{ الحمد لله } الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري من نعمة أو غيرها ، والمدح هو الثناء على الجميل مطلقا ، تقول حمدت زيدا على علمه وكرمه ، ولا تقول حمدته على حسنه ، بل مدحته وقيل هما أخوان ، والشكر : مقابلة النعمة قولا وعملا واعتقادا قال :
أفادتكم النعماء مني ثلاثة *** يدي ولساني والضمير المحجبا
فهو أعم منهما من وجه ، وأخص من آخر ولما كان الحمد من شعب الشكر أشيع للنعمة ، وأدل على مكانها لخفاء الاعتقاد ، وما في آداب الجوارح من الاحتمال جعل رأس الشكر والعمدة فيه فقال عليه الصلاة والسلام : " الحمد رأس الشكر ، وما شكر الله من لم يحمده " .
والذم نقيض الحمد والكفران نقيض الشكر . ورفعه بالابتداء وخبره لله وأصله النصب وقد قرئ به ، وإنما عدل عنه إلى الرفع ليدل على عموم الحمد وثباته له دون تجدده وحدوثه . وهو من المصادر التي تنصب بأفعال مضمرة لا تكاد تستعمل معها ، والتعريف فيه للجنس ومعناه : الإشارة إلى ما يعرف كل أحد أن الحمد ما هو ؟ أو للاستغراق إذ الحمد في الحقيقة كله له ، إذ ما من خير إلا وهو موليه بوسط أو بغير وسط كما قال تعالى وما { بكم من نعمة فمن الله } وفيه إشعار بأنه تعالى حي قادر مريد عالم . إذ الحمد لا يستحقه إلا من كان هذا شأنه . وقرئ الحمد لله بإتباع الدال اللام وبالعكس تنزيلا لهما من حيث إنهما يستعملان معا منزلة كلمة واحدة .
{ رب العالمين } الرب في الأصل مصدر بمعنى التربية : وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا ، ثم وصف به للمبالغة كالصوم والعدل . وقيل هو نعت من ربه يربه فهو رب ، كقولك نم ينم فهو نم ، ثم سمى به المالك لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه . ولا يطلق على غيره تعالى إلا مقيدا كقوله { ارجع إلى ربك } والعالم اسم لما يعلم به ، كالخاتم والقالب ، غلب فيما يعلم به الصانع تعالى ، وهو كل ما سواه من الجواهر والأعراض ، فإنها لإمكانها وافتقارها إلى مؤثر واجب لذاته تدل على وجوده ، وإنما جمعه ليشمل ما تحته من الأجناس المختلفة ، وغلب العقلاء منهم فجمعه بالياء والنون كسائر أوصافهم . وقيل اسم وضع لذوي العلم من الملائكة والثقلين ، وتناوله لغيرهم على سبيل الاستتباع . وقيل عني به الناس ههنا فإن كل واحد منهم عالم من حيث إنه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير من الجواهر والأعراض يعلم بها الصانع كما يعلم بما أبدعه في العالم الكبير ، ولذلك سوى بين النظر فيهما ، وقال تعالى : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } وقرئ { رب العالمين } بالنصب على المدح . أو النداء . أو بالفعل الذي دل عليه الحمد ، وفيه دليل على أن الممكنات كما هي مفتقرة إلى المحدث حال حدوثها فهي مفتقرة إلى المبقي حال بقائها .
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 2 )
{ الحمد } معناه الثناء الكامل ، والألف واللام فيه لاستغراق الجنس من المحامد ، وهو أعم من الشكر ، لأن الشكر إنما يكون على فعل جميل يسدى إلى الشاكر ، وشكره حمد ما ، والحمد المجرد( {[13]} ) هو ثناء بصفات المحمود من غير أن يسدي شيئاً ، فالحامد من الناس قسمان : الشاكر والمثني بالصفات .
وذهب الطبري إلى أن الحمد والشكر بمعنى واحد ، وذلك غير مرضي . ( {[14]} )
وحكي عن بعض الناس أنه قال : «الشكر ثناء على الله بأفعاله وأنعامه ، والحمدُ ثناء بأوصافِه » .
قال القاضي أبو محمد : وهذا أصح معنى من أنهما بمعنى واحد . واستدل الطبري على أنهما بمعنى ، بصحة قولك الحمد لله شكراً . وهو في الحقيقة دليل على خلاف ما ذهب إليه . لأن قولك شكراً إنما خصصت به الحمد أنه على نعمة من النعم . وأجمع السبعة وجمهور الناس على رفع الدال من «الحمدُ لله » .
وروي عن سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجاج «الحمدَ لله » بفتح الدال وهذا على إضمار فعل .
وروي عن الحسن بن الحسن وزيد بن علي : «الحمدِ لله » ، بكسر الدال على إتباع الأول الثاني .
وروي عن ابن أبي عبلة( {[15]} ) : «الحمدُ لُله » ، بضم الدال واللام ، على اتباع الثاني الأول .
قال الطبري : { الحمد لله } ثناء أثنى به على نفسه ، وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا به عليه ، فكأنه قال : «قولوا الحمد لله » وعلى هذا يجيء «قولوا إياك » قال : وهذا من حذف العرب ما يدل ظاهر الكلام عليه ، كما قال الشاعر :
وأعلَمُ أنني سأكونُ رمساً . . . إذا سار النواعِجُ لا يسيرُ
فقالَ السائلونَ لِمَنْ حفرْتُمْ . . . فقال القائلونَ لهمْ وزيرُ( {[16]} )
المعنى المحفور له وزير ، فحذف لدلالةِ ظاهرِ الكلامِ عليه ، وهذا كثير .
فقال بعضهم : «هو نصب على المدح » .
وقال بعضهم : «هو على النداء ، وعليه يجيء { إياك } » .
والرب في اللغة : المعبود ، والسيد المالك ، والقائم بالأمور المصلح لما يفسد منها ، والملك ، - تأتي اللفظة لهذه المعاني- .
فمما جاء بمعنى المعبود قول الشاعر [ غاوي بن عبد العزى ] :
أربّ يبولُ الثعلبان برأسه . . . لقد هانَ من بالَتْ عليه الثَّعالبُ( {[17]} )
ومما جاء بمعنى السيد المالك قولهم : رب العبيد والمماليك .
ومما جاء بمعنى القائم بالأمور الرئيس فيها قول لبيد :
وأهلكن يوماً ربَّ كندة وابنَهُ . . . وربَّ معدٍّ بين خَبْتٍ وعَرْعَرٍ( {[18]} )
ومما جاء بمعنى الملك قوله النابغة :
تخبُّ إلى النعمان حتّى تنالَهُ . . . فدى لك من ربٍّ طريفي وتالدي( {[19]} )
ومن معنى الإصلاح قولهم : أديم مربوب ، أي مصلح ، قال الشاعر( {[20]} ) الفرزدق : [ البسيط ] .
كانوا كسالئةٍ حمقاء إذْ حقنتْ . . . سلاءَها في أديمٍ غيرِ مَرْبُوبِ
ومن معنى الملك قول صفوان بن أمية لأخيه يوم حنين : «لأن يربني رجل من قريش خير من أن يربني رجل من هوازن »( {[21]} ) .
ومنه قول ابن عباس في شأن عبد الله بن الزبير ، وعبد الملك بن مروان : «وإن كان لا بد لأن يربني رجل من بني عمي أحبّ إليّ من أن يربني غيرهم »( {[22]} ) . ذكره البخاري في تفسير سورة براءة . ومن ذلك قول الشاعر علقمة بن عبدة : [ الطويل ] .
وكنت أمرءاً أفضت إليك ربابتي . . . ومن قبل ربتني فضعت ربوبُ( {[23]} )
وهذه الاستعمالات قد تتداخل ، فالرب على الإطلاق الذي هو رب الأرباب على كل جهة هو الله تعالى .
و { العالمين } جمع عالم ، وهو كل موجود سوى الله تعالى ، يقال لجملته عالم ، ولأجزائه من الإنس والجن وغير ذلك عالم ، وبحسب ذلك يجمع على العالمين ، ومن حيث عالم الزمان متبدل في زمان آخر حسن جمعها( {[24]} ) ، ولفظة العالم جمع لا واحد له من لفظه وهو مأخوذ من العلم والعلامة لأنه يدل على موجده ، كذا قال الزجاج .