تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعۡجِبُكَ قَوۡلُهُۥ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيُشۡهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلۡبِهِۦ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلۡخِصَامِ} (204)

204

وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني الليث بن سعد ، عن خالد بن يزيد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن القرظي ، عن نَوْف - وهو البكالي ، وكان ممن يقرأ الكتب - قال : إني لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنزل : قَوم يحتالون على الدنيا بالدين ، ألسنتهم أحلى من العسل ، وقلوبهم أمَرّ من الصّبرِ ، يلبسون للناس{[3705]} مُسوك الضأن ، وقلوبهم قلوب الذئاب . يقول الله تعالى : فعليّ يجترئون ! وبي يغتَرون ! حلفت بنفسي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم فيها{[3706]} حيران . قال القرظي : تدبرتها في القرآن ، فإذا هم المنافقون ، فوجدتها : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ } الآية .

وحدثني محمد بن أبي معشر ، أخبرني أبي أبو معشر نَجِيح قال : سمعت سعيدًا المقبري يذاكر محمد بن كعب القرظي ، فقال سعيد : إن في بعض الكتب : إنّ [ لله ]{[3707]} عبادًا ألسنتهم أحلى من

العسل ، وقلوبهم أمَرّ من الصّبر ، لبسوا للناس مُسُوك الضأن من اللين ، يَجْترّون الدنيا بالدين . قال الله تعالى : عليّ{[3708]} تجترئون ! وبي تغترون ! . وعزتي لأبعثنّ عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيران . فقال محمد بن كعب : هذا في كتاب الله . فقال سعيد : وأين هو من كتاب الله ؟ قال : قول الله : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } الآية . فقال سعيد : قد عرفتُ فيمن أنزلت هذه الآية . فقال محمد بن كعب : إن الآية تنزل في الرجل ، ثم تكون عامة بعد . وهذا الذي قاله القرظي حسن صحيح .

وأما قوله : { وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ } فقرأه ابن محيصن : " ويَشْهَدُ اللهُ " بفتح الياء ، وضم الجلالة { عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ } ومعناها : أن هذا وإن أظهر لكم الحيل{[3709]} لكن الله يعلم من قلبه القبيح ، كقوله تعالى : { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون : 1 ] .

وقراءة الجمهور بضم الياء ، ونصب الجلالة { وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ } ومعناه : أنه يُظْهرُ للناس الإسلام ويبارزُ الله بما في قلبه من الكفر والنفاق ، كقوله تعالى : { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ } الآية [ النساء : 108 ] هذا معنى ما رواه ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن{[3710]} عكرمة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس .

وقيل : معناه أنه إذا أظهر للناس الإسلام حَلَف وأشهد الله لهم : أن الذي في قلبه موافق للسانه . وهذا المعنى صحيح ، وقاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، واختاره ابن جرير ، وعزاه إلى ابن عباس ، وحكاه عن مجاهد ، والله أعلم .

وقوله : { وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } الألد في اللغة : [ هو ]{[3711]} الأعوج ، { وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا } [ مريم : 97 ] أي : عُوجًا . وهكذا المنافق في حال خصومته ، يكذب ، ويَزْوَرّ عن الحق ولا يستقيم معه ، بل يفتري ويفجر ، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر " .

وقال البخاري : حدثنا قَبيصةُ ، حدثنا سفيان ، عن ابن جُرَيج ، عن ابن أبي مُلَيْكة ، عن عائشة تَرْفَعُه قال : " أبغض الرجال إلى الله الألَدُّ الخَصم " {[3712]} .

قال : وقال عبد الله بن يزيد : حدثنا سفيان ، حدثني ابن جريج ، عن ابن أبي مُلَيكة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم " {[3713]} .

وهكذا رواه عبد الرزاق ، عن مَعْمَر في قوله : { وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم " {[3714]} .


[3705]:في جـ، ط، أ، و: "يلبسون لباس".
[3706]:في أ: "فيهم".
[3707]:زيادة من جـ، ط، أ، و.
[3708]:في أ: "أعلي".
[3709]:في جـ، و: "الجميل".
[3710]:في جـ، ط: "أو".
[3711]:زيادة من جـ، ط.
[3712]:صحيح البخاري برقم (4523).
[3713]:صحيح البخاري برقم (4523).
[3714]:تفسير عبد الرزاق (1/97).