الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (90)

أخرج أحمد عن أبي هريرة قال « حرمت الخمر ثلاث مرات ، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يشربون الخمر ، ويأكلون الميسر ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما ؟ فأنزل الله { يسألونك عن الخمر والميسر } [ البقرة : 219 ] الآية . فقال الناس ما حرم علينا ، إنما قال إثم كبير ، وكانوا يشربون الخمر حتى كان يوم من الأيام صلى رجل من المهاجرين ، أمّ أصحابه في المغرب ، خلط في قراءته ، فأنزل الله أغلظ منها { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } [ النساء : 43 ] وكان الناس يشربون حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مغتبق ، ثم نزلت آية أغلظ من ذلك { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر } إلى قوله { فهل أنتم منتهون } قالوا : انتهينا ربنا ، فقال الناس : يا رسول الله ناس قتلوا في سبيل الله وماتوا على فرشهم كانوا يشربون الخمر ، ويأكلون الميسر ، وقد جعله الله رجساً من عمل الشيطان ؟ فأنزل الله { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح } إلى آخر الآية . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لو حرم عليهم لتركوه كما تركتم " .

وأخرج الطيالسي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر قال : " نزل في الخمر ثلاث آيات ، فأوّل شيء نزل { يسألونك عن الخمر والميسر } [ البقرة : 219 ] الآية . فقيل حرمت الخمر فقالوا : يا رسول الله دعنا ننتفع بها كما قال الله ، فسكت عنهم . ثم نزلت هذه الآية { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } [ النساء : 43 ] فقيل : حرمت الخمر . فقالوا : يا رسول الله لا نشربها قرب الصلاة ، فسكت عنهم ، ثم نزلت { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر . . . } الآية . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حرمت الخمر " .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والنحاس في ناسخه عن سعد بن أبي وقاص قال : " فيَّ نزل تحريم الخمر ، صنع رجل من الأنصار طعاماً ، فدعانا فأتاه ناس ، فأكلوا وشربوا حتى انتشوا من الخمر . وذلك قبل أن تحرم الخمر . فتفاخروا فقالت الأنصار : الأنصار خير وقالت قريش : قريش خير . فأهوى رجل بلحي جزور فضرب على أنفي ففزره ، فكان سعد مفزور الأنف ، قال : فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكرت ذلك له ، فنزلت هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر } إلى آخر الآية " .

وأخرج ابن جرير من طريق ابن شهاب أن سالم بن عبد الله حدثه . أن أول ما حرمت الخمر أن سعد بن أبي وقاص وأصحاباً له شربوا فاقتتلوا فكسروا أنف سعد ، فأنزل الله { إنما الخمر والميسر . . . } الآية .

وأخرج الطبراني عن سعد بن أبي وقاص قال « نزلت فيَّ ثلاث آيات من كتاب الله نزل تحريم الخمر ، نادمت رجلاً فعارضته وعارضني ، فعربدت عليه فشججته ، فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر } إلى قوله { فهل أنتم منتهون } ونزلت فيَّ { ووصينا الإنسان بوالديه حسناً } [ العنكبوت : 8 ] حملته أمه كرهاً إلى آخر الآية ونزلت { يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } [ المجادلة : 12 ] فقدمت شعيرة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك لزهيد ، فنزلت الآية الأخرى { أأشفقتم أن تقدموا . . . } [ المجادلة : 13 ] الآية » .

وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار ، شربوا فلما أن ثمل القوم عبث بعضهم ببعض ، فلما أن صحوا جعل يرى الرجل منهم الأثر بوجهه وبرأسه ولحيته ، فيقول : صنع بي هذا أخي فلان ، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن ، والله لو كان بي رؤوفاً ما صنع بي هذا ، حتى وقعت الضغائن في قلوبهم ، فأنزل الله هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر } إلى قوله { فهل أنتم منتهون } فقال ناس من المتكلفين : هي رجس ، وهي في بطن فلان قتل يوم بدر ، وفلان قتل يوم أحد ، فأنزل الله هذه الآية { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } الآية .

وأخرج ابن جرير عن بريدة قال « بينما نحن قعود على شراب لنا ونحن نشرب الخمر جلاء ، إذ قمت حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأسلم عليه وقد نزل تحريم الخمر { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر } إلى قوله { منتهون } فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم ، قال : وبعض القوم شربته في يده قد شرب بعضاً وبقي بعض في الإناء ، فقال بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجام ، ثم صبوا ما في باطيتهم ، فقالوا : انتهينا ربنا » .

وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال « يا أهل المدينة إن الله يعرض عن الخمر تعريضاً لا أدري لعله سينزل فيها أمر ، ثم قام فقال : يا أهل المدينة إن الله قد أنزل إليَّ تحريم الخمر ، فمن كتب منكم هذه الآية وعنده منها شيء فلا يشربها » .

وأخرج ابن سعد عن عبد الرحمن بن سابط قال : زعموا أن عثمان بن مظعون حرم الخمر في الجاهلية ، وقال : لا أشرب شيئاً يذهب عقلي ، ويضحك بي من هو أدنى مني ، ويحملني على أن أنكح كريمتي من لا أريد ، فنزلت هذه الآية في سورة المائدة في الخمر ، فمر عليَّ رجل فقال : حرمت الخمر ، وتلا هذه الآية فقال : تباً لها قد كان بصري فيها ثابتاً .

وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال « لما نزلت في البقرة { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس } [ البقرة : 219 ] شربها قوم لقوله منافع للناس وتركها قوم لقوله إثم كبير منهم عثمان بن مظعون ، حتى نزلت الآية التي في النساء { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } [ النساء : 43 ] فتركها قوم وشربها قوم ، يتركونها بالنهار حين الصلاة ويشربونها بالليل ، حتى نزلت الآية التي في المائدة { إنما الخمر والميسر . . . } الآية . قال عمر : أقرنت بالميسر والأنصاب والأزلام بعداً لك وسحقاً ، فتركها الناس ووقع في صدور أناس من الناس منها ، فجعل قوم يمر بالراوية من الخمر فتخرق فيمر بها أصحابها فيقولون : قد كنا نكرمك عن هذا المصرع ، وقالوا : ما حرم علينا شيء أشد من الخمر ، حتى جعل الرجل يلقى صاحبه فيقول : إن في نفسي شيئاً . فيقول له صاحبه : لعلك تذكر الخمر . فيقول : نعم . فيقول : إن في نفسي مثل ما في نفسك ، حتى ذكر ذلك قوم واجتمعوا فيه فقالوا : كيف نتكلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد ، وخافوا أن ينزل فيهم ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أعدوا له حجة ، فقالوا : أرأيت حمزة بن عبد المطلب ، ومصعب بن عمير ، وعبد الله بن جحش أليسوا في الجنة ؟ قال : بلى . قالوا : أليسوا قد مضوا وهم يشربون الخمر ؟ فحرم علينا شيء دخلوا الجنة وهم يشربونه . فقال : قد سمع الله ما قلتم ، فإن شاء أجابكم ، فأنزل الله { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون } قالوا : انتهينا ، ونزل في الذين ذكروا حمزة وأصحابه { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جُناح فيما طعموا . . . } الآية » .

وأخرج عبد بن حميد عن قتادة { يسألونك عن الخمر والميسر } قال : الميسر . هو القمار كله { قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس } قال : فذمهما ولم يحرمهما وهي لهم حلال يومئذ ، ثم أنزل هذه الآية في شأن الخمر وهي أشد منها فقال { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } [ النساء : 43 ] فكان السكر منها حراماً ، ثم أنزل الآية التي في المائدة { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام . . . } إلى قوله { فهل أنتم منتهون } فجاء تحريمها في هذه الآية ، قليلها وكثيرها ، ما أسكر منها وما لم يسكر .

وأخرج عبد بن حميد عن عطاء قال : أول ما نزل تحريم الخمر { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير . . . } [ البقرة : 219 ] الآية . فقال بعض الناس : نشربها لمنافعها التي فيها ، وقال آخرون لا خير في شيء فيه إثم ، ثم نزلت { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } [ النساء : 43 ] الآية . فقال بعض الناس : نشربها ونجلس في بيوتنا ، وقال آخرون : لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة مع المسلمين ، فنزلت { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر . . . } الآية . فانتهوا فنهاهم فانتهوا .

وأخرج عبد بن حميد « عن قتادة في قوله { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } [ النساء : 43 ] قال : كان القوم يشربونها حتى إذا حضرت الصلاة أمسكوا عنها قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال حين أنزلت هذه الآية : قد تقرَّب الله في تحريم الخمر ، ثم حرمها بعد ذلك في سورة المائدة بعد غزوة الأحزاب ، وعلم أنها تسفِّه الأحلام ، وتجهد الأموال ، وتشغل عن ذكر الله وعن الصلاة » .