الأولى : قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا " خطاب لجميع المؤمنين بترك هذه الأشياء ؛ إذا كانت شهوات وعادات تلبسوا بها في الجاهلية وغلبت على النفوس ، فكان نَفِيٌّ{[5903]} منها في نفوس كثير من المؤمنين . قال ابن عطية : ومن هذا القبيل هوى الزجر بالطير ، وأخذ الفأل في الكتب ونحوه مما يصنعه الناس اليوم . وأما الخمر فكانت لم تحرم بعد ، وإنما نزل تحريمها في سنة ثلاث بعد وقعة أحد ، وكانت وقعة أحد في شوال سنة ثلاث من الهجرة . وتقدم اشتقاقها{[5904]} . وأما " الميسر " فقد مضى في " البقرة " {[5905]} القول فيه . وأما الأنصاب فقيل : هي الأصنام . وقيل : هي النرد والشطرنج ، ويأتي بيانهما في سورة " يونس " عند قوله تعالى : " فماذا بعد الحق إلا الضلال{[5906]} " [ يونس : 32 ] . وأما الأزلام فهي القداح ، وقد مضى في أول السورة القول فيها . ويقال كانت في البيت عند سدنة البيت وخدام الأصنام ، يأتي الرجل إذا أراد حاجة فيقبض منها شيئا ، فإن كان عليه أمرني ربي خرج إلى حاجته على ما أحب أو كره .
الثانية : تحريم الخمر كان بتدريج ونوازل كثيرة ، فإنهم كانوا مولعين بشربها ، وأول ما نزل في شأنها " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس{[5907]} " [ البقرة : 219 ] أي في تجارتهم ، فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس وقالوا : لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير ، ولم يتركها بعض الناس وقالوا : نأخذ منفعتها ونترك إثمها فنزلت هذه الآية " لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى{[5908]} " [ النساء : 43 ] فتركها بعض الناس وقالوا : لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة ، وشربها بعض الناس في غير أوقات الصلاة حتى نزلت : " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس " الآية - فصارت حراما عليهم حتى صار يقول بعضهم : ما حرم الله شيئا أشد من الخمر . وقال أبو ميسرة : نزلت بسبب عمر بن الخطاب ، فإنه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم عيوب الخمر ، وما ينزل بالناس من أجلها ، ودعا الله في تحريمها وقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت هذه الآيات ، فقال عمر : انتهينا انتهينا . وقد مضى في " البقرة " {[5909]} و " النساء " {[5910]} . وروى أبو داود عن ابن عباس قال : " يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى " [ النساء : 43 ] ، و " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس " [ البقرة :219 ] نسختها التي في المائدة . " إنما الخمر والميسر والأنصاب " . وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : نزلت في آيات من القرآن ، وفيه قال : وأتيت على نفر من الأنصار ، فقالوا : تعال نطعمك ونسقيك خمرا ، وذلك قبل أن تحرم الخمر ، قال : فأتيتهم في حش - والحش البستان - فإذا رأس جزور مشوي عندهم{[5911]} وزق من خمر ، قال : فأكلت وشربت معهم ، قال : فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم فقلت : المهاجرون خير من الأنصار ، قال : فأخذ رجل لحيي جمل فضربني به فجرح أنفي - وفى رواية ففزره{[5912]} وكان أنف سعد مفزورا فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فأنزل الله تعالى في - يعني نفسه شأن الخمر - " إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه " .
الثالثة : هذه الأحاديث تدل على أن شرب الخمر كان إذ ذاك مباحا معمولا به معروفا عندهم بحيث لا ينكر ولا يغير ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر عليه ، وهذا ما لا خلاف فيه ، يدل عليه آية النساء " لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى " [ النساء : 43 ] على ما تقدم . وهل كان يباح لهم شرب القدر الذي يسكر ؟ حديث حمزة ظاهر فيه حين بقر خواصر ناقتي علي رضي الله عنهما وجب أسنمتهما ، فأخبر علي بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء إلى حمزة ، فصدر عن حمزة للنبي صلى الله عليه وسلم من القول الجافي المخالف لما يجب عليه من احترام النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره وتعزيره ، ما يدل على أن حمزة كان قد ذهب عقله بما يسكر ، ولذلك قال الراوي : فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ثمل ، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على حمزة ولا عنفه ، لا في حال سكره ولا بعد ذلك ، بل رجع لما قال حمزة : وهل أنتم إلا عبيد لأبي على عقبيه القهقري وخرج عنه . وهذا خلاف ما قاله الأصوليون وحكوه فإنهم قالوا : إن السكر حرام في كل شريعة ؛ لأن الشرائع مصالح العباد لا مفاسدهم ، وأصل المصالح العقل ، كما أن أصل المفاسد ذهابه ، فيجب المنع من كل ما يذهبه أو يشوشه ، إلا أنه يحتمل حديث حمزة أنه لم يقصد بشربه السكر لكنه أسرع فيه فغلبه . والله أعلم .
الرابعة : قوله تعالى : " رجس " قال ابن عباس في هذه الآية : ( رجس ) سخط وقد يقال للنتن والعذرة والأقذار رجس . والرجز بالزاي العذاب لا غير ، والركس العذرة لا غير . والرجس يقال للأمرين . ومعنى " من عمل الشيطان " أي بحمله عليه وتزيينه . وقيل : هو الذي كان عمل مبادئ هذه الأمور بنفسه حتى اقتدى به فيها .
الخامسة : قوله تعالى : " فاجتنبوه " يريد ابعدوه واجعلوه ناحية ، فأمر الله تعالى باجتناب هذه الأمور ، واقترنت بصيغة الأمر مع نصوص الأحاديث وإجماع الأمة ، فحصل الاجتناب في جهة التحريم ، فبهذا حرمت الخمر . ولا خلاف بين علماء المسلمين أن سورة " المائدة " نزلت بتحريم الخمر ، وهي مدنية من آخر ما نزل ، وورد التحريم في الميتة والدم ولحم الخنزير في قوله تعالى : " قل لا أجد " {[5913]} وغيرها من الآي خبرا ، وفي الخمر نهيا وزجرا ، وهو أقوى التحريم وأوكده . روى ابن عباس قال : لما نزل تحريم الخمر ، مشى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم إلى بعض ، وقالوا حرمت الخمر ، وجعلت عدلا{[5914]} للشرك ، يعني أنه قرنها بالذبح للأنصاب وذلك شرك . ثم علق " لعلكم تفلحون " فعلق الفلاح بالأمر ، وذلك يدل على تأكيد الوجوب . والله أعلم .
السادسة : فهم الجمهور من تحريم الخمر ، واستخباث الشرع لها ، وإطلاق الرجس عليها ، والأمر باجتنابها ، الحكم بنجاستها . وخالفهم في ذلك ربيعة والليث بن سعد والمزني صاحب الشافعي ، وبعض المتأخرين من البغداديين والقرويين فرأوا أنها طاهرة ، وأن المحرم إنما هو شربها . وقد استدل سعيد بن الحداد القروي على طهارتها بسفكها في طرق المدينة ، قال : ولو كانت نجسة لما فعل ذلك الصحابة رضوان الله عليهم ، ولنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه كما نهى عن التخلي في الطرق . والجواب : أن الصحابة فعلت ذلك ؛ لأنه لم يكن لهم سروب{[5915]} ولا آبار يريقونها فيها ، إذ الغالب من أحوالهم أنهم لم يكن لهم كنف في بيوتهم . وقالت عائشة رضي الله عنها إنهم كانوا يتقذرون من اتخاذ الكنف في البيوت ، ونقلها إلى خارج المدينة فيه كلفة ومشقة ، ويلزم منه تأخير ما وجب على الفور . وأيضا فإنه يمكن التحرز منها ، فإن طرق المدينة كانت واسعة ، ولم تكن الخمر من الكثرة بحيث تصير نهرا يعم الطريق كلها ، بل إنما جرت في مواضع يسيرة يمكن التحرز عنها - هذا - مع ما يحصل في ذلك من فائدة شهرة إراقتها في طرق{[5916]} المدينة ، ليشيع العمل على مقتضى تحريمها من إتلافها ، وأنه لا ينتفع بها ، وتتابع الناس وتوافقوا على ذلك . والله أعلم .
فإن قيل : التنجيس حكم شرعي ولا نص فيه ، ولا يلزم من كون الشيء محرما أن يكون نجسا ، فكم من محرم في الشرع ليس بنجس ؟ قلنا : قوله تعالى : " رجس " يدل على نجاستها ، فإن الرجس في اللسان النجاسة ، ثم لو التزمنا ألا نحكم بحكم حتى نجد فيه نصا لتعطلت الشريعة ، فإن النصوص فيها قليلة ، فأي نص يوجد على تنجيس البول والعذرة والدم والميتة وغير ذلك ؟ وإنما هي الظواهر والعمومات والأقيسة . وسيأتي في سورة " الحج " {[5917]} ما يوضح هذا المعنى إن شاء الله تعالى .
السابعة : قوله : " فاجتنبوه " يقتضي الاجتناب المطلق الذي لا ينتفع معه بشيء بوجه من الوجوه ، لا بشرب ولا بيع ولا تخليل ولا مداواة ولا غير ذلك . وعلى هذا تدل الأحاديث الواردة في الباب . وروى مسلم عن ابن عباس أن رجلا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية{[5918]} خمر ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ هل علمت أن الله حرمها ] قال : لا ، قال : فسار رجلا{[5919]} فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ بم ساررته ] ؟ قال : أمرته ببيعها ، فقال : [ إن الذي حرم شربها حرم بيعها ] ، قال : ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها ، فهذا حديث يدل على ما ذكرناه ؛ إذ لو كان فيها منفعة من المنافع الجائزة لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما قال في الشاة الميتة . [ هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به ] الحديث .
الثامنة : أجمع المسلمون على تحريم بيع الخمر والدم ، وفي ذلك دليل على تحريم بيع العذرات وسائر النجاسات وما لا يحل أكله ؛ ولذلك - والله أعلم - كره مالك بيع زبل الدواب ، ورخص فيه ابن القاسم لما فيه من المنفعة ، والقياس ما قاله مالك ، وهو مذهب الشافعي ، وهذا الحديث شاهد بصحة ذلك .
التاسعة : ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الخمر لا يجوز تخليلها لأحد ، ولو جاز تخليلها ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع الرجل أن يفتح المزادة{[5920]} حتى يذهب ما فيها ؛ لأن الخل مال وقد نهى عن إضاعة المال ، ولا يقول أحد فيمن أراق خمرا على مسلم أنه أتلف له مالا . وقد أراق عثمان بن أبي العاص خمرا ليتيم ، واستؤذن صلى الله عليه وسلم في تخليلها فقال : [ لا ] ونهى عن ذلك . ذهب إلى هذا طائفة من العلماء من أهل الحديث والرأي ، وإليه مال سحنون بن سعيد . وقال آخرون : لا بأس بتخليل الخمر ولا بأس بأكل ما تخلل منها بمعالجة آدمي{[5921]} أو غيرها ، وهو قول الثوري والأوزاعي والليث بن مسعد والكوفيين . وقال أبو حنيفة : إن طرح فيها المسك والملح فصارت مربى وتحولت عن حال الخمر جاز . وخالفه محمد بن الحسن في المربى وقال : لا تعالج الخمر بغير تحويلها إلى الخل وحده . قال أبو عمر : احتج العراقيون في تخليل الخمر بأبي الدرداء ، وهو يروي عن أبي إدريس الخولاني عن أبي الدرداء من وجه ليس بالقوي أنه كان يأكل المربى منه ، ويقول : دبغته الشمس والملح . وخالفه عمر بن الخطاب وعثمان بن أبي العاص في تخليل الخمر ، وليس في رأي أحد حجة مع السنة . وبالله التوفيق . وقد يحتمل أن يكون المنع من تخليلها كان في بدء الإسلام عند نزول تحريمها ؛ لئلا يستدام حبسها لقرب العهد بشربها ، إرادة لقطع العادة في ذلك . وإذا كان كذلك لم يكن في النهي عن تخليلها حينئذ ، والأمر بإراقتها ما يمنع من أكلها إذا خللت . وروى أشهب عن مالك قال : إذا خلل النصراني خمرا فلا بأس بأكله ، وكذلك إن خللها مسلم واستغفر الله ، وهذه الرواية ذكرها ابن عبدالحكم في كتابه . والصحيح ما قاله مالك في رواية ابن القاسم وابن وهب أنه لا يحل لمسلم أن يعالج الخمر حتى يجعلها خلا ولا يبيعها ، ولكن ليهريقها .
العاشرة : لم يختلف قول مالك وأصحابه أن الخمر إذا تخللت بذاتها أن أكل ذلك الخل حلال . وهو قول عمر بن الخطاب وقبيصة وابن شهاب ، وربيعة وأحد قولي الشافعي ، وهو تحصيل مذهبه عند أكثر أصحابه .
الحادية عشرة : ذكر ابن خويز منداد أنها تملك ، ونزع إلى ذلك بأنه يمكن أن يزال بها الغصص ، ويطفأ بها حريق ، وهذا نقل لا يعرف لمالك ، بل يخرج هذا على قول من يرى أنها طاهرة . ولو جاز ملكها لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإراقتها . وأيضا فإن الملك نوع نفع وقد بطل بإراقتها . والحمد لله .
الثانية عشرة : هذه الآية تدل على تحريم اللعب بالنرد والشطرنج قمارا أو غير قمار ؛ لأن الله تعالى لما حرم الخمر أخبر بالمعنى الذي فيها فقال : " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر " الآية . ثم قال : " إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء " الآية . فكل لهو دعا قليله إلى كثير ، وأوقع العداوة والبغضاء بين العاكفين عليه ، وصد عن ذكر الله وعن الصلاة فهو كشرب الخمر ، وأوجب أن يكون حراما مثله . فإن قيل : إن شرب الخمر يورث السكر فلا يقدر معه على الصلاة وليس في اللعب بالنرد والشطرنج هذا المعنى ، قيل له : قد جمع الله تعالى بين الخمر والميسر في التحريم ، ووصفهما جميعا بأنهما يوقعان العداوة والبغضاء بين الناس ويصدان عن ذكر الله وعن الصلاة ، ومعلوم أن الخمر إن أسكرت فالميسر لا يسكر ، ثم لم يكن عند الله افتراقهما في ذلك يمنع من التسوية بينهما في التحريم لأجل ما اشتركا فيه من المعاني . وأيضا فإن قليل الخمر لا يسكر كما أن اللعب بالنرد والشطرنج لا يسكر ، ثم كان حراما مثل الكثير ، فلا ينكر أن يكون اللعب بالنرد والشطرنج حراما مثل الخمر وإن كان لا يسكر . وأيضا فإن ابتداء اللعب يورث الغفلة ، فتقوم تلك الغفلة المستولية على القلب مكان السكر{[5922]} ؛ فإن كانت الخمر إنما حرمت لأنها تسكر فتصد بالإسكار عن الصلاة ، فليحرم اللعب بالنرد والشطرنج لأنه يغفل ويلهي فيصد بذلك عن الصلاة . والله أعلم .
الثالثة عشرة : مُهدى الراوية{[5923]} يدل على أنه كان لم يبلغه الناسخ ، وكان متمسكا بالإباحة المتقدمة ، فكان ذلك دليلا على أن الحكم لا يرتفع بوجود الناسخ - كما يقول بعض الأصوليين - بل ببلوغه كما دل عليه هذا الحديث ، وهو الصحيح ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوبخه ، بل بين له الحكم ؛ ولأنه مخاطب بالعمل بالأول بحيث لو تركه عصى بلا خلاف ، وإن كان الناسخ قد حصل في الوجود ، وذلك كما وقع لأهل قباء{[5924]} ؛ إذ كانوا يصلون إلى بيت المقدس إلى أن أتاهم الآتي فأخبرهم بالناسخ ، فمالوا نحو الكعبة . وقد تقدم في سورة ( البقرة ){[5925]} والحمد لله . وتقدم فيها ذكر الخمر واشتقاقها والميسر{[5926]} . وقد مضى في صدر هذه السورة القول ، في الأنصاب{[5927]} والأزلام . والحمد لله .