{ صراط الذين أنعمت عليهم } بدل من الأول بدل الكل ، وهو في حكم تكرير العامل من حيث إنه المقصود بالنسبة ، وفائدته التوكيد والتنصيص على أن طريق المسلمين هو المشهود عليه بالاستقامة على آكد وجه وأبلغه لأنه جعل كالتفسير والبيان له فكأنه من البين الذي لا خفاء فيه أن الطريق المستقيم ما يكون طريق المؤمنين . وقيل : { الذين أنعمت } { عليهم } الأنبياء ، وقيل : النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقيل : أصحاب موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام قبل التحريف والنسخ . وقرئ { صراط الذين أنعمت عليهم } والإنعام : إيصال النعمة ، وهي في الأصل الحالة التي يستلذها الإنسان فأطلقت لما يستلذه من النعمة وهي اللين ، ونعم الله وإن كانت لا تحصى كما قال : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } تنحصر في جنسين : دنيوي وأخروي .
والأول : قسمان وهبي وكسبي والوهبي قسمان : روحاني كنفخ الروح فيه وإشراقه بالعقل وما يتبعه من القوى كالفهم والفكر والنطق ، وجسماني كتخليق البدن والقوى الحالة فيه والهيئات العارضة له من الصحة وكمال الأعضاء ، والكسبي تزكية النفس عن الرذائل وتحليتها بالأخلاق السنية والملكات الفاضلة ، وتزيين البدن بالهيئات المطبوعة والحلى المستحسنة وحصول الجاه والمال .
والثاني أن يغفر له ما فرط منه ويرضى عنه ويبوئه في أعلى عليين مع الملائكة المقربين أبد الآبدين . والمراد هو القسم الأخير وما يكون وصلة إلى نيله من الآخرة فإن ما عدا ذلك يشترك فيه المؤمن والكافر .
{ غير المغضوب عليهم ولا الضالين } بدل من { الذين } على معنى أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من الغضب والضلال . أو صفة له مبينة أو مقيدة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة ، وهي نعمة الإيمان ، وبين السلامة من الغضب والضلال وذلك إنما يصح بأحد تأويلين ، إجراء الموصول مجرى النكرة إذ لم يقصد به معهود كالمحلى في قوله :
ولقد أمر على اللئيم يسبني *** . . .
وقولهم : إني لأمر على الرجل مثلك فيكرمني . أو جعل غير معرفة بالإضافة لأنه أضيف إلى ما له ضد واحد وهو المنعم عليهم ، فيتعين تعين الحركة من غير السكون .
وعن ابن كثير نصبه على الحال من الضمير المجرور والعامل أنعمت . أو بإضمار أعني . أو بالاستثناء إن فسر النعم بما يعم القبيلين ، والغضب : ثوران النفس إرادة الانتقام ، فإذا أسند إلى الله تعالى أريد به المنتهى والغاية على ما مر ، وعليهم في محل الرفع لأنه نائب مناب الفاعل بخلاف الأول ، ولا مزيدة لتأكيد ما في غير من معنى النفي ، فكأنه قال لا المغضوب عليهم ولا الضالين ، ولذلك جاز أنا زيدا غير ضارب ، كما جاز أنا زيدا لا ضارب ، وإن امتنع أنا زيدا مثل ضارب ، وقرئ { وغير الضالين } والضلال : العدول عن الطريق السوي عمدا أو خطأ ، وله عرض عريض والتفاوت ما بين أدناه وأقصاه كثير .
قيل : { المغضوب عليهم } اليهود لقوله تعالى فيهم : { من لعنه الله وغضب عليه } و{ الضالين } النصارى لقوله تعالى : { قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا } وقد روي مرفوعا ، ويتجه أن يقال : المغضوب عليهم العصاة والضالين الجاهلون بالله ، لأن المنعم عليه من وفق للجمع بين معرفة الحق لذاته والخير للعمل به ، وكان المقابل له من اختل إحدى قوتيه العاقلة والعاملة . والمخل بالعمل فاسق مغضوب عليه لقوله تعالى في القاتل عمدا { وغضب الله عليه } . والمخل بالعقل جاهل ضال لقوله : { فماذا بعد الحق إلا الضلال } . وقرئ ولا " الضالين " بالهمزة على لغة من جد في الهرب من التقاء الساكنين .
-آمين- اسم الفعل الذي هو استجب . وعن ابن عباس قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معناه : " فقال افعل بني على الفتح كأين لالتقاء الساكنين " ، وجاء مد ألفه وقصرها قال :
ويرحم الله عبدا قال آمينا *** . . .
أمين فزاد الله ما بيننا بعدا *** . . .
وليس من القرآن وفاقا ، لكن يسن ختم السورة به لقوله عليه الصلاة والسلام " علمني جبريل آمين عند فراغي من قراءة الفاتحة وقال إنه كالختم على الكتاب " . وفي معناه قول علي رضي الله عنه : آمين خاتم رب العالمين ، ختم به دعاء عبده . يقوله الإمام ويجهر به في الجهرية لما روي عن وائل بن حجر " أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا قرأ ولا الضالين قال آمين ورفع بها صوته " .
وعن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه لا يقوله ، والمشهور عنه أنه يخفيه كما رواه عبد الله بن مغفل وأنس ، والمأموم يؤمن معه لقوله عليه الصلاة والسلام : " إذا قال الإمام { ولا الضالين } فقولوا آمين فإن الملائكة تقول آمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه " وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي " ألا أخبرك بسورة لم ينزل في التوراة والإنجيل والقرآن مثلها " قال : قلت بلى يا رسول الله . قال " فاتحة الكتاب إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته " .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ أتاه ملك فقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة ، لن تقرأ حرفا منهما إلا أعطيته " .
وعن حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتما مقضيا فيقرأ صبي من صبيانهم في الكتاب : { الحمد لله رب العالمين } فيسمعه الله تعالى فيرفع عنهم بذلك العذاب أربعين سنة " .
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ( 7 )
وقرأ عمر بن الخطاب ، وابن الزبير : «صراط من أنعمت عليهم » .
و { الذين } جمع الذي ، وأصله «لذٍ » ، حذفتْ منه الياء للتنوين كما تحذف من عمٍ ، وقاضٍ ، فلما دخلته الألف واللام ثبتت الياء . و «الذي » اسم مبهم ناقص محتاج إلى صلة وعائد ، وهو مبني في إفراده . وجمعه معرب في تثنيته . ومن العرب( {[97]} ) من يعرب جمعه ، فيقول في الرفع اللذون ، وكتب الذي بلام واحدة في الإفراد والجمع تخفيفاً لكثرة الاستعمال ، واختلف الناس في المشار إليهم بأنه أنعم عليهم .
فقال ابن عباس وجمهور من المفسرين : إنه أراد صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وانتزعوا ذلك من قوله تعالى : { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً ، وإذاً لآتيناهم من لدنّا أجراً عظيماً ولهديناهم صراطاً مستقيماً ومن يطع اللَّهَ والرسولَ فأولئكَ مع الذينَ أنعمَ اللَّهُ عليهمْ من النبيين والصدّيقين والشهداءِ والصالحين وحَسُنَ أولئك رفيقاً }( {[98]} ) [ النساء : 66-69 ] فالآية تقتضي أن هؤلاء على صراط مستقيم . وهو المطلوب في آية الحمد .
وقال ابن عباس أيضاً : «المنعم عليهم هو المؤمنون » .
وقال الحسن بن أبي الحسن : «المنعم عليهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم » .
وحكى مكي وغيره عن فرقة من المفسرين أن المنعم عليهمْ مؤمنو بني إسرائيل ، بدليل قوله تعالى : { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم }( {[99]} ) [ البقرة : 40 ، 47 ، 122 ] .
وقال ابن عباس : «المنعم عليهم أصحابُ موسى قبل أن يبدلوا » .
قال القاضي أبو محمد : وهذا والذي قبله سواء .
وقال قتادة بن دعامة : «المنعم عليهم الأنبياء خاصة » .
وحكى مكي عن أبي العالية أنه قال : «المنعم عليهم محمد صلى الله عليه وسلم وأبو بكر عمر » .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وقد تقدم ما حكاه عنه الطبري من أنه فسر { الصراط المستقيم } بذلك ، وعلى ما حكى مكي ينتقض الأول ويكون { الصراط المستقيم } طريق محمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما . وهذا أقوى في المعنى ، لأن تسمية أشخاصهم طريقاً تجوز( {[100]} ) ، واختلف القراء في الهاء من { عليهم } ، فقرأ حمزة «عليهُمْ » بضم الهاء وإسكان الميم ، وكذلك لديهم وإليهم ، قرأ الباقون في جميعها بكسر الهاء واختلفوا في الميم .
فروي عن نافع التخيير بين ضمها وسكونها ، وروي عنه أنه كان لا يعيب ضم الميم ، فدل ذلك على أن قراءته كانت بالإسكان .
وكان عبد الله بن كثير يصل الميم بواو انضمت الهاء قبلها أو انكسرت فيقرأ «عليهمو وقلوبهمو وسمعهمو وأبصارهمو » .
وقرأ ورش الهاء مكسورة والميم موقوفة ، إلا أن تلقى الميم ألفاً أصلية فيلحق في اللفظ واواً مثل قوله : { سواء عليهم أأنذرتهم }( {[101]} ) [ البقرة : 6 ] .
وكان أبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، والكسائي ، يكسرون ، ويسكنون الميم ، فإذا لقي الميم حرف ساكن اختلفوا فكان عاصم ، وابن كثير ، ونافع يمضون على كسر الهاء وضم الميم ، مثل قوله تعالى : { عليهم الذلة }( {[102]} ) [ البقرة : 61 ، آل عمران : 112 ] و { من دونهم امرأتين }( {[103]} ) [ القصص : 23 ] وما أشبه ذلك ، وكان أبو عمرو يكسر الهاء والميم فيقول : { عليهم الذلة } و { إليهم اثنين } [ يس : 14 ] وما أشبه ذلك .
وكان الكسائي يضم الهاء والميم معاً ، فيقرأ { عليهم الذلة } و { من دونهم امرأتين } .
قال أبو بكر أحمد بن موسى : وكل هذا الاختلاف في كسر الهاء وضمها إنما هو في الهاء التي قبلها كسرة أو ياء ساكنة ، فإذا جاوزت هذين لم يكن في الهاء إلا الضم ، فإذا لم يكن قبل الميم هاء قبلها كسرة أو ياء ساكنة لم يجز في الميم إلا الضم والتسكين في مثل قوله تعالى : منكم وأنتم .
قال القاضي أبو محمد : وحكى صاحب الدلائل قال : «قرأ بعضهم عليهمو بواو وضمتين ، وبعضهم بضمتين وألقى( {[104]} ) الواو ، وبعضهم بكسرتين وألحق الياء ، وبعضهم بكسرتين وألغى الياء ، وبعضهم بكسر الهاء وضم الميم » .
قال : «وذلك مروي عن الأئمة ورؤساء اللغة » .
قال ابن جني( {[105]} ) : «حكى أحمد بن موسى عليهمو وعليهمُ بضم الميم من غير إشباع إلى الواو ، وعليهم بسكون الميم » .
وقرأ الحسن وعمرو بن فائد «عليهمي » .
وقرىء «عليهمِ » بكسر الميم دون إشباع إلى الياء .
وقرأ الأعرج : «علِيهمُ » بكسر الهاء وضم الميم من غير إشباع .
وهذه القراءات كلها بضم الهاء إلا الأخيرة وبإزاء كل واحدة منها قراءة بكسر الهاء فيجيء في الجميع عشر قراءات . ( {[106]} )
قوله تعالى : { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } .
اختلف القراء في الراء من ( غير ) ، فقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي بخفض الراء ، وقرأ بن كثير ( غير ) ( {[107]} ) بالنصب ، وروي عنه الخفض .
قال أبو علي : «والخفض( {[108]} ) على ضربين : على البدل ، من { الذين } ، أو على الصفة للنكرة ، كما تقول مررت برجل غيرك ، وإنما وقع هنا صفة ل { الذين } لأن { الذين } هنا ليس بمقصود قصدهم( {[109]} ) ، فالكلام بمنزلة قولك إني لأمر بالرجل مثلك فأكرمه » .
قال : «والنصب في الراء على ضربين : على الحال كأنك قلت أنعمت عليهم لا مغضوباً عليهم ، أو على الاستثناء كأنك قلت إلا المغضوب عليهم ، ويجوز النصب على أعني » . وحكي نحو هذا عن الخليل .
ومما يحتج به لمن ينصب أن { غير } نكرة فكره أن يوصف بها المعرفة . والاختيار الذي لا خفاء به الكسر . وقد روي عن ابن كثير( {[110]} ) ، فأولى القولين ما لم يخرج عن إجماع قراء الأمصار .
قال أبو بكر بن السراج( {[111]} ) : «والذي عندي أن { غير } في هذا الموضع مع ما أضيف إليه معرفة ، وهذا شيء فيه نظر ولبس ، فليفهم عني ما أقول : اعلم أن حكم كل مضاف إلى معرفة أن يكون معرفة ، وإنما تنكرت ( غير ) ومثل مع إضافتهما إلى المعارف من أجل معناهما ، وذلك إذا قلت رأيت غيرك فكل شيء سوى المخاطب فهو غيره ، وكذلك إذا قلت رأيت مثلك فما هو مثله لا يحصى لكثرة وجوه المماثلة ، فإنما صارا نكرتين من أجل المعنى فأما إذا كان شيء معرفة له ضد واحد وأردت إثباته ، ونفي ضده ، وعلم ذلك السامع فوصفته بغير وأضفت غير إلى ضده فهو معرفة ، وذلك كقولك عليك بالحركة غير السكون ، وكذلك قولك غير المغضوب لأن من أنعم عليه لا يعاقبه إلا من غضب عليه ، ومن لم يغضب عليه فهو الذي أنعم عليه ، فمتى كانت غير على هذه الصفة وقصد بها هذا المقصد فهي معرفة » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : أبقى أبو بكر { الذين } على حد التعريف ، وجوز نعتها ب { غير } لما بينه من تعرف غير في هذا الموضع ، وغير أبي بكر وقف مع تنكر غير ، وذهب إلى تقريب { الذين } من النكرة إذ هو اسم شائع لا يختص به معين ، وعلى هذا جوز نعتها بالنكرة ، و { المغضوب عليهم } اليهود ، والضالون النصارى .
وهكذا قال ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، والسدي ، وابن زيد ، وروي ذلك عدي بن حاتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم( {[112]} ) ، وذلك بين من كتاب الله تعالى ، لأن ذكر غضب الله على اليهود متكرر فيه كقوله : { وباؤوا بغضب من الله }( {[113]} ) [ البقرة : 61 ، آل عمران : 112 ] ، وكقوله تعالى : { قل أؤنبئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير }( {[114]} ) [ المائدة : 60 ] فهؤلاء اليهود ، بدلالة قوله تعالى بعده : { ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين }( {[115]} ) [ البقرة : 65 ] والغضب عليهم هو من الله تعالى ، وغضب الله تعالى عبارة عن إظهاره( {[116]} ) عليهم محناً وعقوبات وذلة ونحو ذلك ، مما يدل على أنه قد أبعدهم عن رحمته بعداً مؤكداً مبالغاً فيه ، والنصارى كان محققوهم على شرعة قبل ورود شرع محمد صلى الله عليه وسلم ، فلما ورد ضلوا ، وأما غير محققيهم فضلالهم متقرر منذ تفرقت أقوالهم في عيسى عليه السلام . وقد قال الله تعالى فيهم : { ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل }( {[117]} ) [ المائدة : 77 ] .
قال مكي رحمه الله حكاية( {[118]} ) : دخلت { لا } في قوله { ولا الضالين } لئلا يتوهم أن { الضالين } عطف على { الذين } .
قال : «وقيل هي مؤكدة بمعنى غير » .
وحكى الطبري أن { لا } زائدة ، وقال : هي هنا على نحو ما هي عليه في قول الراجز( {[119]} ) :
. . . . . . فما ألوم البيض ألا تسخرا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أراد أن تسخر . وفي قول الأحوص( {[120]} ) : [ الطويل ]
ويلحينني في اللهو أن لا أحبّه . . . وللهو داعٍ دائبٌ غيرُ غافلِ
وقال الطبري : يريد : ويلحينني في اللهو أن أحبه .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وبيت الأحوص إنما معناه إرادة أن لا أحبه ف ( لا ) فيه متمكنة . ( {[121]} )
قال الطبري : ومنه قوله تعالى : { ما منعك أن لا تسجد } ( {[122]} ) [ الأعراف : 12 ] وإنما جاز أن تكون لا بمعنى الحذف ، ولأنها تقدمها الجحد ( {[123]} ) في صدر الكلام ، فسيق الكلام الآخر مناسباً للأول ، كما قال الشاعر ( {[124]} ) :
ما كان يرضي رسول الله فعلهم . . . والطيبان أبو بكر ولا عمر
وقرأ عمر بن الخطاب وأبي بن كعب :«غير المغضوب عليهم وغير الضالين » .
وروي عنهما في الراء النصب والخفض في الحرفين .
قال الطبري : «فإن قال قائل أليس الضلال من صفة اليهود ، كما أن النصارى عليهم غضب فلم خص كل فريق بذكر شيء مفرد ؟ قيل : هم كذلك ولكن وسم الله لعباده كل فريق بما قد تكررت العبارة عنه به وفهم به أمره » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق : وهذا غير شاف ، والقول في ذلك أن أفاعيل اليهود من اعتدائهم ، وتعنتهم ، وكفرهم مع رؤيتهم الآيات ، وقتلهم الأنبياء أمور توجب الغضب في عرفنا ، فسمى تعالى ما أحل بهم غضباً ، والنصارى لم يقع لهم شيء من ذلك ، إنما ضلوا من أول كفرهم دون أن يقع منهم ما يوجب غضباً خاصاً بأفاعيلهم ، بل هو الذي يعم كل كافر وإن اجتهد ، فلهذا تقررت العبارة عن الطائفتين بما ذكر ، وليس في العبارة ب { الضالين } تعلق( {[125]} ) للقدرية في أنهم أضلوا أنفسهم لأن هذا إنما هو كقولهم تهدم الجدار وتحركت الشجرة والهادم والمحرك غيرهما ، وكذلك النصارى خلق الله الضلال فيهم وضلوا هم بتكسبهم .
وقرأ أيوب السختياني( {[126]} ) : «الضألين » بهمزة غير ممدودة كأنه فر من التقاء الساكنين ، وهي لغة .
حكى أبو زيد( {[127]} ) قال : سمعت عمرو بن عبيد يقرأ : «فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جأن » فظننته قد لحن حتى سمعت من العرب دأبة وشأبة .
قال أبو الفتح : وعلى هذه اللغة قول كُثَيِّر [ الطويل ] .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . إذا ما العوالي بالعبيط احْمَأَرَّتِ( {[128]} )
وقول الآخر( {[129]} ) : [ الطويل ] .
وللأرض أما سودُها فتجللَتْ . . . بياضاً وأمّا بيضُها فادْهأَمَّتِ
وأجمع الناسُ على أنَّ عدد آي سورة الحمد سبعُ آيات : { العالمين } آية ، { الرحيم } آية ، { الدين } آية ، { نستعين } آية ، { المستقيم } آية ، { أنعمت عليهم } آية ، { ولا الضالين } آية ، وقد ذكرنا في تفسير بسم الله الرحمن الرحيم ما ورد من خلاف ضعيف في ذلك .
روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا قال الإمام : { ولا الضالين } [ الفاتحة : 7 ] فقولوا آمين . فإن الملائكة في السماء تقول آمين ، فمن وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه( {[1]} ) .
وروي أن جبريل عليه السلام لما علم النبي عليه السلام فاتحة الكتاب وقت نزولها فقرأها قال له : «قل آمين »( {[2]} ) .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : «آمين خاتم رب العالمين ، يختم بها دعاء عبده المؤمن »( {[3]} ) .
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يدعو فقال : «أوجب إن ختم . فقال له رجل بأي شيء يختم يا رسول الله ؟ قال : «بآمين »( {[4]} ) .
ومعنى » آمين «عند أكثر أهل العلم : اللهم استجب ، أو أجب يا رب ، ونحو هذا . قاله الحسن بن أبي الحسن وغيره ، ونص عليه أحمد بن يحيى ثعلب وغيره .
وقال قوم : » هو اسم من أسماء الله تعالى « ، روي ذلك عن جعفر بن محمد( {[5]} ) ومجاهد وهلال بن يساف( {[6]} ) ، وقد روي أن » آمين «اسم خاتم يطبع به كتب أهل الجنة التي تؤخذ بالإيمان( {[7]} ) .
قال القاضي أبو محمد : فمقتضى هذه الآثار أن كلّ داعٍ ينبغي له في آخر دعائه أن يقول : «آمين » وكذلك كل قارىء للحمد في غير صلاة ، لكن ليس بجهر الترتيل( {[8]} ) . وأما في الصلاة فقال بعض العلماء : «يقولها كل مصلّ من إمام وفذ( {[9]} ) ومأموم قرأها أو سمعها » .
وقال مالك في المدونة : «لا يقول الإمام » آمين «ولكن يقولها من خلفه ويخفون ، ويقولها الفذ » .
وقد روي عن مالك رضي الله عنه : أن الإمام يقولها أسرّ أم جَهَرَ .
وروي عنه : «الإمام لا يؤمن في الجهر » .
قال القاضي أبو محمد عبدالحق رضي الله عنه : فهذا الخلاف إنما هو في الإمام ، ولم يختلف في الفذ ولا في المأموم إلا ابن نافع . قال في كتاب ابن حارث : «لا يقولها المأموم إلا إن سمع الإمام يقول { ولا الضالين } [ الفاتحة : 7 ] ، وإذا كان ببعد لا يسمعه فلا يقل » .
وقال ابن عبدوس : «يتحرى قدر القراءة ويقول آمين » . وهي لفظة مبنية على الفتح لالتقاء الساكنين ، وكأن الفتح مع الياء أخف من سائر الحركات ، ومن العرب من يقول «آمين » فيمده ، ومنه قول الشاعر( {[10]} ) : [ البسيط ]
آمين آمين لا أرضى بواحدة . . . حتى أبلغها ألفين آمينا
ومن العرب من يقول «أمين » بالقصر ، ومنه قول الشاعر : [ جبير بن الأضبط ] .
تباعد مني فَطْحَلٌ إذْ رأيتُه . . . أمين فزاد الله ما بيننا بعدا( {[11]} )
واختلف الناس في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : «فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة » فقيل في الإجابة ، وقيل في خلوص النية ، وقيل : في الوقت( {[12]} ) ، والذي يترجح أن المعنى فمن وافق في الوقت مع خلوص النية ، والإقبال على الرغبة إلى الله تعالى بقلب سليم ، والإجابة تتبع حينئذ ، لأنّ من هذه حاله فهو على الصراطِ المستقيم .