الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعۡجِبُكَ قَوۡلُهُۥ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيُشۡهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلۡبِهِۦ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلۡخِصَامِ} (204)

الكلبي والسّدي ومقاتل وعطاء : قالوا نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة وإسمه أبي ، وسمي بالأخنس لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة رجل من بني زهرة عن قتال النبيّ صلى الله عليه وسلم وقد تولوا [ الجحفة ] وقال لهم : يا بني زهرة إن محمّداً ابن أخيكم ، فإن يكن صادقاً فلن تغلبوه وكنتم أسعد الناس بصدقه ، وإن يك كاذباً فإنكم أحق من كف عنه لقرابتكم وكفتكم إياه أوباش العرب .

قالوا : نِعْمَ الرأي رأيت فَسِر لما شئت فنتبعك . فقال : إذا نودي الناس [ في الرحيل فإني ] أخنس بكم فاتبعوني ، ففعل وفعلوا وسمي لذلك الأخنس ، وكان رجلاً حلو الكلام حلو المنظر وكان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم [ يواليه ويظهر ] الإسلام ويخبره بإنه يحّبه ويحلف بالله عزّ وجلّ على ذلك ، وكان منافقاً فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدني مجلسه وَيُقبِل عليه ولا يعلم إنه يضمر خلاف ما يظهر ثمّ إنه كان بينه وبين ثقيف خصومة فبيّتهم ليلاً وأهلك مواشيهم واحرق زرعهم وكان حسن العلانية سيء السريرة .

قال السّدي : مرَّ بزرع للمسلمين وحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر .

مقاتل : خرج إلى [ الطائف ] مقتضياً حقا له على غريم فأحرق له . . . أرضاً وعقر له . . . أتاناً فأنزل الله فيه هذه الآيات .

ابن عبّاس والضحاك : نزلت هذه الآيات إلى قوله والله رؤوف بالعباد في سرية [ الرجيع ] وذلك أن كفّار قريش بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة ، إنّا أسلمنا فابعث إلينا نفراً من علماء أصحابك يعلموننا دينك ، وكان ذلك مكراً منهم فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حبيب بن عدي الأنصاري ومرثد بن أبي مرثد الغنوي وخالد بن بكير وعبدالله بن طارق ابن شهاب البادي وزيد ابن الدثنة وأمّر عليهم عاصم بن ثابت بن الاقلح الأنصاري فساروا يريدون مكّة فنزلوا [ بطن الرجيع ] بين مكّة والمدينة ومعهم تمر عجرة فأكلوا فمرت عجوزة وأبصرت النوى فرجعت إلى قومها بمكّة وقالت : قد سلك الطريق أهل يثرب من أصحاب محمّد ، فركب سبعون رجلاً ومعهم الرماح حتّى أحاطوا بهم فحاربوهم فقتلوا مرثداً وخالداً وعبدالله بن طارق ونثر عاصم بن ثابت كنانته وفيها سبعة أسهم فقتل منهم رجلاً من عظماء المشركين ثمّ قال اللّهمّ إني حميت دينك صدر النهار فاحم لحمي آخر اللّيل ، ثمّ أحاط به المشركون فقتلوه ، فلّما قتلوه أرادوا جزّ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن عهيد وكانت قد نذرت حين أصاب إبنها يوم أحد لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن فيه قحفه الخمر ، فأرسل الله رجلاً من الدّبر وهي الزنابير فحمت عاصماً ولم يقدروا عليه فسمي حمي الدبر فلما حالت بينهم وبينه قال : دعوه حتّى يمسي تذهب عنه فنأخذه فجاءت سحابة سوداء ومطرت مطراً ( كالعزالي ) فبعث الله الوادي فاحتمل عاصماً فذهب به ( . . . . . . ) وحملته . . . خمسين من المشركين إلى النّار قال : وكان عاصم قد أعطى لله عهداً أن لا يمس مشركاً ولا يمسه مشرك أبداً ( تنجساً ) منه وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول حين بلغه الخبر إن الدَّبر منعته ، عجباً لحفظ الله العبد المؤمن كان عاصم نذر أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركاً أبداً فمنعه الله بعد وفاته كما امتنع من حياته ، فأسر المشركون خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة فذهبوا بهما إلى مكّة فأما حبيب فابتاعه بنو الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناة ليقتلوه ( بأيديهم ) وكان حبيب هو الذي قتل الحرث بن عامر بأحد فبينما خبيب عند بنات الحرث إذ استعار من إحداهن موسى يستحل بها للقتل فما راع المرأة ولها صبي يدرج الا بحبيب قد أجلس الصبي على فخذه والموسى في يده فصاحت المرأة فقال حبيب : أتحنثين أن أقتله ، إن الغدر ليس من شأننا ، فقالت المرأة : ما رأيت أسيراً قط خيراً من حبيب لقد رأيته وما بمكّة من تمرة وإن في يده لقطفاً من عنب يأكله إن كان إلاّ رزقاً رزقه الله حبيباً ، ثمّ إنّهم خرجوا به من الحرم ليقتلوه وأرادوا أن يصلبوه فقال : ذروني أصلي ركعتين فتركوه فصلى ركعتين فجرت ( سنة لمن ) قتل صبراً أن يُصلّي ركعتين ، ثمّ قال : لولا أن يقولوا جزع حبيب لزدت وأنشأ يقول :

ولست أبالي حين أقتل مسلماً *** على أي شق كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ *** يبارك في أوصال شلو ممزع

أي مقطع .

ثمّ قال : اللهم أحصهم عدداً [ وخذهم ] بدداً فصلبوه حياً ، فقال : اللهم إنك تعلم إنه ليس أحد حولي يبلغ رسولك سلامي فأبلغه لأُمي ، قال : ثمّ جاء به رجل من المشركين يقال له أبو سروعة ومعه رمح فوضعه بين ثديي حبيب فقال له حبيب : إتق الله فما زاده إلاّ عتواً فطعنه فأنفذه .

فذلك قوله { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ } الآية .

يعني سلامان وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله ( بأبيه ) أمية بن خلف الجحمي ثمّ بعثه مع مولى له يسمى قسطاس إلى التنعيم ليقتله فاجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب ، فقال أبو سفيان لزيد حين قدم ليُقتَل أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمّداً عندنا الآن بمكانك نضرب عنقه وإنك في أهلك ؟ فقال : والله ما أحب أن محمّداً الآن بمكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي .

فقال : أبو سفيان : " ما رأيت من النّاس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمّد محمّداً ، ثمّ قتله قسطاس ، فلما بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الخبر قال لأصحابه : أيكم يحتمل خبيباً عن خشبته فله الجنة ؟ قال الزبير بن العوام : أنا يا رسول الله وصاحبي المقداد بن الأسود فخرجا يمشيان بالليل ويكتمان بالنهار حتّى أتيا التنعيم ليلاً فإذا حول الخشبة أربعون من المشركين نيام [ نشاوى ] فأنزلاه فإذا هو رطب ينثني لم يتغير منه شيء بعد أربعين يوماً ويده على جراحته تخضب دماً ، اللون لون الدم والريح ريح المسك فحمله الزبير على فرسه وسارَ فانتبه الكفار وقد فقدوا حبيباً فأخبر بذلك قريشاً فركب منهم سبعون فلما لحقوهما قذف الزبير حبيباً فابتلعته الأرض فسمي بليع الأرض .

فقال الزبير : ما جرّأكم علينا يا معشر قريش ثمّ رفع العمامة عن رأسه فقال : أنا الزبير بن العوام وأُمي صفية بنت عبد المطلب وصاحبي المقداد بن الأسود أسدان رابضان يدفعان عن شبلهما فإن شئتم ناضلتكم وإن شئتم نازلتكم وإن شئتم إنصرفتم ، فانصرفوا إلى مكّة ، وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبرئيل عنده فقال : يا محمّد إن الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك فقال رجال من المنافقين في أصحاب حبيب ياويَح هؤلاء المقتولين الذين هلكوا لا هم قعدوا في بيوتهم ولا هم أدوّا رسالة صاحبهم ، فأنزل الله في الزبير والمقداد بن الأسود وحبيب وأصحابه المؤمنين وفيمن طعن عليهم من المنافقين { وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ } يامحمّد { قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } "

أي تستحسنه ويعظم في قلبك ومنه العجب لإنه تعظم في النفس .

فقال في الخبر الإستحسان والمحبة : أعجبني كذا ، وفي الإنكار والكراهية : عجبت من كذا ، وأصل العجب مالم يكن مثله قاله المفضل . { وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ } يعني قول المنافق والله إني بك لمؤمن ولك محب .

وقرأ ابن محيصن : ويشهد الله بفتح الياء والهاء ورفع الهاء من قوله أي يظهر أمراً ويقول قولاً ويعلم الله خلاف ذلك منه وفي مصحف أُبي ويستشهد الله وهي حجة لقراءة العامة . { وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } أي شديد الخصومة .

يقال منه لددت يا هذا وأنت تلد لدّاً ولدادا ، وإذا أردت أنه غلب خصمه قلت لِدّه يلده لداً .

ويقال : رجل ألدّ وإمرأة لدّاء ورجال ونساء لدّ .

قال الله تعالى { وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً } [ مريم : 97 ] .

وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم " .

قال الشاعر :

إن تحت الأحجار حزماً وجوداً *** وخصيماً ألدّ ذا مغلاق

وقال الراجز :

تلدّ أقران الرجال اللدّ

وقال الزجاج : إشتقاقه من لديدي العنق وهما صفحتاه وتأويله إنه في أي وجه أخذ من يمين أو شمال في أبواب الخصومة غلب في ذلك .

والخصام : مصدر خاصمته خصاماً ومخاصمة قاله أبو عبيدة وقال الزجاج : هو جمع خصم يقال : خصم وخصام وخصوم مثل بحر وبحار وبحور ، وحقيقة الخصومة التعمق في البحث عن الشيء والمضايقه فيه ولذلك قيل لزوايا الأوعية خصوم .

قال السدي : ألدّ الخصام أعوج الخصام .

مجاهد : الأخير المستقيم على خصومة .

الحسن : هو كاذب القول . قتادة : هو شديد القسوة في معصية الله جدل بالباطل عالم باللسان جاهل بالعمل متكلم بالحكمة ويعمل بالخطيئة .