التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (90)

قوله تعالى : { يأيها الذين ءامنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلجون ( 90 ) إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ( 91 ) وأطيعوا الله وطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا المبين } روى الإمام أحمد في سبب نزول هذه الآية عن عمر بن الخطاب أنه قال : لما نزل تحريم الخمر قال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في البقرة { يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير } فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا . فنزلت الآية في سورة النساء { يا أيها الذين ءامنوا لا تقربوا الصلاة وأنت سكارى } فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا . فنزلت الآية التي في المائدة ، فدعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ قول الله تعالى { فهل أنتم منتهون } قال عمر : انتهينا . وقيل في أسباب نزول الآية أقوال أخرى{[1060]} .

والخمر في اللغة يذكر ويؤنث فيقال : هو الخمر ، أو هي الخمر . وهي اسم لكل مسكر خامر العقل أي ستره وغطاه . نقول : اختمرت الخمر أي أدركت وغلت . وخمرت الشيء تخميرا أي غطيته وسترته . والخمار ما يغطي رأس المرأة . والخمرة من المخامرة أي المخالطة{[1061]} .

والخمرة واحدة من كبريات المعاصي والذنوب التي ندد بها الإسلام تنديدا وشدد عليها التشنيع والنكير . فهي أم الخبائث ومثار الخطايا والموبقات . إذ تصير بالعقل إلى الزوال لينفلت السكران بذلك من ربقة الوعي والإدراك والضبط فيتيه في عمه واضطراب وتخبط ، وهو يغمره الهذيان والحماقة . ذلك هو السكران المألوف المستخف الذي استهوته الخمرة فأسلس لها القياد فمضى تائها في زمرة المخمورين والمخبولين .

وفي التحذير من شرب الخمر يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة لا ينظر إليهم يوم القيامة : العاق لوالديه والمدمن الخمر والمنان بما أعطى " رواه النسائي عن عمر بن محمد بن محمد العمري .

وروى أحمد عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يدخل الجنة منان ولا عاق ولا مدمن خمر " .

وروى ابن ماجه عن أبي الدرداء قال : أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم " لا تشرب الخمر فإنها مفتاح كل شر " .

وروى ابن ماجه أيضاً عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مدمن الخمر كعابد وثن " .

وكذلك روى ابن ماجه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لعنت الخمر على عشرة أوجه : بعينها وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومبتاعها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها وشاربها وساقيها " .

ماهية الخمر

ثمة تفصيل للعلماء في ماهية الخمرة التي حرمتها الشريعة بل أوجبت في حق شاربها الحد . والخمر هو العصير من العنب وغيره من الأشربة إذا طبخ واشتد وقذف زبده لصيرورته مسكراً .

على أن المجمع علي تحريمه هو عصير العنب إذا اشتد وقذف زبده ، فهو حرام قليله وكثيره . أما ما عداه من الأشربة المسكرة فهو كذلك محرم عند أكثر العلماء سواء ما كان منه قليلاً أو كثيراً ، مصنوعاً من العنب أو غيره من سائر العصارات ، فمادام فيه علة الإسكار فهو حرام . وقد روي تحريم ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة وسعد بن أبي وقاص ، وعائشة وأنس رضي الله عنهم . وقال به عطاء وطاووس وقتادة وعمر بن عبد العزيز . وهو قول الجمهور من المذاهب الفقهية . إذ قالت المالكية والشافعية والحنبلية والظاهرية وغيرهم من أهل العلم( {[1062]} ) واحتجوا بأدلة كثيرة منها قوله تعالى : } إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ } واسم الخمر في هذه الآية يدل بعمومه على كل مسكر كيفما كان أصله ، ما قل منه أو كثر ، فهو حرام منهي عنه ومأمور باجتنابه ؛ لأنه رجس من عمل الشيطان .

واحتجوا من السنة بجملة أخبار منها ما أخرجه مسلم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كل مسكر خمر وكل خمر حرام " ولفظ كل من ألفاظ الاستغراق ، لتشمل بذلك كل أصناف الأشربة المسكرة .

وأخرج ابن ماجه عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل مسكر حرام ، وما أسكر كثيره فقليله حرام " .

وأخرج ابن ماجه أيضاً عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما أسكر كثيره فقليله حرام " .

وأخرج مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن شراب يشربه أهل اليمن من الذرة يقال له " المزر " فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أو مسكر هو ؟ " قال : نعم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل مسكر حرام إن على الله عز وجل عهداً لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال " قالوا : وما طينة الخبال ؟ قال : " عرق أهل النار أو عصارة أهل النار " .

وأخرج مسلم أيضاً عن أبي موسى الأشعري قال : بعثني النبي صلى الله عليه وسلم أنا ومعاذ بن جبل إلى اليمن فقلت : يا رسول الله إن شراباً يصنع بأرضنا ( اليمن ) يقال له المزر من الشعير وشراب يقال له البتع من العسل فقال : " كل مسكر حرام " .

إلى غير ذلك من الأخبار والآثار مما يدل على تحريم كل شراب مسكر ما قل منه أو كثر سواء كان مصنوعاً من العنب أو غيره .

قول الحنفية في المسألة

لا يختلف علماء المذهب الحنفي عن غيرهم في تحريم كل مسكر من العنب ما قل منه أو كثر . لكنهم يخالفون جماهير العلماء في تحريم الأشربة أو العصارات من غير العنب ، إذ قالوا ( الحنفية ) : ما كان من عصارات من غير العنب لا يحرم إلا إذا أسكر فإن أسكر بات حراماً . وبذلك فإن الأشربة من الحنطة والذرة والشعير وغير ذلك مما سوى العنب فهو كله حلال إلا ما بلغ السكر . واحتجوا بعدة أخبار أو آثار . منها ما أخرجه أبو حنيفة في مسنده عن ابن عباس قال : " حرمت الخمر قليلها وكثيرها وما بلغ السكر من كل شراب " .

ومنها ما أخرجه البيهقي عن عائشة قالت : " اشربوا ولا تسكروا " .

ومنها ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الخمر من هاتين الشجرتين : النخلة والعنبة " وفي رواية " الخمر من هاتين الشجرتين : الكرمة والنخلة " فيستفاد من ذلك أن ما سوى عصير العنب ليس حراماً شربه إلا إذا بلغ السكر . وهو ما نظنه قولاً مرجوحاً فلا ينبغي الركون إليه لاستناده إلى أدلة طعن فيها كثير من العلماء لضعفها واضطرابها . وبذلك فإن سائر الخمور حرام مهما كان مصدرها سواء كانت من العنب أو العسل أو التمر أو الشعير أو غير ذلك من عصارات الفواكه . فما صار من العصارات مسكراً فهو حرام قليله وكثيره . وليس أدل على ذلك من حديث ابن ماجه " إن من الحنطة خمراً ، ومن الشعير خمراً ، ومن الزبيب خمراً ، ومن التمر خمراً ، ومن العسل خمراً " .

وقوله عليه الصلاة والسلام : " كل شراب أسكر فهو حرام " .

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " ما أسكر كثيره فقليله حرام " .

ويعزز ذلك أيضاً قول عمر رضي الله عنه في تعريف الخمر : " الخمر ما خامر العقل " والمخامرة تعني المخالطة والستر . فكل ما خالط العقل وستره من المسكرات سمي خمراً فهو بذلك حرام .

ولو تحولت الخمر بنفسها إلى خل فقد طهرت وحل أكلها بغير خلاف .

ولا يجوز تخليلها ، أي تصييرها خلاًّ بالمعالجة . وهو قول الجمهور من العلماء .

ودليل ذلك ما رواه أبو سعيد قال : كان عندنا خمر ليتيم فلما نزلت المائدة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله إنه ليتيم ؟ قال : " أهرقوه " رواه الترمذي .

وروى مسلم عن أنس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنتخذ الخمر خلاًّ . قال : " لا " .

وروى أبو داود عن طلحة أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمراً ؟ فقال : " أهرقها " قال : أفلا أخللها ؟ قال : " لا " وهذا نهي يقتضي التحريم . ولو جاز استصلاحها بالمعالجة لما جازت إراقتها لكونها بالاستصلاح مالاً . وهو لا يجوز إتلافه . فدل ذلك على أنها لا تصير بالمعالجة حلالاً .

ولو نقلت الخمر من شمس إلى ظل أو من ظل إلى شمس فتخللت من غير أن يلقي فيها شيئاً ففي إباحتها عند الشافعية والحنبلية قولان .

وذهب آخرون إلى أن الخمر تطهر إذا تخللت بالمعالجة . وهو قول الحنفية والثوري والأوزاعي والليث بن سعد ؛ وذلك لأن علة تحريمها قد زالت بتخليلها فطهرت كما لو تخللت بنفسها( {[1063]} ) .

قوله : { وَالمَيْسِرُ } عطف على الخمر . والميسر معناه القمار . وهو من اليسر بفتح الباء ، وهو اللعب بالقداح للقمار . والياسر الذي يلعب بالقداح . والياسرون الذين يتقامرون . واشتق الميسر من اليسر ؛ لأنه أخذ للمال من الرجل بيسر وسهولة . وبذلك فإن المقصود بالميسر : القمار . وهو المخاطرة بين اثنين على مال أو غيره . فأيهما قمر صاحبه أخذ ماله( {[1064]} ) .

والميسر أو القمار واحد من الأساليب الخسيسة لكسب المال حراماً . فأيما مال اكتُسب عن طريق الميسر أو المقامرة فهو حرام لا يحل لآخذه . بل إنه من جملة السحت الذي يمحق البركة من عيش المتقامرين وحياتهم ثم يفضي بهم إلى عذاب الله .

وضروب الميسر كثيرة ومختلفة ، منها اللعب بالنرد أو القداح أو الكعاب المصنوعة من الحجارة وغيرها . وكذا الشطرنج إن كان للمقامرة على المال . وغير ذلك من صور القمار أو الميسر . فهو اسم يجمع كل أنواع القمار . قال ابن سيرين ومجاهد وعطاء في ذلك : كل شيء فيه خطر فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالكعاب والجوز . والخطر ، معناه السبق الذي يتراهن عليه . نقول أخطرت المال إخطاراً أي جعلته خطراً بين المتراهنين . وخاطرته على مال ، أي راهنته عليه .

أما الشطرنج ففيه تفصيل . فقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : النرد والشطرنج من الميسر . وقال الشافعي رحمه الله : إذا خلا الشطرنج عن الرهان واللسان عن الطغيان ، والصلاة عن النسيان لم يكن حراماً ، وهو خارج عن الميسر ، لأن الميسر ما يوجب دفع المال أو مال . وهذا ليس كذلك فلا يكون قماراً ولا ميسراً .

وقيل : اللعب بالنرد والشطرنج حرام ، قماراً أو غير قمار . لأن الله قرن مطلق الميسر بالخمر وهي محرمة . وكذلك فإن اللعب بالشطرنج كالميسر في إلهائه اللاعبين به . إذ يشغل أذهانهم وبالهم ويلهيهم عن ذكر الله وعن الصلاة . وهو الظاهر من مذهب المالكية . قال الإمام في ذلك : الميسر ميسران : ميسر اللهو وميسر القمار . فمن ميسر اللهو : النرد والشطرنج والملاهي كلها . وميسر القمار ، ما يتخاطر الناس عليه وكل ما قومر به فهو ميسر( {[1065]} ) .

قوله : { وَالأَنْصَابُ } جمع ومفرده النصب بسكون الصاد وضمها( {[1066]} ) والأنصاب هي الأصنام المنصوبة للعبادة . والفرق بينها وبين الأصنام أن الأنصاب حجارة غير مصورة كانوا يقصدونها للعبادة ويذبحون عندها . أما الأصنام فهي ما صور وعبد من دون الله .

قوله : { وَالأَزْلاَمُ } مفرده زلم بالتحريك . ويراد بها القداح أو السهام التي كانوا يستقسمون بها في الجاهلية( {[1067]} ) .

قوله : { رِجْسٌ } أي قذر تعاف منه النفوس وتشمئز منه الطبائع السليمة . أو هو ما استقذر من عمل قبيح . ويقال للنتن والعذرة رجس .

قوله : { مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } في محل رفع صفة لرجس . أي أن هذا الرجس سببه تزيين الشيطان وتسويله لابن آدم ، فهو الذي يحمله على فعله .

قوله : { فَاجْتَنِبُوهُ } أي اتركوه وارفضوه . أو اجعلوه جانباً . أو كونوا جانباً منه . وفي ذلك إيحاء بشدة النهي والتحريم ؛ لأن الأمر بالاجتناب يتضمن تكليفاً جازماً بالابتعاد عن هذه المذكورات ومجانبتها وعن مجرد الاقتراب منها لأجل مسها أو حملها .

والضمير في اجتنبوه ، يعود على الرجس . والرجس واقع على الأربعة المذكورة المنهي عنها وهي الخمر والميسر والأنصاب والأزلام .

وقيل : عائد على الشيطان الذي يزين للناس فعل هذه المنكرات . قوله : { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } لكي تدركوا النجاح والنجاة فتفوزوا عند ربكم بترككم هذه المعاصي والمنكرات واجتنابها .


[1060]:- تفسير ابن كثير ج 2 ص 92 وأسباب النزول للنيسابوري ص 138- 140.
[1061]:- لسان العرب ج 4 ص 254- 257.
[1062]:- المغني ج8 ص305 والمهذب ج2 ص286 وحاشية الخرشي ج8 ص108 وبداية المجتهد ج2 ص405 والمحلى ج11 ص374.
[1063]:- المغني ج8 ص319 – 321 وبداية المجتهد ج1 ص407 – 409 وتفسير القرطبي ج6 ص290.
[1064]:- لسان العرب ج5 ص298.
[1065]:- فتح القدير ج1 ص220 وتفسير القرطبي ج6 ص291، وتفسير الطبري ج7 ص21.
[1066]:- مختار الصحاح ص661.
[1067]:- القاموس المحيط ج4 ص127 وتفسير النسفي ج1 ص300.