{ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب } أي الأصنام التي نصبت للعبادة . { والأزلام } سبق تفسيرها في أول السورة . { رجس } قذر تعاف عنه العقول ، وأفرده لأنه خبر للخمر ، وخبر المعطوفات محذوف أو لمضاف محذوف كأنه قال : إنما تعاطي الخمر والميسر . { من عمل الشيطان } لأنه مسبب عن تسويله وتزيينه . { فاجتنبوه } الضمير للرجس أو لما ذكر أو للتعاطي . { لعلكم تفلحون } لكي تفلحوا بالاجتناب عنه .
واعلم أنه سبحانه وتعالى أكد تحريم الخمر والميسر في هذه الآية ، بأن صدر الجملة ب{ إنما } وقرنهما بالأنصاب والأزلام ، وسماهما رجسا ، وجعلهما من عمل الشيطان تنبيها على أن الاشتغال بهما شر بحت أو غالب ، وأمر بالاجتناب عن عينهما وجعله سببا يرجى منه الفلاح .
الخطاب للمؤمنين جميعاً ، لأن هذه الأشياء شهوات وعادات قد تلبس بها في الجاهلية وغلبت على النفوس فكان بقي منها في نفوس كثير من المؤمنين{[4695]} .
فأما { الخمر } فكانت لم تحرم بعد وأما { الميسر } ففيه قمار ولذة للفارغ من النفوس ونفع أيضاً بوجه ما ، وأما { الأنصاب } وهي حجارة يذكون عندها لفضل يعتقدونه فيها ، وقيل هي الأصنام المعبودة كانوا يذبحون لها وعندها في الجاهلية . فإن كانت المرادة في هذه الآية الحجارة التي يذبح عندها فقط فذلك لأنه كان في نفس ضعفة المؤمنين شيء من تعظيم تلك الحجارة ، وهذا كما قالت امرأة الطفيل بن عمرو الدوسي لزوجها : أتخاف على الصبية من ذي الشرى شيئاً ؟ وذو الشرى صنم لدوس ، وإن كانت المرادة في هذه الآية الأصنام فإنما قرنت بهذه الأمور ليبين النقص في هذه إذ تقرن بالأصنام ، ولا يتأول أنه بقي في نفس مؤمن شيء من تعظيم الأصنام والتلبس بها حتى يقال له اجتنبه ، وأما { الأزلام } فهي الثلاثة التي كان أكثر الناس يتخذونها في أحدها «لا » وفي الآخر «نعم » ، والآخر «غفل » ، وهي التي حبسها سراقة بن جعشم حين اتبع النبي صلى الله عليه وسلم في وقت الهجرة ، فكانوا يعظمونها ، وبقي منها في بعض النفوس شيء ومن هذا القبيل هو {[4696]} الزجر بالطير وأخذ الفأل منها في الكتب ونحوه مما يصنعه الناس اليوم ، وقد يقال لسهام الميسر أزلام ، والزلم السهم وكان من الأزلام أيضاً ما يكون عند الكهان وكان منها سهام عند الأصنام وهي التي ضرب بها على عبد الله بن عبد المطلب أبي النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان عند قريش في الكعبة أزلام فيها أحكام ذكرها ابن إسحاق وغيره ، فأخبر الله تعالى أن هذه الأشياء { رجس } ، قال ابن زيد : الرجس الشر .
قال القاضي أبو محمد : كل مكروه ذميم{[4697]} ، وقد يقال للعذاب ، وقال ابن عباس في هذه الآية { رجس } سخط ، وقد يقال للنتن وللعذرة والأقذار رجس ، والرجز العذاب لا غير ، والركس العذرة لا غير ، والرجس يقال للأمرين ، وأمر الله تعالى باجتناب هذه الأمور واقترنت بصيغة الأمر في قوله { فاجتنبوه } نصوص الأحاديث وإجماع الأمة ، فحصل الاجتناب في رتبة التحريم ، فبهذا حرمت الخمر بظاهر القرآن ونص الحديث وإجماع الأمة ، وقد تقدم تفسير لفظة { الخمر } ومعناها . وتفسير { الميسر } في سورة البقرة ، وتقدم تفسير { الأنصاب } والاستقسام بالأزلام في صدر هذه السورة ، واختلف الناس في سبب نزول هذه الآيات فقال أبو ميسرة : نزلت بسبب عمر بن الخطاب فإنه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم عيوب الخمر وما ينزل بالناس من أجلها ودعا إلى الله في تحريمها ، وقال : اللهم بين لنا فيها بياناً شافياً ، فنزلت هذه الآيات ، فقال عمر انتهينا ، انتهينا{[4698]} وقال مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه سعد قال : صنع رجل من الأنصار طعاماً فدعانا فشربنا الخمر حتى انتشينا ، فتفاخرت الأنصار وقريش ، فقال كل فريق : نحن خير منكم ، فأخذ الأنصار َلْحَي جمل فضرب به أنف سعد ففزره ، فكان سعد أفزر الأنف ، قال سعد ففيّ نزلت الآية إلى آخرها{[4699]} .
وقال ابن عباس : نزل تحريم الخمر في قبيلتين من الأنصار شربوا حتى إذا ثملوا عربدوا فلما صحوا جعل كل واحد منهم يرى الأثر بوجهه ولحيته وجسده ، فيقول هذا فعل فلان بي ، فحدث بينهم في ذلك ضغائن ، فنزلت هذه الآيات في ذلك{[4700]} .
قال القاضي أبو محمد : وأمر الخمر إنما كان بتدريج ونوازل كثيرة ، منها قصة حمزة حين جبَّ الأسنمة ، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم : وهل أنتم إلا عبيد أبي{[4701]} ، ومنها قراءة علي بن أبي طالب في صلاة المغرب «قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون » فنزلت { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } الآية{[4702]} ، ثم لم تزل النوازل تحزب{[4703]} الناس بسببها حتى نزلت هذه الآية ، فحرمت بالمدينة وخمر العنب فيها قليل ، إنما كانت خمرهم من خمسة أشياء من العسل ومن التمر ومن الزبيب ومن الحنطة ومن الشعير ، والأمة مجمعة على تحريم القليل والكثير من خمر العنب التي لم تمسها نار ولا خالطها شيء ، وأكثر الأمة على أن ما أسكر كثيره فقليله حرام ولأبي حنيفة وبعض فقهاء الكوفة إباحة ما لا يسكر مما يسكر كثيره من غير خمر العنب ، وهو مذهب مردود ، وقد خرج قوم تحريم الخمر من وصفها برجس وقد وصف تعالى في آية أخرى الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير بأنها رجس ، فيجيء من ذلك أن كل رجس حرام .
قال القاضي أبومحمد : وفي هذا نظر ، والاجتناب أن يجعل الشيء جانباً أو ناحية .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.