}؛ لِتَطْمَئِنَّ نَفْسُهُ.
الثَّانِي: أَنَّ الصِّدِّيقَ لَا يَنْقُصُهُ إضَافَةُ الْحُزْنِ إلَيْهِ، كَمَا لَمْ تَنْقُصْ إبْرَاهِيمَ حِينَ قِيلَ عَنْهُ: {نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً}. وَلَمْ يَنْقُصْ مُوسَى قَوْلُهُ عَنْهُ: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى}.
وَهَذَانِ الْعَظِيمَانِ قَدْ وُجِدَتْ عِنْدَهُمْ التَّقِيَّةُ نَصًّا، وَإِنَّمَا هِيَ عِنْدَ الصِّدِّيقِ هَاهُنَا بِاحْتِمَالٍ.
الثَّالِثُ: أَنَّ حُزْنَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لِشَكٍّ وَحَيْرَةٍ، وَإِنَّمَا كَانَ خَوْفًا عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ ضَرَرٌ، وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَعْصُومًا من الضَّرَرِ، فَكَيْفَ يَكُونُ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ضَعِيفَ الْقَلْبِ، وَهُوَ لَمْ يَسْتَخْفِ حِينَ مَاتَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ بَلْ ظَهَرَ وَقَامَ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ بِقُوَّةِ يَقِينٍ، وَوُفُورِ عِلْمٍ، وَثُبُوتِ جَأْشٍ، وَفَصْلٍ لِلْخُطْبَةِ الَّتِي تُعْيِي الْمُحْتَالِينَ.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما وصف سبحانه نفسه الأقدس بما هو له أهل من شمول القدرة وعظيم البأس والقوة، أتبع ذلك بدليل يتضمن أن المستنفر لهم -وهو نبيه صلى الله عليه وسلم- غير محتاج إليهم ومتوقف نصره عليهم كما لم يحتج إليهم -بحياطة القادر له- فيما مضى من الهجرة التي ذكرها، وأن نفع ذلك إنما هو لهم باستجلاب ما وعدوه واستدفاع ما أوعدوه في الدارين المشار إلى ذلك كله بقوله {فما متاع الحياة الدنيا} الآية وقوله {إلا تنفروا} -الآية، فقال: {إلا تنصروه} أي أنتم طاعة لأمر الله، والضمير للنبي صلى الله عليه وسلم إما على طريق الاستخدام من سبيل الله لأنه الموضح له الداعي إليه، أو لتقدم اسمه الشريف إضماراً في قوله {إذا قيل لكم} أي من رسول الله صلى عليه وسلم استنصاراً منه لكم، وإظهاراً في قوله تعالى (هو الذي أرسل رسوله} [التوبة: 34] الآية وقوة ما في كل جملة من المناسبة المقتضية لأن تعانق التي بعدها ولا تنفك عنها قصر الفصل بين الظاهر وضميره، وذكر الغار والصاحب أوضح الأمر. وذلك أنه سبحانه لما عابهم باتخاذ الرؤساء أرباباً اشتدت الحاجة إلى بيان أنهم في البعد عن ذلك على غاية لا تخفى على متأمل، فوصفهم بالأكل المستلزم للجسمية المستلزمة للحاجة...، و بأن مأكولهم أموال غيرهم باطلاً، وبأنهم يغشونهم لصدهم إياهم عن السبيل التي لا يخفى حسنها على من له أدنى نظر؛ ولما كان ذلك شديد الإثارة لتشوف النفوس إلى السؤال عن العرب: هل فعلوا فعلهم واتبعوا سنتهم؟ أجاب بأن عملهم في تحليل النسأة لهم بعض الأشهر الحرم وتحريم بعض أشهر الحل والزيادة في عدة أشهر السنة كعملهم سواء...
ولما أمر بقتال المشركين كافة وحثهم على التقوى، وكان بعضهم قد توانى في ذلك، اشتد اقتضاء الحال لمعاتبة على التثاقل عن النفر، فلما تم ذلك في هذا الأسلوب البديع والطراز الرفيع حث على نصر الرسول الذي أرسله ليظهره على الدين كله فقال جواباً للشرط: {فقد} أي إن لم يتجدد منكم له نصر فإن الله قادر على نصره وسينصره ويغنيه عنكم ولا تضرون إلا أنفسكم فقد {نصره الله} أي الملك الأعظم وحده والأمر في غاية الشدة، ولا شك عند عاقل أن المستقبل عنده كالماضي {إذ} أي حين {أخرجه الذين} وعبر بالماضي لأن فيهم من أسلم بعد ذلك فقال: {كفروا} أي من مكة وهم في غاية التمالؤ عليه حين شاوروا في قتله أو إخراجه أو إثباته، فكان ذلك سبباً لإذن الله له في الخروج من بينهم حال كونه {ثاني اثنين} أي أحدهما أبو بكر رضي الله عنه ولا ثالث لهما ينصرهما إلا الله... {إذ هما في الغار} أي غار ثور الذي في أعلى الجبل المواجه للركن اليماني بأسفل مكة على مسيرة ساعة منها لمّا كمنا به ثلاث ليال ليفتر عنهما الطلب، وذلك قبل أن يصلا إليكم أو يعولا في النصر عليكم {إذ يقول} أي رسول الله صلى الله عليه وسلم {لصاحبه} أي أبي بكر الصديق رضي الله عنه وثوقاً بربه غير منزعج من شيء {لا تحزن} والحزن: هم غليظ بتوجع يرق له القلب، حزنه وأحزنه بمعنى؛ ... ثم علل نهيه لصاحبه بقوله معبراً بالاسم الأعظم مستحضراً لجميع ما جمعه من الأسماء الحسنى والصفات العلى التي تخضع دونها صلاب الرقاب وتندك بعظمتها شوامخ الجبال الصلاب {إن الله} أي الذي له الأمر كله {معنا} أي بالعون والنصرة، وهو كاف لكل مهم، قوي على دفع كل ملم، فالذي تولى نصره بالحراسة في ذلك الزمان كان قادراً على أن يأمر الجنود التي أيده بها أن تهلك الكفار في كل موطن من غير أن يكون لكم في ذلك أمر أو يحصل لكم به أجر،...، وكما أنه كان موجوداً في ذلك الزمان بأسمائه الحسنى وصفاته العلى هو على ذلك في هذا الزمان وكل زمان، فتبين كالشمس أن النفع في ذلك إنما هو خاص بكم، وأنه سبحانه ما رتب هذا كله على هذا المنوال إلا لفوزكم، وفي هذه الآية من التنويه بمقدار الصديق وتقدمه وسابقته في الإسلام وعلو منصبه وفخامة أمره ما لا يعلمه إلا الذي أعطاه إياه؛ ... ولما كان رضي الله عنه نافذ البصيرة في المعارف الإلهية، راسخ القدم في ذلك المقام لذلك لم يتلعثم من أول الأمر في عناد جميع العباد بخلع الأنداد، ثم تدرب فيه مترقياً ثلاث عشرة سنة، وكان الذي به من القلق إنما هو الخوف من أن يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم أذى فيدركه من الحزن لذلك ما يهلكه قبل سروره بظهور الدين وقمع المعتدين، ولم يكن جبناً ولا سوء ظن، لما كان ذلك كذلك كان رضي الله عنه حقيقاً لحصول السكينة له عند سماع اسم الشريف الأعظم الدال على ذلك المقام المذكور بتلك العظمة التي يتلاشى عندها كل عظيم، ويتصاغر في جنبها كل كبير، ولذلك ذكر هذا الاسم الأعظم وقدم، وأشرك الصديق في المعية وبدأ بالنهي عن الحزن لأنه المقصود بالذات وما بعده علة له...
وأما بنو إسرائيل فلم يكن عندهم من المعرفة إلا ما شاهدوا من إحسانه تعالى إلى موسى عليه السلام بإظهار تلك الآيات على يده حتى استنقذهم بها مما كانوا فيه، ومنع موسى عليه السلام مع وحدته من سطوات فرعون على عظمته وما كان يواجهه به من المكروه، فلما رأوا جموعه مقبلة كان حالهم مقتضياً للسؤال عن ذلك المحسن بإظهار تلك الآيات: هل هو مع موسى عليه السلام على ما كان عليه فيمنعهم أم لا؟ فلذلك قدم إنكار الإدراك ثم إثبات المعية على سيبل الخصوص به، وعبر عن الإله باسم الرب الدال على ذلك الإحسان المذكور به فقال {كلا إن معي ربي} [الشعراء: 62] فكأن قيل: ماذا يفعل والبحر أمامنا والعدو وراءنا؟ فقال "سيهدين "أي إلى ما أفعل، يعرف ذلك من كان متضلعاً بالسير وقصص بني إسرائيل على ما ذكرتها في الأعراف عن التوراة،... مستحضراً لأن الصديق رضي الله عنه كان في صعودهما إلى الغار يذكر الرصد فيتقدم النبي صلى الله عليه وسلم ليفتديه بنفسه ثم يذكر الطلب فيتأخر ثم يذكر ما عن اليمين والشمال فينتقل إليهما، ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قتلت أنا فأنا رجل واحد، وإن قتلت أنت هلكت الأمة، وأنه كان عارفاً بأن الله تعالى تكفل بإظهار الدين على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم المتضمن لحراسة نفسه الشريفة قبل ذلك، ولذلك كان به في هذا اليوم من القلق ما ذكر، وكان عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أثبت الناس، ولذلك أتى بالفاء المعقبة في قوله: {فأنزل الله} أي الملك الأعظم {سكينته} أي السكون... المبالغ فيه المؤثر للنسك {عليه} أي الصديق- كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما -لأن السكينة لم تفارق النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عطف على نصره الله قوله: {وأيده} أي النبي صلى الله عليه وسلم واختلاف الضمائر هنا لا يضر لأنه غير مشتبه {بجنود لم تروها} أي من الملائكة الكرام {وجعل كلمة} أي دعوة {الذين كفروا} أي أوقعوا الكفر من آمن منهم بعد ذلك وغيره {السفلى} فخيّب سعيهم ورد كيدهم، ثم ابتدأ الإخبار بما له سبحانه على الدوام من غير انقطاع أصلاً في وقت من الأوقات فقال: {وكلمة الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء، ونصبها يعقوب عطفاً على ما سبق {هي العليا} أي وحدها، لا يكون إلا ما يشاءه دائماً أبداً، فالله قادر على ذلك {والله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {عزيز} أي مطلقاً يغلب كل شيء من ذلك وغيره {حكيم} لا يمكن أن ينقض شيء من مراده لما ينصب من الأسباب التي لا مطمع لأحد في مقاومتها فلا محيص عن نفوذها...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال عزَّ وجلَّ {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا} أي إلا تنصروا الرسول الذي استنفركم في سبيل الله على من أرادوا قتاله من أولياء الشيطان، فسينصره الله بقدرته وتأييده، كما نصره إذ أجمع المشركون على الفتك به، وأخرجوه من داره وبلده، أي اضطروه إلى الخروج والهجرة ولولا ذلك لم يخرج. وقد تكرر في التنزيل ذكر إخراج المشركين للرسول وللمؤمنين المهاجرين من ديارهم بغير حق، وليس المراد منه أنهم تولوا طردهم وإخراجهم مجتمعين ولا متفرقين؛ فإن أكثرهم خرج مستخفياً كما خرج النبي صلى الله عليه وسلم مع صاحبه رضي الله عنه، أو تقدير الكلام: إلا تنصروه فقد أوجب الله له النصر في كل حال وكل وقت حتى نصره في ذلك الوقت الذي لم يكن معه جيش ولا أنصار منكم بل حال كونه: {ثاني اثنين} أي أحدهما، فإن مثل هذا التعبير لا يعتبر فيه الأولية ولا الأولوية؛ لأن كل واحد منهما ثان للآخر، ومثله ثالث ثلاثة، ورابع أربعة، لا معنى له إلا أنه واحد من ثلاثة أو أربعة به تم هذا العدد. على أن الترتيب فيه إنما يكون بالزمان أو المكان، وهو لا يدل على تفضيل الأول على الثاني ولا الثالث أو الرابع على من قبله.. {إذ هما في الغار} أي في ذلك الوقت الذي كان فيه الاثنان في الغار المعروف عندكم، وهو غار جبل ثور. {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} أي إذ كان يقول لصاحبه الذي هو ثانيه -وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه- حين رأى منه أمارة الحزن والجزع، أو كلما سمع منه كلمة تدل على الخوف والفزع:"لا تحزن". الحزن انفعال نفسي اضطراري يراد بالنهي عنه مجاهدته وعدم توطين النفس عليه،...
والنهي عن الحزن -وهو تألم النفس مما وقع- يستلزم النهي عن الخوف مما يتوقع، وقد عبر عن الماضي بصيغة الاستقبال «يقول» للدلالة على التكرار المستفاد من بعض الروايات، ولاستحضار صورة ما كان في ذلك الزمان والمكان ليتمثل المخاطبون ما كان لها من عظمة الشأن، وعلل هذا النهي بقوله: {إن الله معنا} أي لا تحزن لأن الله معنا بالنصر والمعونة، والحفظ والعصمة، والتأييد والرحمة، ومن كان الله تعالى معه بعزته التي لا تغلب، وقدرته التي لا تقهر، ورحمته التي قام ويقوم بها كل شيء فهو حقيق بأن لا يستسلم لحزن ولا خوف، وهذا النوع من المعية الربانية أعلى من معيته سبحانه للمتقين والمحسنين في قوله: {واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [النحل:127، 128]، والفرق بينهما أن المعية في آية سورة النحل لجماعة المتقين المجتنبين لما يجب تركه، والمحسنين لما يجب فعله، فهي معللة بوصف مشتق هو مقتضى سنة الله في عالم الأسباب لكل من كان كذلك، وإن كان الخطاب في النهي عن الحزن قبلها للرسول صلى الله عليه وسلم، وأما المعية هنا فهي لذات الرسول وذات صاحبه، غير مقيدة بوصف هو عمل لها؛ بل هي خاصة برسوله وصاحبه من حيث هو صاحبه، مكفولة بالتأييد بالآيات، وخوارق العادات، وكبر العنايات، إذ ليس المقام بمقام سنن الله في الأسباب والمسببات، التي يوفق لها المتقين والمحسنين المتقنين للأعمال...
يعلم هذا التفاوت بين النوعين من الحق الواقع إن لم يعلم من اللفظ وحده، وهي من قبيل قوله تعالى لموسى وهارون إذ أرسلهما إلى فرعون فأظهرا الخوف من بطشه بهما {قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى} [طه:45، 46]، وقد كان خاتم النبيين أكمل منهما إذ لم يخف من قومه الخارجين في طلبه للفتك به كما سنذكره، وكان للصديق الأكبر أسوة حسنة بهما إذ خاف على خليله وصفيه الذي شرفه الله في ذلك اليوم الفذ بصحبته، وإنما نهاه صلى الله عليه وسلم عن الحزن لا عن الخوف، ونهى الله موسى وهارون عن الخوف لا عن الحزن، لأن الحزن تألم النفس من أمر واقع، وقد كان نهيه صلى الله عليه وسلم إياه عنه في الوقت الذي أدرك المشركون فيه الغار بالفعل...
وأما الخوف فهو انفعال النفس من أمر متوقع، وقد نهى الله رسوليه عنه قبل وقوع سببه وهو لقاء فرعون ودعوته إلى ما أمرهما به. والنهي عن الحزن يستلزم النهي عن الخوف كما تقدم، وقد كان الصديق خائفا وحزنا كما تدل عليه الروايات، وهو مقتضى طبع الإنسان. وحاصل المعنى إلا تنصروه بالنفر لما استنفركم له فإن الله تعالى قد ضمن له النصر، فهو ينصره كما نصره في ذلك الوقت الذي اضطره المشركون فيه بتألبهم عليه واجتماع كلمتهم على الفتك به في ذلك الوقت الذي كان فيه ثاني اثنين في الغار، أعزلين غير مستعدين للدفاع، وكان صاحبه فيه قد ساوره الحزن والجزع في ذلك الوقت الذي كان يقول له فيه -وهو آمن مطمئن بوعد الله وتأييده ومعيته الخاصة-: {لا تحزن إن الله معنا}، فنحن غير مكلفين بشيء من الأسباب أكثر مما فعلنا من استخفائنا هنا...
فتكرار الظرف «إذ» في المواضع الثلاثة مبدلاً بعضها من بعض في غاية البلاغة، به يتجلى تأييده تعالى لرسوله أكمل التجلي، فهو يذكرهم بوقت خروجه صلى الله عليه وسلم مهاجرا مع صاحبه بما كان من قريش من شدة الضغط والاضطهاد، وقد تقدم تفصيله في تفسير {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك} [الأنفال:30] من سورة الأنفال، وسيعاد مختصرا في هذا السياق. ويتلوه تذكيرهم بإيوائه مع صاحبه إلى الغار لا يملكان من أسباب الدفاع عن أنفسهما شيئا. ثم يخص بالذكر وقت قوله لصاحبه {لا تحزن إن الله معنا}، أي أنه كان هو الذي يسلي صاحبه ويثبته لا أنه كان يتثبت به، [وهكذا كان شأنه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في كل وقت يشتد فيه القتال أيضا]، وكون سبب ذلك وعلته إيمانه الأكمل بمعية الله عزَّ وجلَّ الخاصة. فالعبرة لهم في هذه الذكريات الثلاث أن الله تعالى غني عن نفرهم مع رسوله بقدرته وعزته، وأن رسوله صلى الله عليه وسلم غني عن نصرهم له بنصره عزَّ وجلَّ وتأييده، وبقدرته على تسخير غيرهم له من جنوده وعباده، وقد بين تعالى أثر ذلك وعاقبته بقوله:... أما إنزال السكينة فذكر في ثلاث آيات فقط: أولاها: الآية الرابعة من سورة الفتح، والثانية: الآية السادسة والعشرون منها، وكان نزول السورة بعد صلح الحديبية الذي فتن فيه المؤمنون واضطربت قلوبهم بما ساءهم من شروطه التي عدوها إهانة لهم وفوزاً للمشركين، وأمرها مشهور، فكان من عناية الله تعالى بهم أن ثبت قلوبهم ومكنهم من فتح خيبر، وأنزل سورة الفتح مبيناً فيها حكم ذلك الصلح وفوائده، وامتن بذلك على رسوله وعليهم بقوله: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} إلى قوله {هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليماً حكيماً} [الفتح: 1- 4]، فهذه سكينة خاصة بالمؤمنين، بين حكمتها العليم الحكيم، وفيها إشارة إلى جنود الملائكة لا تصريح...
ثم قال بعد ما تقدمت الإشارة إليه من حكم ذلك الصلح، وما أعقبه من الفتح: {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليماً} [الفتح: 26]، الأشهر في تفسير هذه الحمية أنها ما أباه المشركون في كتاب الصلح من بدئه بكلمة بسم الله الرحمن الرحيم، ومن وصف محمد صلى الله عليه وسلم فيه برسول الله وتعصبهم لما كان من عادة الجاهلية وهو: باسمك اللهم، وهذا مما ساء رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك، كما ساءه كراهة جمهور المسلمين الأعظم لهذا الصلح، ولكنه لم يكن ليضيع بذلك صلحا عظيما كان أول فتح لباب حرية دعوة الإسلام في المشركين، بوضع الحرب عشر سنين، فأنزل الله سكينته عليه وألهمه قبول شروطهم، وأنزلها على المؤمنين بعد أن هموا بمعارضته صلى الله عليه وسلم، وأمرهم بالتحلل من عمرتهم فتلبثوا حتى خشي عليهم الهلاك، واستشار في ذلك زوجه أم سلمة فأشارت عليه بأن يخرج إليهم ويأمر حلاقه بحلق شعره، ففعل فاقتدوا به، بما أنزل الله عليهم من سكينته... والآية [الثالثة] هي ما تقدم في هذه السورة في سياق غزوة حنين إذ راع المسلمين رشق المشركين إياهم بالنبل، فانهزم المنافقون والمؤلفة قلوبهم، واضطرب جمهور المسلمين بهزيمتهم فولوا مدبرين، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوه الكفار مع عدد قليل صار يكثر بعلمهم بموقفه، وقد حزن قلبه لتوليهم {ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها} [التوبة: 26]، وما العهد بتفسيرها ببعيد، فهذه سكينته مشتركة بين الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين سكن بها ما عرض له صلى الله عليه وسلم من تأثير هزيمتهم، وسكن ما عرض لهم من الاضطراب لهزيمة المنافقين والمؤلفة قلوبهم كما تقدم...
{وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا} في الآية احتمالان: أحدهما أن يكون المراد بكلمة الذين كفروا كلمة الشرك والكفر، وبكلمة الله كلمة التوحيد وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وعليه أهل التفسير المأثور، ووجهه أن عداوة المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم إنما كانت لأجل دعوته إلى التوحيد الخالص من جميع شوائب الشرك وخرافات الوثنية، ولذلك قام أبو سفيان عند ظهور المشركين في أحد فقال رافعا صوته ليسمع المسلمون: أعل هبل، أعل هبل. وهبل صنمهم الأكبر، فأمر صلى الله عليه وسلم أن يجاب (الله أعلى وأجل)،... والاحتمال الثاني أن يكون المراد بكلمة الذين كفروا ما أجمعوه بعد التشاور في دار الندوة من الفتك به صلى الله عليه وسلم والقضاء على دعوته وهو ما تقدم في سورة الأنفال من قوله تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا} [الأنفال: 30] الخ، ويكون المراد بكلمة الله ما قضت به إرادته ومضت به سنته من نصر رسله، وبينه في مثل قوله: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون} [الصافات: 171- 173] وقوله: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} [المجادلة: 21] فهذه كلمة الله الإرادية القدرية التي كان من مقتضاها وعده لرسوله الأعظم بالنصر. وفسر بعضهم كلمته هنا بما وعده من إحباط كيدهم ورد مكرهم في نحورهم وهو قوله في تتمة الآية {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} [الأنفال:30]، وما قلناه هو الأصل والقول الفصل، وهذا مبني عليه...
وقد قرأ الجمهور [وكلمة الله] بالرفع لإفادة أنها العليا المرفوعة بذاتها لا بجعل وتصيير، ولا كسب وتدبير، وقرأها يعقوب بالنصب. والمراد من القراءتين معا أنها هي العليا بالذات ثم بما يكون من تأييد الله لأهلها القائمين بحقوقها بجعلهم بها أعلى من غيرهم كما قال: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} [آل عمران: 139]، وبجعلها بهم ظاهرة بالعلم والعمل تعلو كل ما يخالفها عند غيرهم. فإن كان المراد بها ما تعلقت به إرادته تعالى ومضت به سنته من نصر رسله وإظهار دينه [وهي كلمة التكوين] فالأمر ظاهر لأن ما تتعلق مشيئته تعالى به كائن لا محالة لا يوجد ما يعارضه فيعلو عليه أو يساويه، وكذلك إن أريد بها الخبر الإلهي بهذا النصر والوعد به الذي هو بيان لهذه السنة التي هي من متعلقات صفة الإرادة، بناء على أنه مما أوحاه إليهم، ومنه قوله تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا} [غافر:51] الخ {قوله الحق..} {ولن يخلف الله وعده} [الحج:47]، والخبر والوعد من متعلقات صفة الكلام. فكلمة التكوين الإرادية وكلمة التكليف الخبرية متحدتان في هذا الموضوع. وأما على القول بأن المراد بها كلمة التوحيد أو دينه تعالى المبني على أساس توحيده فالنظر... فيها من وجهين: أحدهما: مضمون الكلمة في الواقع، وهو وحدانيته تعالى، وهذه حقيقة قطعية قامت عليها البراهين، وكذا إن أريد بها هذا الدين عقائده وأحكامه وآدابه؛ إذ يقال: إنه كلمة التكليف أو كلماته، فهذه من حيث كونها من متعلقات صفة الكلام الإلهية لها صفة العليا بياناً وبرهاناً وحكمة ورحمة وفضلاً، ولا بد من تمامها صدقاً في الإخبار وعدلاً في الأحكام، كما قال تعالى في سورة الأنعام: {وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم} [الأنعام: 116]...
والوجه الثاني: إقامة المكلفين لها بمعنييها، وهي تختلف باختلاف أحوالهم في العلم والإيمان والأخلاق، وما يترتب عليها من الأعمال، فمن هذا الوجه قد تخفى علويتها على الناس في بعض الأحيان. إذ ينظرون إليها في صفات المدعين لها وأعمالهم لا في ذاتها، وقد يكون هؤلاء غير قائمين بها ولا مقيمين لها. ومن عجائب ما روي لنا من إدراك بعض الإفرنج لعلوية كتاب الله تعالى بسعة علمه وعقله أن عاهل الألمان الأخير قال لشيخ الإسلام في الحكومة العثمانية لما زار الاستانة في أثناء الحرب الكبرى: يجب عليكم وأنتم دولة الخلافة الإسلامية أن تفسروا هذا القرآن تفسيرا تظهر به علويته!!! كما أدرك هذه العلوية الوليد بن المغيرة من كبراء مشركي قريش بذكائه ودقة فهمه وبلاغته إذ كان مما قاله فيه: وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته. وراجع ما قلناه في تفسير {ليظهره على الدين كله} [التوبة: 33] من هذه السورة وما هو ببعيد... وأما كلمة الذين كفروا فقد كانت لا مقابل ولا معارض لها قبل الإسلام من حيث القيام بها لتوصف بالوصف اللائق بها، وهو السفلية، سواء أريد بها كلمة الشرك أو كلمة الحكم، فقد كان لأهلها السيادة في بلاد العرب حتى مكة المكرمة، ودنسوا بيت الله بأوثانهم، فأذل الله أهلها وأزال سيادتهم بظهور الإسلام بعد كفاح معروف، وإن أريد بها تقريرهم لقتل النبي صلى الله عليه وسلم فالأمر ظاهر أيضا. وكل من الأمرين حصل بجعل الله وتدبيره ثم بكسب المؤمنين وجهادهم. وأما كلمة الكفر في نفسها، وبصرف النظر عن تلبس بعض الشعوب أو القبائل بها، فلا حقيقة لها. أعني أن الشرك لا حقيقة لمضمونه في الوجود وإنما هو دعاوى لفظية صادرة عن وساوس شيطانية خيالية، كما قال تعالى: {ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباءكم ما أنزل الله بها من سلطان} [الأعراف:71]...
الكلمة الثانية مناقب الصديق في قصة الهجرة قد دلت هذه الآية الكريمة وما يفسرها ويشرحها من الأحاديث الصحيحة وما في معناها من الأخبار والآثار مما دونها في الرواية على مناقب وفضائل لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه امتاز بهما على جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، نذكر منها ما يتبادر إلى الفهم بغير تكلف لبداهته، ومن غير مراعاة ترتيب. الأولى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمن على سره وعلى نفسه في هذه الحادثة التي كانت أهم حوادث رسالته، وأشدها خطراً، وخيرها عاقبة، غير صاحبه الأول أبي بكر الصديق، وإن شئت قلت: إنه لم يختر لصحبته وإيناسه فيها غيره. ويؤيد ما رواه ابن عدي وابن عساكر من طريق الزهري عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان: (هل قلت في أبي بكر شيئا؟ قال نعم، قال: (قل وأنا أسمع) فقال:... وثاني اثنين في الغار المنيف وقد طاف العدو به إذ صعَّد الجبلا وكان حب رسـول الله قد علمـوا من البرية لم يعـدل به رجـلا فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال: (صدقت يا حسان هو كما قلت). الثانية: أنه صلى الله عليه وسلم رضي أن تكون نفقة هذه الرحلة من مال أبي بكر الذي أنفق جميع ماله في خدمته صلى الله عليه وسلم، إلا أنه أحب أن تكون الراحلة التي ركبها بالثمن يدفعه بعد ذلك. وتقدم ما قاله بعض العلماء في تعليل ذلك.
وفي صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب غضب من أبي بكر رضي الله عنه في محاورة بينهما، فطلب منه أبو بكر أن يغفر له فأبى، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يغفر الله لك يا أبا بكر) ثلاثا ـ قال الراوي: وهو أبو الدرداء رضي الله عنه ـ ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فقال: أثمَّ أبو بكر؟ فقالوا: لا، فأتى إلى... النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه فجعل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمعر حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه فقال: يا رسول الله والله أنا كنت أظلم ـ مرتين ـ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي)؟ -مرتين- فما أوذي أبو بكر بعدها. وقد صرح أيضا بأن أمن الناس عليه في ماله ونفسه أبو بكر. رواه الشيخان وغيرهما. الثالثة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يختر في ذلك وأمثاله إلا ما اختاره الله تعالى له، فهذا تفضيل من الله عز وجل للصديق على غيره من أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم...
الرابعة: ذكره عز وجل في كتابه العزيز بهذا الثناء العظيم الذي لم يشاركه فيه أحد من المؤمنين في مقام إطلاق الإنكار عليهم، والتوبيخ لهم على تثاقلهم عن إجابة استنفار رسوله صلى الله عليه وسلم إياهم بأمره...
أخرج خيثمة بن سليمان الأطرابلسي في فضائل الصحابة وابن عساكر من طريق الزهري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إن الله ذم الناس كلهم ومدح أبا بكر رضي الله عنه فقال: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}... الخامسة: أمره صلى الله عليه وسلم عليا كرم الله وجهه أن يبلغ الناس في موسم الحج هذه الآية في جملة ما بلغه من أول سورة براءة، كما تقدم في أول تفسير السورة، وفي ذلك حكم بالغة تقطع كل وتين من قلوب الرافضة، وإن لم تقطع ألسنتهم الكاذبة الخاطئة. السادسة: قوله تعالى في رسوله صلى الله عليه وسلم وفيه [ثاني اثنين]، فهذا القول من رب العالمين -في خطاب جميع المؤمنين في هذا المقام والسياق...
فيه دلالة واضحة على فضل هذين الاثنين، وكون الصديق هو الثاني في المرتبة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما يقتضيه المقام للهجرة الشريفة من الفضائل والمزايا... السابعة: وهي تؤيد ما تضمنه معنى الاثنينية من رفعة المقام، قوله صلى الله عليه وسلم له: (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثها؟)، وإنها لمنقبة تتضاءل دونها المناقب، ومرتبة تنحدر عن عليا سمائها المراتب، أكبر أعلم رسل الله بالله أمرها، وهو أعلم بقدرها، فإن قوله صلى الله عليه وسلم (ما ظنك يا أبا بكر) بكذا يراد به أنه لا يمكن أن تحوم الظنون أو تنتهي الآراء والأفكار إلى شأن أعلى من شأنها، ومنعة أعز من منعتها الخ...
الثامنة: حكاية رب العزة والجلال لقول رسوله الذي ختم به النبيين، وأرسله رحمة للعالمين، لهذا الصاحب الصديق المكي {لا تحزن إن الله معنا}، فهي دليل على أنه قال له ذلك بإذنه تعالى ووحيه، لا من حسن ظنه صلى الله عليه وسلم بربه واجتهاد رأيه، على أنه لو كان اجتهادا أقره ربه عليه وحكاه عنه، وجعله مما يتعبد به المؤمنون ما دامت السموات والأرض، لكانت قيمته في غايته، بمعنى ما كان من الوحي منذ بدايته، وهذا يؤيد كون ما ذكرناه في تفسير المعية من كونها معية خاصة من نوع المعية التي أيد الله تعالى بها موسى وهارون عليهما السلام، إلا أنها أعلى في ذاتها وشخصها من كل أفراد هذا النوع، فالمعية الإلهية معنى إضافي يختلف باختلاف موضعه ومتعلقه، فمعية العلم عامة كقوله تعالى: {ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكبر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم...} [المجادلة: 7]، وهي لا تشريف فيها لأهلها بل هي تهديد لهم، وإنذار بأن الله مطلع على كل ما يصدر عنهم، وأنه سيحاسبهم عليه ويجزيهم به، وأعلى منها معيته تعالى للمتقين والمحسنين، وهي تتضمن معنى التوفيق واللطيف كما تقدم، ففيها شرف عظيم، وأعلى منها معيته عز وجل للأنبياء والمرسلين في مقام التأييد على الأعداء المناوئين. وهي أعلى الأنواع كما علمت؛ ولم يثبت لأحد من غيرهم حظ منها إلا ما ثبت للصديق هنا...
التاسعة: إنزال الله تعالى سكينته عليه على ما تقدم من التفسير المنقول المعقول، وهي منقبة لم يرد في التنزيل إثباتها لشخص معين قبله ولا بعده إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما ورد إثباتها لجماعة المؤمنين كما تقدم، وقد كان رضي الله تعالى عنه قائماً مقام جميع المؤمنين في الغار، وسائر رحلة الهجرة الشريفة في خدمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما نزل التنويه بذلك في أواخر مدة الهجرة أي سنة تسع منها، وقد روينا لك ما قاله علي المرتضى كرم الله وجهه وغيره من تفضيله على جميع المؤمنين بهذه الآية من قبل الله عز وجل، وأنه كان المبلغ لها عن الرسول صلى الله عليه وسلم في موسم الحج. العاشرة: تأييده بجنود لم يرها المخاطبون من المؤمنين- وهي الملائكة- بناء على القول بعطف جملة التأييد على جملة إنزال السكينة كما تقدم شرحه، ويأتي في هذا ما ذكرناه فيما قبله من الخصوصية، وجعل أبي بكر في مقام المؤمنين كافة مع تفضيله عليهم... الحادية عشرة: إثبات الله تعالى صحبته لرسوله صلى الله عليه وسلم في أعظم مواطن بعثته، وأطوار نبوته، فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد سمى أتباعه في عهده أصحابا تواضعا منه وتربية لهم على احترام جميع أفراد الأمة ومعاملتهم بالعدل والمساواة، وإزالة لما كان في الجاهلية من احتقار بعض القبائل لبعض، واحتقار الأغنياء والرؤساء لمن دونهم، وإبطالاً لما كان في شعوب أخرى كالهنود من جعل الناس طبقات بعضها فوق بعض بالحكم والتوارث ـ وهو صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الجميع، ولإصلاح الجميع ـ فإن هذا لا ينافي ما جرت به سنة الله تعالى في خلقه وأقرته شريعة الحق والعدل لخاتم رسله من تفاضل أفراد الناس بعضهم على بعض بالإيمان والعلم والعمل ومعالي الأخلاق {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 13]، {فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً درجات منه ومغفرة ورحمة} [النساء: 95، 96] {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله أعظم درجة عند الله} [التوبة: 20] الخ. وقد أجمع المسلمون على أن المهاجرين السابقين الأولين أفضل من سائر المؤمنين، وورد في فضائل الهجرة آيات وأحاديث كثيرة معروفة...، وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن أبا بكر رضي الله عنه أول المهاجرين، وأنه امتاز بهجرته مع الرسول نفسه بإذن ربه ورغبته صلى الله عليه وسلم من قبل الإذن الإلهي له، إذ منع أبا بكر من الهجرة وحده انتظارا منه لإذن الله تعالى له بهجرته معه كما تقدم في الحديث الصحيح، فلا غرو أن يكون له كل ما علمنا من المزايا في الهجرة، وأن يكون بها أفضل المهاجرين بعد سيد المهاجرين صلى الله عليه وسلم، وأن تكون صحبته أفضل وأكمل من صحبة غيره... وفي قوله صلى الله عليه وسلم في حديث مغاضبة عمر له على مسمع من الصحابة: (فهل أنتم تاركو لي صاحبي) إشعار بأنه الصاحب الأكمل له صلى الله عليه وسلم، فهو قد أضافه إلى نفسه، كما أضافه الله تعالى إليه في كتابه، إذ الإضافة هنا كالإضافة في قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده} [الإسراء: 1] إضافة تشريف واختصاص، فإن جميع الخلق عبيد الله {إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً} [مريم: 93]... الثانية عشرة: حكاية الله عز وجل عن نبيه صلى الله عليه وسلم أنه قال له: {لا تحزن}، فكونه صلى الله عليه وسلم يعني بتسليته وطمأنته أمر عظيم، وإخبار الله بذلك فيما يتعبد به المؤمنون إلى يوم القيامة أمر أعظم. وناهيك بتعليله بما علله به من معية الله عز وجل لهما. وهذا النهي عن الحزن لم يرد في غير هذا الموضع من القرآن خطاباً من قبله تعالى إلا للنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم ـ وورد خطاباً من الملائكة للوط عليه السلام ـ وقد علل في آخر سورة النحل بمعية الله تعالى للمتقين والمحسنين، وعلل هنا بالمعية التي هي أخص منها وأعلى كما تقدم شرحه...
الثالثة عشرة: إن القرآن العظيم كلام الله تعالى، وهو أكمل كتاب أنزله الله تعالى على خاتم رسله لهداية البشر كافة، فهو يمدح الإيمان والأعمال الصالحة والصفات الحميدة وأهلها، ويذم الكفر والشرك والأعمال السيئة والصفات القبيحة وأهله، ولا ترى فيه مدحاً لشخص معين من هذه الأمة غير رسولها صلى الله عليه وسلم إلا لصاحبه الأكبر أبي بكر رضي الله عنه، ولا ذما لشخص معين من الكفار غير أبي لهب وامرأته. فاختصاص أبي بكر بالمدح من رب العالمين في هذه الآية منقبة لا يشاركه فيها أحد من هذه الأمة تدل على فضله على كل فرد من أفرادها، وهذا المعنى أي الاختصاص غير موضوع المدح المتقدم تفصيله فهو يجعل قيمته مضاعفة؛ إذ لو كان في التنزيل مدح لغيره كالأحاديث الشريفة الواردة في فضائله وفضائل آخرين من أهل بيته صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما كانت هذه منقبة خاصة بالصديق، وإن كان المدح المفروض لغيره دون مدحه في موضوعه، كما هو شأن أحاديث المناقب...، فكيف وقد... جاء هذا المدح في سياق توبيخ المؤمنين على التثاقل في إجابة الرسول إلى ما استنفرهم له كما تقدم شرحه والآثار فيه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويضرب اللّه لهم المثل من الواقع التاريخي الذي يعلمونه، على نصرة اللّه لرسوله بلا عون منهم ولا ولاء، والنصر من عند اللّه يؤتيه من يشاء: (إلا تنصروه فقد نصره اللّه إذ أخرجه الذين كفروا، ثاني اثنين إذ هما في الغار. إذ يقول لصاحبه: لا تحزن إن اللّه معنا. فأنزل اللّه سكينته عليه، وأيده بجنود لم تروها، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة اللّه هي العليا، واللّه عزيز حكيم) ذلك حين ضاقت قريش بمحمد ذرعاً، كما تضيق القوة الغاشمة دائماً بكلمة الحق، لا تملك لها دفعاً، ولا تطيق عليها صبراً، فائتمرت به، وقررت أن تتخلص منه؛ فأطلعه اللّه على ما ائتمرت، وأوحى إليه بالخروج، فخرج وحيداً إلا من صاحبه الصدّيق، لا جيش ولا عدة، وأعداؤه كثر، وقوتهم إلى قوته ظاهرة. والسياق يرسم مشهد الرسول -[صلى الله عليه وسلم]- وصاحبه: (إذ هما في الغار). والقوم على إثرهما يتعقبون، والصديق -رضي اللّه عنه- يجزع -لا على نفسه ولكن على صاحبه- أن يطلعوا عليهما فيخلصوا إلى صاحبه الحبيب، يقول له: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه. والرسول -[صلى الله عليه وسلم]- وقد أنزل اللّه سكينته على قلبه، يهدئ من روعه ويطمئن من قلبه فيقول له:"يا أبا بكر ما ظنك باثنين اللّه ثالثهما؟". ثم ماذا كانت العاقبة، والقوة المادية كلها في جانب، والرسول -[صلى الله عليه وسلم]- مع صاحبه منها مجرد؟ كان النصر المؤزر من عند اللّه بجنود لم يرها الناس. وكانت الهزيمة للذين كفروا والذل والصغار: (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى). وظلت كلمة اللّه في مكانها العالي منتصرة قوية نافذة: (وكلمة اللّه هي العليا).. وقد قرئ (وكلمة اللّه) بالنصب. ولكن القراءة بالرفع أقوى في المعنى. لأنها تعطي معنى التقرير. فكلمة اللّه هي العليا طبيعة وأصلاً، بدون تصيير متعلق بحادثة معينة. واللّه (عزيز) لا يذل أولياؤه (حكيم) يقدر النصر في حينه لمن يستحقه. ذلك مثل على نصرة اللّه لرسوله ولكلمته؛ واللّه قادر على أن يعيده على أيدي قوم آخرين غير الذين يتثاقلون ويتباطأون. وهو مثل من الواقع إن كانوا في حاجة بعد قول اللّه إلى دليل!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... والتعريف في الغار للعهد، لغار يعلمه المخاطبون، وهو الذي اختفى فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حين خروجهما مهاجِريْن إلى المدينة، وهو غارٌ في جبل ثَوْر خارج مكة إلى جنوبيها، بينه وبين مكة نحو خمسة أميال، في طريق جبليّ.
والغار الثقب في التراب أو الصخر.
... والصاحب هو {ثاني اثنين} وهو أبو بكر الصديق. ومعنى الصاحب: المتّصف بالصحبة، وهي المعية في غالب الأحوال، ومنه سمّيت الزوجة صاحبة، كما تقدّم في قوله تعالى: {ولم تكن له صاحبة} في سورة الأنعام (101). وهذا القول صدر من النبي لأبي بكر حين كانا مختفيين في غار ثور، فكان أبو بكر حزيناً إشفاقاً على النبي أن يشعر به المشركون، فيصيبوه بمضرّة، أو يرجعوه إلى مكة.
والمعية هنا: معية الإعانة والعناية، كما حكى الله تعالى عن موسى وهارون: {قال لا تخافا إنني معكما} [طه: 46] وقوله {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم} [الأنفال: 12].
{فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى وَكَلِمَةُ الله هِي العليا والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
التفريع مؤذن بأنّ السكينة أنزلت عقب الحُلول في الغار، وأنّها من النصر، إذ هي نصر نفساني، وإنّما كان التأييد بجنود لم يروها نصراً جثمانياً. وليس يلزم أن يكون نزول السكينة عقب قوله: {لا تحزن إن الله معنا} بل إنّ قوله ذلك هو من آثار سكينة الله التي أنزلت عليه، وتلك السكينة هي مظهر من مظاهر نصر الله إيّاه، فيكون تقدير الكلام: فقد نصره الله فأنزل السكينة عليه وأيّده بجنود حين أخرجه الذين كفروا، وحِين كان في الغار، وحين قال لصاحبه: لا تحزن إن الله معنا. فتلك الظروف الثلاثة متعلّقة بفعل {نصره} على الترتيب المتقدّم، وهي كالاعتراض بين المفرّع عنه والتفريع، وجاء نظم الكلام على هذا السبك البديع للمبادأة بالدلالة على أنّ النصر حصل في أزمان وأحوال ما كان النصر ليحصل في أمثالها لغيره لولا عناية الله به، وأنّ نصره كان معجزةً خارقاً للعادة.
وبهذا البيان تندفع الحيرة التي حصلت للمفسّرين في معنى الآية، حتّى أغرب كثير منهم فأرجع الضمير المجرور من قوله: {فأنزل الله سكينته عليه} إلى أبي بكر، مع الجزم بأنّ الضمير المنصوب في {أيّده} راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنشأ تشتيت الضمائر، وانفكاك الأسلوب بذكر حالة أبي بكر، مع أنّ المقام لذكر ثباتِ النبي صلى الله عليه وسلم وتأييد الله إيّاه، وما جاء ذكر أبي بكر إلاّ تبعاً لذكر ثبات النبي عليه الصلاة والسلام، وتلك الحيرة نشأت عن جعل {فأنزل الله} مفرّعاً على {إذ يقول لصاحبه لا تحزن} وألجأهم إلى تأويل قوله: {وأيده بجنود لم تروها} إنّها جنود الملائكة يوم بدر، وكلّ ذلك وقوف مع ظاهر ترتيب الجمل، مع الغفلة عن أسلوب النظم المقتضي تقديماً وتأخيراً.
والسكينة: اطمئنان النفس عند الأحوال المخوفة، مشتقّة من السكون، وقد تقدّم ذكرها عند قوله تعالى: {فيه سكينة من ربكم} في سورة البقرة (248).
والتأييد: التقوية والنصر، وهو مشتقّ من اسم اليَدِ، وقد تقدّم عند قوله تعالى {وأيدناه بروح القدس} في سورة البقرة (87).
والجنود: جمع جند بمعنى الجيش، وقد تقدم عند قوله تعالى: {فلما فصل طالوت بالجنود} في سورة البقرة (249)، وتقدّم آنفاً في هذه السورة.
ثم جوز أن تكون جملة {وأيده بجنود} معطوفة على جملة {فأنزل الله سكينته عليه} عطف تفسير فيكون المراد بالجنود الملائكة الذين ألقوا الحيرة في نفوس المشركين فصرفوهم عن استقصاء البحث عن النبي صلى الله عليه وسلم وإكثار الطلب وراءهُ والترصّدِ له في الطرق المؤدّية والسبل الموصلة، لا سيما ومن الظاهر أنّه قصد يثرب مهاجَرَ أصحابه، ومدينة أنصاره، فكان سهلاً عليهم أن يرصدوا له طرق الوصول إلى المدينة.
ويحتمل أن تكون معطوفة على جملة {أخرجه والتقدير: وإذ أيده بجنود لم تروها أي بالملائكة، ويوم بدر، ويوم الأحزاب، ويوم حنين، كما مر في قوله: {ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها} [التوبة: 26].
(والكلمة) أصلها اللفظة من الكلام، ثم أطلقت على الأمر والشأن ونحوِ ذلك من كلّ ما يتحدّث به الناس ويخبر المرءُ به عن نفسه من شأنه، قال تعالى: {وجعلها كلمة باقية في عقبه} [الزخرف: 28] (أي أبقى التبرىء من الأصنام والتوحيد لله شأنَ عقبه وشعارهم) وقال {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات} [البقرة: 124] أي بأشياء من التكاليف كذبح ولده، واختتانه، وقال لمريم {إن الله يبشرك بكلمة منه} [آل عمران: 45] أي بأمر عجيب، أو بولد عجيب، وقال {وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً} [الأنعام: 115] أي أحكامه ووعوده ومنه قولهم: لا تُفرقْ بين كلمة المسلمين، أي بين أمرهم واتّفاقهم، وجَمع الله كلمة المسلمين، فكلمةُ الذين كفروا شأنهم وكيدهم وما دبروه من أنواع المكر.
ومعنى السفلى الحقيرة لأنّ السُفل يكنّى به عن الحقارة، وعكسه قوله: {وكلمة الله هي العليا} فهي الدين وشأن رسوله والمؤمنين، وأشعر قوله: {وجعل كلمة الذين كفروا السفلى} أنّ أمر المشركين كان بمظنّة القوة والشدّة لأنّهم أصحاب عدد كثير وفيهم أهل الرأي والذكاء، ولكنّهم لمّا شاقوا الله ورسوله خذلهم الله وقلب حالهم من علوّ إلى سفل.
وجملة {وكلمة الله هي العليا} مستأنفة بمنزلة التذييل للكلام لأنّه لمّا أخبر عن كلمة الذين كفروا بأنّها صارت سفلى أفاد أنّ العَلاء انحصر في دين الله وشأنه. فضمير الفصل مفيد للقصر، ولذلك لم تعطف كلمة الله على كلمة الذين كفروا، إذ ليس المقصود إفادةَ جعل كلمة اللَّهِ عُليا، لما يُشعر به الجعل من إحداث الحالة، بل إفادةَ أنّ العَلاء ثابت لها ومقصور عليها، فكانت الجملة كالتذييل لجعل كلمة الذين كفروا سفلى.
ومعنى جعلها كذلك: أنّه لمّا تصادمت الكلمتان وتناقضتا بطلت كلمة الذين كفروا واستقرّ ثبوت كلمة الله.
وقرأ يعقوب، وحده {وكلمةَ الله} بنصب (كلمة) عطفاً على {كلمة الذين كفروا السفلى} فتكون كلمة الله عُليا بجعل الله وتقديره.
وجملة {والله عزيز حكيم} تذييل لمضمون الجملتين: لأنّ العزيز لا يغلبه شيء، والحكيم لا يفوته مقصد، فلا جرم تكون كلمته العليا وكلمة ضدّه السفلى.
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
من الهداية: -وجوب نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دينه في أمته في سنته.- شرف أبي بكر الصديق وبيان فضله -الإِسلام يعلو ولا يعلى عليه.