{ ومن الناس من يعجبك قوله } يروقك ويعظم في نفسك ، والتعجب : حيرة تعرض للإنسان لجهله بسبب المتعجب منه . { في الحياة الدنيا } متعلق بالقول ، أي ما يقوله في أمور الدنيا وأسباب المعاش ، أو في معنى الدنيا فإنها مراد من ادعاء المحبة وإظهار الإيمان ، أو يعجبك أي يعجبك قوله في الدنيا حلاوة وفصاحة ولا يعجبك في الآخرة لما يعتريه من الدهشة والحبسة ، أو لأنه لا يؤذن له في الكلام . { ويشهد الله على ما في قلبه } يحلف ويستشهد الله على أن ما في قلبه موافق لكلامه . { وهو ألد الخصام } شديد العداوة والجدال للمسلمين ، والخصام المخاصمة ويجوز أن يكون جمع خصم كصعب وصعاب بمعنى أشد الخصوم خصومة قيل نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي وكان حسن المنظر حلو المنطق يوالي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدعي الإسلام . وقيل في المنافقين كلهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذا نعت من الله تبارك وتعالى للمنافقين، يقول جل ثناؤه: ومن الناس من يعجبك يا محمد ظاهر قوله وعلانيته، ويستشهد الله على ما في قلبه، وهو ألدّ الخصام، جَدِلٌ بالباطل.
ثم اختلف أهل التأويل فيمن نزلت فيه هذه الآية؛ قال بعضهم: نزلت في الأخنس بن شريق، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزعم أنه يريد الإسلام، وحلف أنه ما قدم إلا لذلك، ثم خرج فأفسد أموالاً من أموال المسلمين... وأما ألدّ الخصام: فأعوج الخصام، وفيه نزل:"وَيْلٌ لِكُلّ هُمَزَة لُمَزَة" ونزلت فيه: "وَلاَ تُطِعْ كُلّ حَلاّفٍ مَهِينٍ "إلى "عُتُلّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيم".
وقال آخرون: بل نزل ذلك في قوم من أهل النفاق تكلموا في السرية التي أصيبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرّجيع... عن ابن عباس، قال: لما أصيبت هذه السرية أصحاب خبيب بالرجيع بين مكة والمدينة، فقال رجال من المنافقين: يا ويح هؤلاء المقتولين الذين هلكوا هكذا، لا هم قعدوا في بيوتهم، ولا هم أدّوا رسالة صاحبهم، فأنزل الله عز وجل في ذلك من قول المنافقين، وما أصاب أولئك النفر في الشهادة والخير من الله: "وَمِن النّاسِ مَنْ يَعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحيَاة الدّنيا" أي ما يظهر بلسانه من الإسلام "وَيُشُهِدُ اللّهَ على ما فِي قَلْبِهِ" أي من النفاق "وَهُوَ ألدّ الِخصَامِ" أي ذو جدال إذا كلمك وراجعك، "وإذَا تَوَلّى" أي خرج من عندك "سَعَى فِي الأرْض لَيُفْسدَ فيها ويُهلِك الحَرْثَ وَالنّسْلَ وَاللّهُ لا يُحِبّ الفَسَادَ" أي لا يحبّ عمله ولا يرضاه، "وَإذَا قِيلَ لَهُ اتّقِ اللّهَ أخَذَتْهُ العِزّةُ بالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنّمُ وَلَبِئْسَ المِهادُ وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابُتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ" الذين شروا أنفسهم لله بالجهاد في سبيل الله والقيام بحقه حتى هلكوا على ذلك يعني هذه السرية.
وقال آخرون: بل عنى بذلك جميع المنافقين، وعنى بقوله: "وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَياةِ الدّنْيا وَيُشْهِدُ اللّهَ على ما فِي قَلْبِهِ اختلاف": سريرته وعلانيته.
حدثني محمد بن أبي معشر، قال: أخبرني أبي أبو معشر نجيح، قال: سمعت سعيد المقبري يذاكر محمد بن كعب، فقال سعيد: إن في بعض الكتب: «إن للّه عبادا ألسنتهم أحلى من العسل، قلوبهم أمرّ من الصبر، لبسوا للناس مسوك الضأن من اللين، يجترون الدنيا بالدين، قال الله تبارك وتعالى: أعليّ يجترؤون، وبي يغترّون؟ وعزّتي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيران» فقال محمد بن كعب: هذا في كتاب الله جل ثناؤه. فقال سعيد: وأين هو من كتاب الله؟ قال: قول الله عز وجل: "وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَياةِ الدّنْيا ويَشْهَدُ اللّهَ على ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ ألدّ الخِصَامِ وَإذَا توَلّى سَعَى فِي الأرْضِ لَيُفْسِدَ فِيها ويُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنّسْلَ واللّهُ لا يْحِبّ الفَسادَ" فقال سعيد: قد عرفتَ فيمن أنزلت هذه الآية. فقال محمد بن كعب: إن الآية تنزل في الرجل ثم تكون عامة بعد.
عن الربيع قوله: "وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَياةِ الدّنْيا ويُشْهِدُ اللّهَ على ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ ألَدّ الخِصَامِ" قال: هذا عبد [بن أُبي] كان حسن القول سيء العمل، يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحسن له القول، وَإذَا تَوَلى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها.
وفي قوله} ويُشْهِدُ اللّهَ على ما فِي قَلْبِهِ {وجهان من القراءة: فقرأته عامة القرّاء: "ويُشْهِدُ اللّهَ على ما فِي قَلْبِهِ" بمعنى أن المنافق الذي يعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله، يستشهد الله على ما في قلبه، أن قوله موافق اعتقاده، وأنه مؤمن بالله ورسوله وهو كاذب... ابن زيد: (وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَياةِ الدّنْيا... إلى... وَاللّهُ لا يُحِبّ الفَسادَ) كان رجل يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: أي رسول الله أشهد أنك جئت بالحق والصدق من عند الله. قال: حتى يعجب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله. ثم يقول: أما والله يا رسول الله، إن الله ليعلم ما في قلبي مثل ما نطق به لساني. فذلك قوله: ويُشْهِدُ اللّهَ على ما فِي قَلْبِهِ. قال: هؤلاء المنافقون، وقرأ قول الله تبارك وتعالى: "إذَا جاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنّكَ لَرَسُولُ اللّهِ" حتى بلغ: "إنّ المُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ" بما يشهدون أنك رسول الله.
وقال السدي: ويُشْهِدُ اللّهَ على ما فِي قَلْبِهِ يقول: الله يعلم أني صادق، أني أريد الإسلام.
وقال مجاهد: ويشهد الله في الخصومة، أنما يريد الحق.
وقرأ ذلك آخرون: «وَيَشْهَدُ اللّهُ على ما فِي قَلْبِهِ» بمعنى: والله يشهد على الذي في قلبه من النفاق، وأنه مضمر في قلبه غير الذي يبديه بلسانه وعلى كذبه في قلبه. وهي قراءة ابن محيصن، وعلى ذلك المعنى تأوّله ابن عباس... والذي نختار في ذلك من قول القراء قراءة من قرأ: "ويُشْهِدُ اللّهَ على ما فِي قَلْبِهِ" بمعنى يستشهد الله على ما في قلبه، لإجماع الحجة من القراء عليه.
الألدّ من الرجال: الشديد الخصومة.
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: تأويله: أنه ذو جدال... عن قتادة قوله: "وَهُوَ ألَدّ الخِصَامِ" يقول: شديد القسوة في معصية الله جدل بالباطل، وإذا شئت رأيته عالم اللسان جاهل العمل يتكلم بالحكمة ويعمل بالخطيئة.
وقال آخرون: معنى ذلك أنه غير مستقيم الخصومة ولكنه معوجّها... عن مجاهد: "وَهُوَ ألَدّ الخِصَامِ" قال: ظالم لا يستقيم... عن السدي: ألدّ الخصام: أعوج الخصام.
قال أبو جعفر: وكلا هذين القولين متقارب المعنى، لأن الاعوجاج في الخصومة من الجدال واللدد.
وقال آخرون: معنى ذلك: وهو كاذب قوله... وهذا القول يحتمل أن يكون معناه معنى القولين الأولين إن كان أراد به قائله أنه يخاصم بالباطل من القول والكذب منه جدلاً واعوجاجا عن الحقّ. وأما الخصام: فهو مصدر من قول القائل: خاصمت فلانا خصاما ومخاصمة. وهذا خبر من الله تبارك وتعالى عن المنافق الذي أخبر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أنه يعجبه إذا تكلم قيله ومنطقه، ويستشهد الله على أنه محقّ في قيله ذلك لشدة خصومته وجداله بالباطل والزور من القول.
فيه تحذيرٌ من الاغترار بظاهر القول، وما يبديه من حلاوة المنطق، والاجتهاد في تأكيد ما يظهره... فأخبر الله تعالى أن مِنَ الناس من يُظْهِرُ بلسانه ما يعجبك ظاهره {ويشهد الله على ما في قلبه} وهذه صفة المنافقين... فأعلم الله تعالى نبيه ضمائرهم لئلا يغترّ بظاهر أقوالهم، وجعله عبرة لنا في أمثالهم لئلا نتكل على ظاهر أمور الناس وما يبدونه من أنفسهم.
وفيه الأمرُ بالاحتياط فيما يتعلق بأمثالهم من أمور الدين و الدنيا، فلا نقتصر فيما أمرنا بائتمان الناس عليه من أمر الدين والدنيا على ظاهر حال الإنسان دون البحث عنه. وفيه دليل على أن عليه استبراء حال من يراد للقضاء والشهادة والفُتْيا والإمامة، وما جرى مجرى ذلك في أن لا يقبل منهم ظاهرهم حتى يسأل ويبحث عنهم، إذ قد حَذَّرَنا الله تعالى أمثالهم في توليتهم على أمور المسلمين، ألا ترى أنه عقبه بقوله: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل}؟
فكان ذكر التولِّي في هذا الموضع إعلاماً لنا أنه غير جائز الاقتصارُ على ظاهر ما يظهره دون الاستبراء لحاله من غير جهته...
{وهو ألدّ الخصام}... وَصْفٌ له بالمبالغة في شدة الخصومة والفَتْلِ للخصم بها عن حقه وإحالته إلى جانبه؛ ويقال "لدَّه عن كذا "إذا حبسه؛ فكان معنى قوله:
{وهو ألد الخصام}: أنه أشدّ المخاصمين خصومة.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
[في هذه الآية] أخبر [صلى الله عليه وسلم] أن قوماً أعرض الحق سبحانه وتعالى عن قلوبهم فأعطاهم في الظاهر بَسْطَةً في اللسان، ولكن ربط على قلوبهم أسباب الحرمان؛ فَهُمْ في غطاء جهلهم، ليس وراءهم معنى، ولا على قولهم اعتمادٌ، ولا على إيمانهم اتِّكَالٌ، ولا بهم ثقةٌ بوجهٍ.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{في الحياة الدنيا}: لأن قوله إنما يعجب الناس في الحياة الدنيا ولا ثواب له عليه في الآخرة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: بم يتعلق قوله: {في الحياة الدنيا}؟ قلت: بالقول، أي يعجبك ما يقوله في معنى الدنيا؛ لأن ادّعاءه المحبة بالباطل يطلب به حظاً من حظوظ الدنيا ولا يريد به الآخرة، كما تراد بالإيمان الحقيقي والمحبة الصادقة للرسول؛ فكلامه إذاً في الدنيا لا في الآخرة. ويجوز أن يتعلق ب"يعجبك"، أي قوله حلو فصيح في الدنيا فهو يعجبك، ولا يعجبك في الآخرة لما يرهقه في الموقف من الحبسة واللكنة، أو لأنه لا يؤذن له في الكلام فلا يتكلم حتى يعجبك كلامه.
اعلم أنه تعالى لما بين أن الذين يشهدون مشاعر الحج فريقان: كافر وهو الذي يقول: {ربنا آتنا في الدنيا} ومسلم وهو الذي يقول: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة}. بقي المنافق فذكره في هذه الآية، وشرح صفاته وأفعاله، فهذا ما يتعلق بنظم الآية، والغرض بكل ذلك أن يبعث العباد على الطريقة الحسنة فيما يتصل بأفعال القلوب والجوارح، وأن يعلموا أن المعبود لا يمكن إخفاء الأمور عنه ثم اختلف المفسرون على قولين منهم من قال: هذه الآية مختصة بأقوام معينين ومنهم من قال: إنها عامة في حق كل من كان موصوفا بهذه الصفة المذكورة في هذه الآية،
[و] هذه الآية عامة في حق كل من كان موصوفا بهذه الصفات المذكورة، [وهو اختيار أكثر المحققين من المفسرين]...
[...] والتحقيق في المسألة أن قوله: {ومن الناس} إشارة إلى بعضهم، فيحتمل الواحد ويحتمل الجمع، وقوله: {ويشهد الله} لا يدل على أن المراد به واحد من الناس لجواز أن يرجع ذلك إلى اللفظ دون المعنى وهو جمع وأما نزوله على المسبب[...] فلا يمتنع من العموم، بل نقول: فيها ما يدل على العموم، وهو من وجوه:
أحدها: أن ترتب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية، فلما ذم الله تعالى قوما ووصفهم بصفات توجب استحقاق الذم، علمنا أن الموجب لتلك المذمة هو تلك الصفات، فيلزم أن كل من كان موصوفا بتلك الصفات أن يكون مستوجبا للذم.
وثانيها: أن الحمل على العموم أكثر فائدة، وذلك لأنه يكون زجرا لكل المكلفين عن تلك الطريق المذمومة.
وثالثها: أن هذا أقرب إلى الاحتياط لأنا إذا حملنا الآية على العموم دخل فيه ذلك الشخص، وأما إذا خصصناه بذلك الشخص لم يثبت الحكم في غيره فثبت بما ذكرنا أن حمل الآية على العموم أولى...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
الإِعجاب: افعال من العجب وأصله، لما لم يكن مثله قاله المفضل، وهو الاستحسان للشيء والميل إليه والتعظيم، تقول أعجبني زيد. والهمزة فيه للتعدّي، وقال الراغب: العجب حيرة تعرض للإِنسان بسبب الشيء وليس هو شيئاً له في ذاته حالة، بل هو بحسب الإِضافات إلى من يعرف السبب، ومن لا يعرفه.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه: لما قسم السائلين الله قبلُ إلى: مقتصر على أمر الدنيا، وسائل حسنة الدنيا والآخرة، والوقاية من النار، أتى بذكر النوعين هنا، فذكر مِن النوع الأول من هو حلو المنطق، مظهر الود، وليس ظاهره كباطنه، وعطف عليه من يقصد رضي الله تعالى، ويبيع نفسه في طلبه، وقدم هنا الأول لأنه هناك المقدم في قوله: {فمنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا} وأحال هنا على إعجاب قوله دون غيره، من الأوصاف، لأن القول هو الظاهر منه أولاً في قوله تعالى: {فمن الناس من يقول ربنا}، فكان من حيث توجهه إلى الله تعالى في الدعاء، ينبغي أن يكون لا يقتصر على الدنيا، وإن سأل منه ما ينجيه من عذابه، وكذلك هذا الثاني ينبغي أن لا يقتصر على حلاوة منطقه، بل كان يطابق في سريرته لعلانيته...
و: مَنْ، من قوله: من يعجبك، موصولة، وقيل: نكرة موصوفة، والكاف في: يعجبك، خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم إن كانت نزلت في معين، كالأخنس أو غيره، أو خطاب لمن كان مؤمناً إن كانت نزلت في غير معين ممن ينافق قديماً أو حديثاً...
[و] في الحياة، متعلق بقوله، أي يعجبك مقالته في معنى الدنيا، لأن ادعاءه المحبة والتبعية بالباطل يطلب به حظاً من حظوظ الدنيا. ولا يريد به الآخرة، إذ لا تراد الآخرة إلاَّ بالإيمان الحقيقي، والمحبة الصادقة...
والذي يظهر أنه متعلق بيعجبك، والمعنى أنك تستحسن مقالته دائماً في مدة حياته، إذ لا يصدر منه من القول إلاَّ ما هو معجب رائق لطيف، فمقالته في الظاهر معجبة دائماً. أَلاَ تراه يعدل عن تلك المقالة الحسنة الرائقة، إلى مقالة خشنة منافية، ومع ذلك أفعاله منافية لأقواله الظاهرة، وأقواله الباطلة مخالفة أيضاً لأقواله الظاهرة؟ إذ لا يحمل قوله: يعجبك قوله، وقوله: {هو ألدّ الخصام} إلاَّ على حالتين: فهو حلو المقالة في الظاهر، شديد الخصومة في الباطن...
{ويشهد الله على ما في قلبه}... والظاهر عندي أن المعنى: أنه يطلع الله على ما في قلبه، ولا يعلم به أحداً لشدة تكتمه وإخفائه الكفر، وهو ظاهر قوله: {على ما في قلبه}، لأن الذي في قلبه هو خلاف ما أظهر بقوله...
وعلى تفسير الجمهور يحتاج إلى حذف ما يصح به المعنى، أي: ويحلف بالله على خلاف ما في قلبه، لأن الذي في قلبه هو الكفر، وهو لا يحلف عليه، إنما يحلف على ضده، وهو الذي يعجب به...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان قد ذكر سبحانه وتعالى الراغب في الدنيا وحدها والراغب في الدارين وكان قد بقي من الأقسام العقلية المعرض عنهما وهو مفقود فلم يذكره والراغب في الآخرة فقط، وكل من الأقسام تارة يكون مسرّاً وتارة يكون معلناً وكان المحذور منها -إنما هو المسر لإرادة الدنيا بإظهاره لإرادة الآخرة وكان هذا هو المنافق بدأ به بعد ذكر التقوى والحشر ليكون مصدوعاً بادئ بدء بذلك الأمر مقصوداً بالتهديد بالحشر وساقه بصيغة ما في أول السورة من ذكر المنافقين ليتذكر السامع تلك القصص ويستحضرها بتلك الأحوال وحسن ذلك طول الفصل وبعد العهد فقال: {ومن الناس من} أي شخص أو الذي {يعجبك} أي يروقك ويأخذ بمجامع قلبك أيها المخاطب {قوله} كما ذكرنا أول السورة أنه يخادع، ويعجب من الإعجاب وهو من العجب وهو كون الشيء خارجاً عن نظائره من جنسه حتى يكون ندرة في صنعه- قاله الحرالي.
وقال الأصبهاني: حالة تغشى الإنسان عند إدراك كمال مجهول السبب، وعن الراغب أنه قال: وليس هو شيئاً له في ذاته حالة بل هو بحسب الإضافات إلى من يعرف السبب ومن لا يعرفه، وحقيقة أعجبني كذا: ظهر لي ظهوراً لم أعرف سببه.
ولما كان ذكر هذا بعد ذكر الحشر ربما أوهم أن يكون القول أو الإعجاب واقعاً في تلك الحالة قيده بقوله: {في} أي الكائن في {الحياة الدنيا} لا يزداد في طول مدته فيها إلا تحسيناً لقوله وتقبيحاً لما يخفى من فعله و أما في الآخرة فكلامه غير حسن ولا معجب.
{ويشهد الله} المستجمع لصفات الكمال {على ما في قلبه} أنه مطابق لما أظهره بلسانه {وهو} أي والحال أنه {ألدّ الخصام} أي يتمادى في الخصام بالباطل لا ينقطع جداله كل ذلك وهو يظهر أنه على الحسن الجميل ويوجه لكل شيء من خصامه وجهاً يصرفه عما أراد به من القباحة إلى الملاحة.
واللدد: شدة الخصومة، والخصام: القول الذي يسمع المصيح و يولج في صماخه ما يكفه عن مزعمه ودعواه -قاله الحرالي. وقال الأصبهاني: هو التعمق في البحث عن الشيء والمضايقة فيه ويجوز أن يجعل الخصام ألد على المبالغة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
أرشدتنا آيات المناسك السابقة إلى أن المراد منها ومن كل العبادات هو تقوى الله تعالى بإصلاح القلوب، وإنارة الأرواح بنور ذكر الله تعالى واستشعار عظمته وفضله وإلى أن طلب الدنيا من الوجوه الحسنة لا ينافي التقوى بل يعين عليها، بل هو مما يهدي إليه الدين، خلافا لأهل الملل السابقة الذين ذهبوا إلى أن تعذيب الأجساد وحرمانها من طيبات الدنيا هو أصل الدين وأساسه وإلى أن من يطلب الدنيا من كل وجه ويجعل لذاتها أكبر همه ليس له في الآخرة من خلاق، لأنه مخلد إلى حضيض البهيمة لم تستنر روحه بنور الإيمان، ولم يرتق عقله في معارج العرفان...
ولما كان محل التقوى ومنزلها القلوب دون الألسنة، وكان الشاهد والدليل على ما في القلوب الأعمال، دون مجرد الأقوال، ذكر في هذه الآيات أن الناس في دلالة أعمالهم على حقائق أحوالهم ومكنونات قلوبهم قسمان، فكانت هذه متصلة بتلك في بيان مقصد القرآن العزيز وهو إصلاح القلوب، واختلاف أحوال الناس فيها، وما ينبغي أن يعلموه منها، ولذلك عطفها عليها فقال: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
في ثنايا التوجيهات والتشريعات القرآنية -التي يتألف من مجموعها ذلك المنهج الرباني الكامل للحياة البشرية- يجد الناظر في هذه التوجيهات كذلك منهجا للتربية، قائما على الخبرة المطلقة بالنفس الإنسانية، ومساربها الظاهرة والخفية؛ يأخذ هذه النفس من جميع أقطارها، كما يتضمن رسم نماذج من نفوس البشر، واضحة الخصائص جاهرة السمات، حتى ليخيل للإنسان وهو يتصفح هذه الخصائص والسمات، أنه يرى ذوات بعينها، تدب في الأرض، وتتحرك بين الناس، ويكاد يضع يده عليها، وهو يصيح:هذه هي بعينها التي عناها القرآن!
وفي هذا الدرس نجد الملامح الواضحة لنموذجين من نماذج البشر:
الأول نموذج المرائي الشرير، الذلق اللسان. الذي يجعل شخصه محور الحياة كلها. والذي يعجبك مظهره ويسوؤك مخبره. فإذا دعي إلى الصلاح وتقوى الله لم يرجع إلى الحق؛ ولم يحاول إصلاح نفسه؛ بل أخذته العزة بالإثم، واستنكف أن يوجه إلى الحق والخير.. ومضى في طريقه يهلك الحرث والنسل!
والثاني نموذج المؤمن الصادق الذي يبذل نفسه كلها لمرضاة الله، لا يستبقي منها بقية، ولا يحسب لذاته حسابا في سعيه وعمله، لأنه يفنى في الله، ويتوجه بكليته إليه. وعقب عرض هذين النموذجين نسمع هتافا بالذين آمنوا ليستسلموا بكليتهم لله، دون ما تردد، ودون ما تلفت، ودون ما تجربة لله بطلب الخوارق والمعجزات، كالذي فعلته بنو إسرائيل حين بدلت نعمة الله عليها وكفرتها.. ويسمى هذا الاستسلام دخولا في السلم. فيفتح بهذه الكلمة بابا واسعا للتصور الحقيقي الكامل لحقيقة الإيمان بدين الله، والسير على منهجه في الحياة...
وفي مواجهة نعمة الإيمان الكبرى، وحقيقة السلام التي تنشر ظلالها على الذين آمنوا.. يعرض سوء تصور الكفار لحقيقة الأمر، وسخريتهم من الذين آمنوا بسبب ذلك التصور الضال. ويقرر إلى جانب ذلك حقيقة القيم في ميزان الله: (والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة)..
يلي هذا تلخيص لقصة اختلاف الناس. وبيان للميزان الذي يجب أن يفيئوا إليه ليحكم بينهم فيما اختلفوا فيه. وتقرير لوظيفة الكتاب الذي أنزله الله بالحق {ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه}.. ويتطرق من هذا إلى ما ينتظر القائمين على هذا الميزان من مشاق الطريق؛ ويخاطب الجماعة المسلمة فيكشف لها عما ينتظرها في طريقها الشائك من البأساء والضراء والجهد الذي لقيته كل جماعة نيطت بها هذه الأمانة من قبل. كي تعد نفسها لتكاليف الأمانة التي لا مفر منها ولا محيص عنها. وكي تقبل عليها راضية النفس، مستقرة الضمير؛ تتوقع نصر الله كلما غام الأفق، وبدا أن الفجر بعيد! وهكذا نرى أطرافا من المنهج الرباني في تربية الجماعة المسلمة وإعدادها، تنحو أنحاء منوعة من الإيقاعات المؤثرة، تتخلل التوجيهات والتشريعات التي يتألف من مجموعها ذلك المنهج الرباني الكامل للحياة البشرية.
هذا المخلوق الذي يتحدث، فيصور لك نفسه خلاصة من الخير، ومن الإخلاص، ومن التجرد، ومن الحب، ومن الترفع، ومن الرغبة في إفاضة الخير والبر والسعادة والطهارة على الناس.. هذا الذي يعجبك حديثه. تعجبك ذلاقة لسانه، وتعجبك نبرة صوته، ويعجبك حديثه عن الخير والبر والصلاح.. {ويشهد الله على ما في قلبه}.. زيادة في التأثير والإيحاء، وتوكيدا للتجرد والإخلاص، وإظهارا للتقوى وخشية الله.. {وهو ألد الخصام}! تزدحم نفسه باللدد والخصومة، فلا ظل فيها للود والسماحة، ولا موضع فيها للحب والخير، ولا مكان فيها للتجمل والإيثار.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ذكر سبحانه داء الجماعات المستحكم، ومرضها الممض، وهو النفاق، وخلابة اللسان مع فساد القلب والمظهر الحسن مع القصد السيئ، ومحالة اجتذاب الناس بالقول المعسول مع فعله المرذول حتى إذا نال ثقتهم ملأ الدنيا بالشر، وظهر الفساد في البر والبحر. و هكذا يذكر الله سبحانه دواء القلوب، ويذكر داءها، ليطب كل امرئ لنفسه بما يداويها، وتطب الجماعة لنفسها باجتثاث الشر من بين ربوعها، ونفي الخبث عنها كما ينقي الكير خبث الحديد. و هذا التداوي يقوم به فريق الخير الذي نصبه الله سبحانه حجة للحق ومنارا للشرع، وهذا ما ترمي إليه الآيات الكريمات: {و من الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا} إلى آخر الآيات المذكورات.
و قد ذكر الله سبحانه في هذه الآيات أن الناس فريقان:
فريق الشر أهل النفاق، وهم الداء، وهم درن الأمة، بل السرطان الذي يقضي عليها، إن لم يجتث من أصله.
والفريق الثاني، وهم الذين يتولون العلاج وهم الأخيار الذين شروا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله.
و قد ابتدأ سبحانه بذكر الداء، ليعلم أهل الخير مقدار ما يبتلون به،
وقد ذكر صفات أهل الشر، فكانت ثلاثة: أولها: حسن البيان والقول الحلو.
و ثالثها: اللدد في الخصومة...أولئك المخادعون الذين يخدعون الناس ولا يخدعون الله هم الذين يقطعون أوصال الأمة، وبهم تبتلى، وبسببهم تنزل الفتن ويثور الشر، وتذهب الثقة بين الناس، وتقوم العداوة بينهم مقام المودة، والبغضاء محل الإخاء... بخديعتهم للناس، ثم تكشف أحوالهم [و] بمرور الأيام تضيع الثقة، ثم الذين يعمدون إلى تلك الأساليب الماكرة لا يبغون خيرا، بل لا يبغون شرا، لأن الأخيار لا يحتاجون إلى إخفاء نياتهم، وما يجول في قلوبهم.
إن الذين يبدون ما لا يخفون هم الذين توسوس نفوسهم بالشر والهوى، ولا يريدون أن يطلع عليه أحد، ولذلك عرف النبي صلى الله عليه وسلم [الإثم] بأنه:"ما حاك في الصدر وكرهت أن يطلع عليه الناس"، فالشر لا يعيش إلا في كن مظلم والنور يقتله، والخير يزيده النور وضوحا وقوة ونماء، ومن كان الشر غايته فهو عنصر مخرب مفسد مهلك، وهو بلاء لأمته وجماعته وأسرته، بل بلاء على نفسه في الدنيا عندما يعلم أمره، وفي الآخرة له عذاب أليم. وفي الحق إن أولئك الذين يحاولون أن يكسبوا قلوب الناس ليتمكنوا من رقابهم بالقول المعسول الخادع فيهم الأمران السابقان: فيهم البغض الشديد للناس، وفرضهم أعداء وخصوما، ولا يفرضونهم أولياء وإخوانا، وفيهم اللدد في الجدال ومحاولة الغلب بالحق وبالباطل. بل إن بغضهم للناس، أو على الأقل عدم نظرتهم إليهم نظرة أخوة واصلة، ومودة مقربة، هي التي جعلتهم يحاولون خديعتهم بالقول البراق، واليمين الغموس، والجدل الذي تبرق فيه الألفاظ، ويختفي فيه نور الحق وتنقطع به أسباب اليقين، ولو كانوا يفرضون الأخوة الرابطة بينهم وبين الناس، لأحبوا لهم ما يحبون لأنفسهم، ولكرهوا ما يكرهون لهم، ولكشفوا عن نيتهم واضحة بينة، فالحق دائما أبلج، والباطل لجلج، فحيثما كانت خديعة فثمة هوة فارقة، لأخوة جامعة، وحيثما كانت لجاجة فثمة حق ضائع وباطل رائج.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وقوله تعالى: {فِي الحَيَاةِ الدُّنيا}. بعد قوله تعالى: {مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُه}. فيه تلميح إلى أن طائفة المنافقين تختار دائما أن تضرب على الوتر الحساس، الذي يهم أكبر عدد من الناس، وهو وتر المصالح المادية القريبة، والمنافع الشخصية العاجلة، فعن ذلك الطريق السهل تحاول الوصول إلى أهدافها الملتوية، وأغراضها المنحرفة. وقوله تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}. فيه وصف دقيق لكل فرد من أفراد هذه الطائفة، وهو صورة ناطقة بما عليه المنافقون جميعا من قدرة خاصة على الجدل الفارغ، واستعداد خاص للمناقشات البيزنطية العقيمة، وطول نفس في الأخذ والرد، فهم ثرثارون متفيهقون دائما، وعليهم وعلى أمثالهم يصدق قوله تعالى في سورة الأنعام: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَولِيَائِهِم لِيُجَادِلُوكُم، وَإِنَ أَطَعتُمُوهُمُ إِنَّكُم لَمُشرِكُونَ}. وقوله تعالى في نفس السورة: {وَكَذَلِكَ جَعَلنَا لِكُلِّ نَبِئٍ عّدُوّاً شَيَاطِينَ الإنسَ وَالجِنِّ يُوحِي بَعضُهُمُ إِلَى بَعضٍ زُخرُفَ القَولِ غُرُوراً}.
يريد الحق سبحانه وتعالى أن يضع أمامنا قضية وجودية، وهذه القضية الوجودية هي أن كل عمل له ظاهر وله باطن. ومن الجائز أن تتقن الظاهر وتدلس على الناس في الباطن، فإذا كان الناس لهم مع بعضهم ظاهر وباطن. فمن مصلحة الإنسان أن ينتمي هو والناس جميعاً إلى عالم يعرف فيه كل إنسان أن هناك إلهاً حكيماً يعرف كل شيء عنا جميعاً.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
في هذه الآيات صورة معبّرة عن نموذجين من النّاس، لا يخلو منهما زمان ولا مكان أمام مواقف الحقّ والعدل والإيمان، فهناك النموذج المنافق الذي يحاول أن يستغل طيبة النّاس وبساطتهم وصدقهم، حيث يوحي إليهم بأن الذي يعايشونه طيّب وصادق ونظيف، فيستسلمون لكلماته الحلوة، وأساليبه الناعمة، ومواثيقه المؤكدة التي يحاول من خلالها أن يوحي للنّاس بأنه يحمل في قلبه كلّ النوايا الخالصة والأفكار الخيّرة التي تبني للنّاس حياتهم وتوجهها إلى الطريق الحقّ والسعادة الكبيرة: {وَمِنَ النّاس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} في دلالته على إخلاصه وأمانته وتخطيطه للعمل الصالح الذي يتصل بحياة النّاس في قضاياهم العامة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والروحية، {وَيُشْهِدُ اللّه عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} بالأيمان المغلظة والتأكيدات الحاسمة، ليخضع النّاس له من باب قداسة الشهادة وعظمة الميثاق.