فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (90)

قوله : { يا أيها الذين آمَنُواْ } خطاب لجميع المؤمنين . وقد تقدم تفسير الميسر في سورة البقرة { والأنصاب } هي : الأصنام المنصوبة للعبادة ، { والأزلام } . قد تقدّم تفسيرها في أوّل هذه السورة ، والرجس يطلق على العذرة والأقذار ، وهو خبر للخمر ، وخبر المعطوف عليه محذوف . وقوله : { مِنْ عَمَلِ الشيطان } صفة لرجس : أي كائن من عمل الشيطان ، بسبب تحسينه لذلك وتزيينه له . وقيل : هو الذي كان عمل هذه الأمور بنفسه فاقتدى به بنو آدم والضمير في { فاجتنبوه } راجع إلى الرجس أو إلى المذكور .

وقوله : { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } علة لما قبله . قال في الكشاف : أكد تحريم الخمر والميسر وجوهاً من التأكيد ، منها تصدير الجملة بإنما ، ومنها أنه قرنهما بعبادة الأصنام ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : «شارب الخمر كعابد الوثن » ، ومنها أنه جعلهما رجساً ، كما قال : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } ، ومنها أنه جعلهما من عمل الشيطان ، والشيطان لا يأتي منه إلا الشرّ البحت ، ومنها أنه أمر بالاجتناب ، ومنها أنه جعل الاجتناب من الفلاح ، وإذا كان الاجتناب فلاحاً كان الارتكاب خيبة ومحقة ، ومنها أنه ذكر ما ينتج منهما من الوبال ، وهو وقوع التعادي والتباغض بين أصحاب الخمر والقمر ، وما يؤديان إليه من الصدّ عن ذكر الله ، وعن مراعاة أوقات الصلوات انتهى .

وفي هذه الآية دليل على تحريم الخمر لما تضمنه الأمر بالاجتناب من الوجوب وتحريم الصدّ ، ولما تقرّر في الشريعة من تحريم قربان الرجس ، فضلاً عن جعله شراباً يشرب . قال أهل العلم من المفسرين وغيرهم : كان تحريم الخمر بتدريج ونوازل كثيرة ، لأنهم كانوا قد ألفوا شربها وحببها الشيطان إلى قلوبهم ، فأوّل ما نزل في أمرها { يَسْألُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِير ومنافع لِلنَّاسِ } فترك عند ذلك بعض من المسلمين شربها ، ولم يتركه آخرون ، ثم نزل قوله تعالى : { لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى } فتركها البعض أيضاً ، وقالوا لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة ، وشربها البعض في غير أوقات الصلاة ، حتى نزلت هذه الآية : { إِنَّمَا الخمر والميسر } فصارت حراماً عليهم ، حتى كان يقول بعضهم ما حرّم الله شيئاً أشدّ من الخمر ، وذلك لما فهموه من التشديد فيما تضمنته هذه الآية من الزواجر ، وفيما جاءت به الأحاديث الصحيحة من الوعيد لشاربها ، وأنها من كبائر الذنوب .

وقد أجمع على ذلك المسلمون إجماعاً لا شك فيه ولا شبهة ، وأجمعوا أيضاً على تحريم بيعها والانتفاع بها ما دامت خمراً ، وكما دلت هذه الآية على تحريم الخمر ، دلت أيضاً على تحريم الميسر ، والأنصاب ، والأزلام . وقد أشارت هذه الآية إلى ما في الخمر والميسر من المفاسد الدنيوية بقوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء } .

/خ93