البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (90)

الرّجس اسم لكل ما يستقذر من عمل ، يقال : رجس الرجل يرجس رجساً إذا عمل عملاً قبيحاً ، وأصله من الرجس ، وهو شدّة الصوت بالرّعد ؛ قال الراجز :

مِنْ كلّ رجاس يسوق الرّجسا *** وقال ابن دريد : الرجز الشر ، والرجز العذاب ، والركس العذَرة والنتن ، والرجس يقال للأمرين .

{ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون } نزلت بسبب قصة سعد بن أبي وقاص حين شرب طائفة من الأنصار والمهاجرين فتفاخروا ، فقال سعد : المهاجرون خير فرماه أنصاري بلحي جمل ففزر أنفه ، وقيل بسبب قول عمر اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً ، وقيل بسبب قصة حمزة وعليّ حين عقر شارف عليّ وقال : هل أنتم إلا عبيد لأبي وهي قصة طويلة ، وقيل كان أمر الخمر ونزول الآيات بتدريج ، فنزل { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } وقيل بسبب قراءة بعض الصحابة وكان منتشياً في صلاة المغرب { قل يا أيها الكافرون } على غير ما أنزلت ، ثم عرض ما عرض بسبب شربها من الأمور المؤدّية إلى تحريمها حتى نزلت هذه الآية ، وقال ابن عباس : نزلت بسبب حيين من الأنصار ثملوا وعربدوا فلما صحوا جعل كل واحد يرى أثراً بوجهه وبجسده فيقول : هذا فعل فلان ، فحدثت بينهم ضغائن ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما أمر تعالى بأكل ما رزقهم حلالاً طيباً ونهاهم عن تحريم ما أحله لهم مما لا إثم فيه وكان المستطاب المستلذ عندهم الخمر والميسر وكانوا يقولون الخمر تطرد الهموم وتنشط النفس وتشجع الجبان وتبعث على المكارم ، والميسر يحصل به تنمية المال ولذة الغلبة بيَّن تعالى تحريم الخمر والميسر لأن هذه اللذة يقارنها مفاسد عظيمة في الخمر إذهاب العقل وإتلاف المال ولذلك ذم بعض حكماء الجاهلية إتلاف المال بها وجعل ترك ذلك مدحاً فقال :

أخي ثقة لا تتلف الخمر ماله *** ولكنه قد يهلك المال نائله

وتنشأ عنها مفاسد أخر من قتل النفس وشدّة البغضاء وارتكاب المعاصي لأن ملاك هذه كلها العقل فإذا ذهب العقل أتت هذه المفاسد ، والميسر فيه أخذ المال بالباطل ، وهذا الخطاب للمؤمنين والذي منعوا منه في هذه الآية هي شهوات وعادات ، فأما الخمر فكانت لم تحرم بعد وإنما نزل تحريمها بعد وقعة أحد سنة ثلاث من الهجرة ، وأما الميسر ففيه لذة وغلبة ، وأما الأنصاب فإن كانت الحجارة التي يذبحون عندها وينحرون فحكم عليها بالرجس دفعاً لما عسى أن يبقى في قلب ضعيف الإيمان من تعظيمها وإن كانت الأنصاب التي تعبد من دون الله فقرنت الثلاثة بها مبالغة في أنه يجب اجتنابها كما يجب اجتناب الأصنام ، وأما الأزلام التي كان الأكثرون يتخذونها في أحدها لا وفي الآخر نعم ، والآخر غفل وكانوا يعظمونها ومنها ما يكون عند الكهان ومنها ما يكون عند قريش في الكعبة وكان فيها أحكام لهم ، ومن هذا القبيل الزجر بالطير وبالوحش وبأخذ الفأل في الكتب ، ونحوه مما يصنعه الناس اليوم وقد اجتمعت أنواع من التأكيد في الآية منها التصدير بإنما وقران الخمر والميسر بالأصنام إذا فسرنا الأنصاب بها وفي الحديث « مدمن الخمر كعابد وثن » والإخبار عنها بقوله رجس وقال تعالى : { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } ووصفه بأنه من عمل الشيطان والشيطان لا يأتي منه إلا الشر البحت ، والأمر بالاجتناب وترجية الفلاح وهو الفوز باجتنابه فالخيبة في ارتكابه ، وبدىء بالخمر لأن سبب النزول إنما وقع بها من الفساد ولأنها جماع الإثم .

وكانت خمر المدينة حين نزولها الغالب عليها كونها من العسل ومن التمر ومن الزبيب ومن الحنطة ومن الشعير وكانت قليلة من العنب ، وقد أجمع المسلمون على تحريم القليل والكثير من خمر العنب التي لم تمسها نار ولا خالطها شيء والأكثر من الأمة على أن ما أسكر كثيره فقليه حرام ، والخلاف فيما لا يسكر قليه ويسكر كثيره من غير خمر العنب مذكور في كتب الفقه ، قال ابن عطية : وقد خرّج قوم تحريم الخمر من وصفها برجس ، وقد وصف تعالى في آية أخرى الميتة والدم ولحم الخنزير بأنها رجس فيجيء من ذلك أن كل رجس حرام وفي هذا نظر والاجتناب أن تجعل الشيء جانباً وناحية انتهى .

ولما كان الشيطان هو الداعي إلى التلبس بهذه المعاصي والمغري بها جعلت من عمله وفعله ونسبت إليه على جهة المجاز والمبالغة في كمال تقبيحه كما جاء { فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان } والضمير في { فاجتنبوه } عائد على الرجس المخبر عنه من الأربعة فكان الأمر باجتنابه متناولاً لها ، وقال الزمخشري ( فإن قلت ) إلامَ يرجع الضمير في قوله { فاجتنبوه } ( قلت ) إلى المضاف المحذوف كأنه قيل إنما شأن الخمر والميسر أو تعاطيهما أو ما أشبه ذلك ولذلك قال رجس من عمل الشيطان انتهى ، ولا حاجة إلى تقدير هذا المضاف بل الحكم على هذه الأربعة أنفسها أنها رجس أبلغ من تقدير ذلك المضاف لقوله تعالى : { إنما المشركون نجس }