اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعۡجِبُكَ قَوۡلُهُۥ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيُشۡهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلۡبِهِۦ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلۡخِصَامِ} (204)

قوله : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ } .

لمّا ذكر الذين قصرت همَّتهم على الدُّنيا في قوله : " ومِنَ النَّاسِ من يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَة " ، والمؤمنين الذين سألوا خير الدَّارين ، ذكر المنافقين ؛ لأنَّهم أظهروا الإيمان وأسرُّوا الكفر .

قوله تعالى : " مَنْ يُعْجِبُكَ " : يجوز في " مَنْ " أن تكون موصولة ، وأن تكون نكرةً موصوفةً ، وقد تقدَّم نظيرها ، والإعجاب : استحسان الشيء ، والميل إليه ، والتعظيم له ، والهمزة فيه للتعدِّي .

وقال الراغب{[23]} : " العَجَبُ حَيْرَةٌ تَعْرِضُ للإنسان عند الجهل بسبب الشَّيء ، وليس هو شيئاً له في ذاته حالةً ، بل هو بحسب الإضافات إلى من يعرف السَّبب ومن لا يعرفه ، وحقيقة : أعجبني كذا : ظهر لي ظهوراً لم أعرف سببه " ، ويقال : عجبت من كذا ، قال القائل : [ الرجز ]

عَجِبْتُ وَالدَّهْرُ كَثِيرٌ عَجَبُهْ *** مِنْ عَنَزِيَّ سَبَّنِي لَمْ أَضْرِبُهْ{[24]}

قال بعض المفسِّرين : يقال في الاستحسان : أعجبني كذا ، وفي الإنكار والكراهة : عجبت من كذا .

قوله : " في الحَيَاةِ " فيه وجهان :

أحدهما : أن يتعلق ب " قَوْلُهُ " ، أي : يعجبك ما يقوله في معنى الدنيا ، لأنَّ ادِّعاءه المحبة بالباطل يطلب حظّاً من الدنيا .

والثاني : أن يتعلَّق ب " يُعْجِبُكَ " ، أي : قوله حلوٌ فصيحٌ في الدُّنيا ، فهو يعجبك ولا يعجبك في الآخرة ، لما يرهقه في الموقف من الاحتباس واللُّكنة ، أو لأنه لا يؤذن لهم في الكلام ، قال أبو حيان : " والذي يظهر أنه متعلِّق ب " يُعْجِبُكَ " ، لا على المعنى الذي قاله الزمخشري ، بل على معنى أنك تستحسن مقالته دائماً في مدَّة حياته ؛ إذ لا يصدر منه من القول إلا ما هو معجبٌ رائقٌ لطيفٌ ، فمقالته في الظاهر معجبة دائماً ، لا تراه يعدل عن تلك المقالة الحسنة الرائعة إلى مقالةٍ منافيةٍ .

قوله : " وَيُشْهِدُ اللَّهَ " في هذه الجملة وجهان :

أظهرهما : أنها عطف على " يُعْجِبُكَ " ، فهي صلة لا محلَّ لها من الإعراب ، أو صفةٌ ، فتكون في محلِّ رفع على حسب القولين في " مَنْ " .

والثاني : أن تكون حاليةً ، وفي صاحبها حينئذً وجهان :

أحدهما : أنه الضمير المرفوع المستكن في " يُعْجِبُكَ " .

والثاني : أنه الضمير المجرور في " قَوْلُهُ " ، تقديره : يعجبك أن يقول في أمر الدنيا ، مقسماً على ذلك .

وفي جعلها حالاً نظر من وجهين :

أحدهما : من جهة المعنى ، فإنه يلزم منه أن يكون الإعجاب والقول مقيدين بحالٍ ، والظاهر خلافه .

والثاني : من جهة الصِّناعة وهو أنَّه مضارعٌ مثبتٌ ، فلا يقع حالاً إلا في شذوذٍ ؛ نحو : " قُمْتُ وَأَصُكُّ عَيْنَهُ " أو ضرورةً ؛ نحو : [ المتقارب

. . . *** نَجَوْتُ وَأَرْهَنُهُمْ مَالِكَا{[25]}

وتقديره مبتدأً قبله على خلاف الأصل ، أي : وهو يشهد .

والجمهور على ضمِّ حرف المضارعة وكسر الهاء ، مأخوذاً من " أَشْهَدَ " ونصب الجلالة مفعولاً به ، وقرأ أبو حيوة وابن محيصنٍ بفتحهما ورفع الجلالة فاعلاً .

قال القرطبيُّ - رحمه الله تعالى - ويؤيِّده قراءة{[26]} ابن عباسٍ " واللَّهُ يَشْهَدُ عَلَى مَا في قَلْبِهِ " .

وقرأ أُبَيٌّ{[27]} : " يَسْتَشْهِدُ اللَّهَ " .

فأمَّا قراءة الجمهور وتفسيرهم ، فإن المعنى : يحلف بالله ويشهده أنّه صادقٌ ، وقد جاءت الشهادة بمعنى القسم في آية اللِّعان ، وقيل : فيكون اسم الله منتصباً على حذف حرف الجر ، أي : يقسم بالله ، قال شهاب الدين : وهذا سهوٌ من قائله ؛ لأنَّ المستعمل بمعنى القسم " شَهِدَ " الثلاثيٌّ ، لا " أَشْهَدَ " الرباعيُّ ، لا تقول : أُشْهِدُ بالله ، بل : أَشْهَدُ بالله ، فمعنى قراءة الجمهور : يطَّلع الله على ما في قلبه ، ولا يعلم به أحدٌ ، لشدة تكتُّمه .

وأمَّا تفسير الجمهور : فيحتاج إلى حذف ما يصحُّ به المعنى ، تقديره : ويحلف بالله على خلاف ما في قلبه ؛ لأن الذي في قلبه هو الكفر ، وهو لا يحلف عليه ، إنما يحلف على ضدِّه ، وهو الذي يعجب سامعه ، ويقوِّي هذا التأويل قراءة{[28]} أبي حيوة ؛ إذ معناها : ويطَّلع الله على ما قلبه من الكفر . وأمَّا قراءة أُبيًّ : فيحتمل " ستَفْعَلَ " وجهين :

أحدهما : أن يكون بمعنى " أَفْعَلَ " ؛ فيوافق قراءة الجمهور .

والثاني : أنه بمعنى المجرَّد وهو " شَهِدَ " ، وتكون الجلالة منصوبةً على إسقاط الخافض .

قوله : { وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } الكلام في هذه الجملة كالتي قبلها ، وهنا وجهٌ آخر ، وهو أن تكون حالاً من الضمير في " يُشْهِدُ " ، والألد : الشديد ؛ من اللَّدد ، وهو شدة الخصومة ؛ قال : [ الخفيف ]

إنَّ تَحْتَ التُّرَابِ عَزْماً وحَزْماً *** وَخَصِيماً أَلَدَّ ذَا مِغْلاَقِ{[29]}

ويقال : لَدِدت بكسر العين ألَدُّ بفتحها ، ولدَدته بفتح العين ألُدُّه بضمها أي : غلبته في ذلك ، فيكون متعدياً ، قال الشاعر : [ الرجز ]

تَلُدُّ أَقْرَانَ الرِّجَالِ اللُّدِّ{[30]} *** . . .

تلدُّ أقران الرِّجال ، معناه أنّه في أي وجه أخذ خصمه من اليمين أو الشمال في أبواب الخصومة غلبه .

ورجل ألدُّ وألنددٌ ويلنددٌ ، وامرأةٌ لدَّاء ، والجمع " لُدٌّ " ك " حُمْرٍ " .

وفي اشتقاقه أقوالٌ : قال الزجَّاج{[31]} : من لُديدَي العنق ، وهما صفحتاه .

وقيل : من لديدي الوادي ، وهما جانباه ، سمِّيا بذلك ؛ لاعوجاجهما .

وقيل : هو من لدَّه إذا حبسه ، فكأنه يحبس خصمه عن مفاوضته .

و " الخِصَامِ " فيه قولان :

أحدهما : قال الزجَّاج : وهو جمع خصمٍ بالفتح ؛ نحو : كعبٍ وكعابٍ ، وكلبٍ وكلابٍ ، وبحرٍ وبحارٍ ، وعلى هذا فلا تحتاج إلى تأويل .

والثاني : قال الخليل وأبو عبيد إنه مصدر ، يقال : خاصمَ خصاماً ، نحو قاتلَ قتالاً ، وعلى هذا فلا بد من مصحِّح لوقوعه خبراً عن الجثَّة ، فقيل : في الكلام حذف من الأول ، أي وخصامه أشدُّ الخصام ، وجعل أبو البقاء " هو " ضمير المصدر الذي هو " قوله " فإنه قال : ويجوز أن يكون " هُوَ " ضمير المصدر الذي هو " قَوْلُهُ " وهو خصام ، والتقدير : خصامه ألدُّ الخصام .

وقيل : من الثاني : أي : وهو أشدُّ ذوي الخصام ، وقيل : أريد بالمصدر اسم الفاعل ؛ كما يوصف به في قولهم : رجل عدلٌ وخصمٌ ، وقيل : " أَفْعَلُ " هنا ليست للتفضيل ، بل هي بمعني لديد الخصام ، فهو من باب إضافة الصفة المشبهة ، وقال الزمخشريُّ{[32]} : والخِصَامُ المُخَاصَمَةُ ، وإضافةُ الألدِّ بمعنى " في " ؛ كقولهم : " ثَبْتُ الغَدْرِ " يعني أن " أَفْعَلَ " ليس من باب ما أضيف إلى ما هو بعضه ، بل هي إضافة على معنى " في " ؛ قال أبو حيان : وهذا مخالفٌ لما يَزْعُمُهُ النحاة من أنَّ " أَفْعَلَ " لا تضاف إلا إلى ما هي بعضه ، وفيه إثبات الإضافة بمعنى " في " ، وهو قولٌ مرجوحٌ ، وقيل : " هُوَ " ليس ضمير " مَنْ " بل ضمير الخصومة يفسِّره سياق الكلام ، أي : وخصامه أشدُّ الخصام .

فصل في بيان عموم هذه الآية

قال بعض المفسِّرين : هذه الآية الكريمة مختصَّة بأقوام معيَّنين ، وقال بعضهم : إنّها عامة في كلِّ من اتَّصف بهذه الصِّفة ، والأولون اختلفوا على وجوهٍ :

أحدها : أنها نزلت في الأخنس بن شريق{[33]} الثقفي حليف بني زهرة ، واسمه : أُبي ، وسمِّي الأخنس ؛ لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة من بني زهرة عن قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان رجلاً حلو المنظر ، حلو الكلام ، وكان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجالسه ويظهر الإسلام ، ويقول : إنيّ أحبُّك ، ويحلف بالله على ذلك ، وكان منافقاً ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدنيه في مجلسه ، وكان حسن العلانية خبيث الباطن ، فخرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم فمرَّ بزرع لقوم من المسلمين فأحرق الزَّرع ، وقيل : المواشي ، وقيل : بيَّت قوماً من ثقيف فلبسهم ، وأهلك مواشيهم ، وأحرق زرعهم .

وقال مُقاتِلٌ{[34]} : خرج إلى الطَّائف مُقْتَضِياً مالاً لَهُ على غرِيم فَأَحْرَقَ له كدساً{[35]} ، وعَقَرَ لَهُ أَتاناً{[36]} ، والنّسلُ : نَسْل كُلّ حيوان من ناطقٍ ، وغيره ؛ فنزلت الآية الكريمة .

الثَّاني : أنَّ الأَخْنَس أَشَار على بني زهرة بالرُّجُوع يوم بدرٍ وقال لهُم : إِنَّ مُحَمَّد ابن أخيكم ، فإِنْ يَكُ كَاذِباً كفاكموه سائر النَّاس ، وإن يَكُ صَادِقاً كنتم أَسعَدَ النَّاسِ به ، قالُوا نِعْمَ الرَّأيُ ما رَأَيَتَ قال : فإذا نودي في النَّاس بالرحيل فإنّي أخنس بكم ، فاتَّبِعُوني ، ثمَّ انخنَسَ بثلاثِمائة من بني زُهْرَة عن قِتَال رسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وسُمِّيَ بهذا السَّبب الأَخنس ، فبلغ ذلك رسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فأعجبه .

قال ابنُ الخطيب{[37]} : وعندي أَنَّ هذا القول ضعيفٌ ، لأَنَّهُ لا يَسْتَوجِبُ الذَّمَّ بهذا العمل ، والآية مذكورة في معرض الذَّمِّ ، فلا يمكن حَمْلُها عليه .

الثالث : روي عن ابن عبَّاس والضحَّاك أنَّ كُفَّار قريش بعثوا إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - " أَنَّا قد أَسلمنا ، فابعثْ إِلَيْنَا نفراً مِنْ عُلَمَاءِ أَصْحَابك ، فبعثَ إليهم جماعَة ، فنزلوا ببطن الرجيع ، ووصل الخَبَرُ إلى الكُفَّارِ ، فَرَكِبَ منهم سبعون راكباً ، وأَحَاطُوا بهم ، وَقَتَلُوهم ، وصَلَبُوهُم ، فَنَزَلَتْ هذه الآية الكريمة ، ولذلك عقَّبَهُ بقول " مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتَغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ{[38]} " فَنَبَّه بذلك على حال هؤُلآءِ الشَّهداء .

القولُ الثَّاني : وهو اختيارُ أكثر المحقِّقين من المُفسِّرين ، أنَّها عامَّة في كُلِّ من اتَّصف بهذه الصِّفَةِ المَذْكُورة ، نقل عن محمَّد بن كعب القُرظِي{[39]} أنَّه جرَى بَيْنَهُ وبَيْنَ غيره كلام في الآية فقال : إِنَّها وإن نزلت فيمن ذكرتهم ، فلا يَمْتنعُ أن تنزل الآية الكريمة في الرَّجُلِ ، ثم تَكُونُ عامَّة في كُلِّ مَنْ كان موصوفاً بهذه الصِّفات .

وَرَوَتْ عائشة - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم قال :- " إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَلَدُّ الخَصِمُ{[40]} " .

قال ابن الخطيب{[41]} : نُزُول الآية الكريمة على سبب لا يمنعُ من العُمُومِ ، بل في الآية الكريمة ما يَدُلُّ على العُمومِ مِنْ وجوه :

الأول : أَنَّ ترتيب الحُكم على الوصف المُنَاسِبِ مشعراً بالعلِّيَّة{[42]} .

الثاني : أَنَّ الحَمْلَ على العُموم أكثر فائدة ، لأَنَّهُ زجرٌ لكلِّ مكلَّف عن تِلك الطَّريقةِ المَذْمُومَةِ .

الثالث : أَنَّهُ أَقربُ إلى الاحتياطِ .

قال قتادةُ ومُجاهدٌ وجماعة من العلماء : نزلت في كُلِّ مُبْطنٍ كُفراً ، أو نِفاقاً ، أو كذباً أو إضراراً ، وهو يظهر بلسانِهِ خلاف ذلك{[43]} ، فهي عامة .

قال القرطبي{[44]} رحمه الله : وهي تشبه ما ورد في التِّرمذيّ أَنّ في بعض الكُتُب أَنَّ اللَّهَ تعالى يقُولُ : " إِنَّ مِنْ عِبَادِي قوماً ألسِنَتُهُمْ أَحْلَى من العسَلِ ، وقلوبهم أَمَرّ مِنَ الصَّبْرِ ، يَلْبسون للنَّاس جُلُودَ الضَّأْنِ مِنَ اللِّين ، يشترُون الدُّنيا بالدِّين ، يقُولُ الله - تبارك وتعالى - إِنَّهُم لمُغترُّون ، وعلى اللَّهِ يجترئُونَ فبي حلفت لأُسَلِّطَنَّ عليهم فِتنَةً تدَعُ الحليم منهم حيران . ومعنى : " وَيُشْهِدُ الله " ، أي : يقول : اللَّهُ يعلم أَنَّي أقُولُ حَقّاً .

فصل

اختلفُوا في المَوْصُوف بالصِّفاتِ المذكورة في الآية ، هل هو مُنَافقٌ أمْ لا ؟

قال ابنُ الخطيب{[45]} : إنَّها لا تدلُّ على ذلك ، فإِنَّ قوله : { يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } لا دلالة فيه على صِفةٍ مَذْمُومةٍ ، إِلاَّ من جهة الإِيماء{[46]} الحاصل بقوله { فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } ، فإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ : فُلاَن حُلْوُ الكَلاَمِ فيما يَتَعَلَّق بالدُّنيا أَوْهَم نوعاً من المَذمَّةِ .

وقوله : { وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ } لا دلالة فيه على حالَةٍ مُنْكرةٍ ، وإِن أَضمرنا فيه أَنَّهُ يُشْهِدُ اللَّهَ على ما في قلبه ، مع أنَّ قلبه بخلاف ذلك لأَنَّهُ ليس في الآية أَنَّ القَوْلَ الَّذي أَظْهرهُ هو الإِسلامُ والتَّوحِيدُ حتى يكُون خلافه نِفَاقاً ، بل يَحْتَمِلُ أن يُضْمِر الفساد ، ويظهر ضِدَّهُ ، فَيَكُونُ مُرائِياً .

وقوله : { وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } أيضاً لا يُوجِبُ النِّفَاقَ .

وقوله : { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا } فالمفسد قد يكون مُسْلِماً .

وقوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } أيضاً لا يَقْتَضِي النِّفَاق ، إِلاَّ أنَّ المُنَافِقَ داخل في هذه الصِّفَاتِ الخَمْس ، والمرائي أيضاً .

فصل في ما أثر عن السلف في بيان " ألد الخصام "

قال مُجاهدٌ : أَلَدُّ الخِصَام : معناهُ : ظَالِمٌ لا يستقيمُ{[47]} وقال السُّدِّيُّ - رحمه الله تعالى - أعوجُ الخِصَامِ{[48]} .

وقال قتادةُ : شديدُ القَسْوة في المعَصية ، جدلٌ بالباطل ، عالم اللِّسان ، جاهل العمل ، يتقلد بالحكمة ، ويعملُ بالخطيئة{[49]} .

فصل في بيان أمر الاحتياط في الدِّين

قال القُرطبيُّ{[50]} : قال عُلماؤُنَا : في الآية الكريمة دليلٌ على أَنَّ الاحتياط فيما يتعلق بأُمُور الدِّين والدُّنيا ، واستبراء أحوال الشهود والقضاة ، وأَنَّ الحاكم لا يعملُ على ظاهر أَحوالِ النَّاسِ وما يبدو من إيمانهم ، وصلاحهم ؛ حتى يَبْحث عن باطنهم ؛ لأَنَّ الله تعالى بَيَّنَ أَحوال النَّاسِ ، وأَنَّ منهم من يظهرُ قولاً جميلاً ، وهو يَنْوي قَبِيحاً .

فإِنْ قِيلَ : هذا يَعارضُ قوله عليه السَّلام : " أُمِرتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لا إِله إِلاَّ اللَّهُ{[51]} " وقوله : " فَأَقْضِيَ لَهُ بِنَحو ما أَسْمَعُ " .

فالجوابُ : هذا كان في صدر الِسلامِ ، حيثُ كان إِسْلاَمُهُم سلامتهم ، وأمَّا الآن ، وقد عَمَّ الفسادُ ، فلا ، قاله ابنُ العَرَبيّ{[52]} .

والصَّحيحُ : أَنَّ الظَّاهِرَ يَعملُ عليه ، حَتّى يبين خلافه .


[23]:ينظر: الدر المصون 2/6.
[24]:ينظر ديوانه ص 216، ولسان العرب (ثور)، وخزانة الأدب 7/210، ورصف المباني ص 41 والمصنف 1/68، والدر المصون 2/6.
[25]:قرأ بها عيسى بن عمر كما في الشواذ 129، وستأتي في سورة "ص" آية 1،2.
[26]:تقدمت.
[27]:سقط في أ.
[28]:سقط في أ.
[29]:ينظر: المشكل 1/123.
[30]:ينظر: الكتاب 3/324.
[31]:ينظر:الإملاء 1/ 122.
[32]:ينظر: الكشاف 1/335، والمحرر الوجيز 1/397، والبحر المحيط 2/ 389، الدر المصون 2/7. وأما رد الفارسي لكلام أبي إسحاق الزجاج وانتصاره للأخفش فلم أجده في "الحجة" في مظنته، بل إنه لم يحك مذهب كسر الميم.
[33]:ينظر معاني القرآن للزجاج 1/327. وفي ب الذي حكاه الأخفش من كسر الميم- خطأ لا يجوز، ولا تقوله العرب لثقله.
[34]:وهذا الطعن عندي ضعيف، لأن الكسرة حركة فيها بعض الثقل والياء أختها، فإذا اجتمعا، عظم الثقل، ثم يحصل الانتقال منه إلى النطق بالألف في قولك: "الله" وهو في غاية الخفة، فيصير اللسان منتقلا من أثقل الحركات إلى أخف الحركات، والانتقال من الضد إلى الضد دفعة واحدة صعب على اللسان، أما إذا جعلنا الميم مفتوحة، انتقل اللسان من فتحة الميم إلى الألف في قولنا: "الله" فكان النطق بها سهلا، فهذا وجه تقرير قول سيبويه والله أعلم. ينظر الرازي 7/134.
[35]:(10) في أ: وبقوله.
[36]:سقط في أ.
[37]:روي ذلك عن مقاتل، وذكره أبو حيان في البحر المحيط 2/389.
[38]:آية 61 من سورة آل عمران. والبهل: اللعن: وفي حديث ابن الصبغاء قال: الذي بهله بريق أي الذي لعنه ودعا عليه رجل اسمه بريق. وبهله الله بهلا: لعنه. وعليه بهلة الله وبهلته أي لعنته. وفي حديث أبي بكر: من ولي من أمور الناس شيئا فلم يعطهم كتاب الله فعليه بهلة الله أي لعنة الله، وتضم باؤها وتفتح. وباهل القوم بعضهم بعضا وتباهلوا وابتهلوا: تلاعنوا. والمباهلة: الملاعنة. يقال: باهلت فلانا؟ أي لاعنته، ومعنى المباهلة أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء فيقولوا: لعنة الله على الظالم منا. وفي حديث ابن عباس: من شاء باهلته أن الحق معي. ينظر: اللسان (بهل).
[39]:(نجران) بفتح النون وسكون الجيم: بلد كبير على سبع مراحل من مكة إلى جهة اليمن، يشتمل على ثلاثة وسعين قرية مسيرة يوم للراكب السريع، كذا في زيادات يونس بن بكير بإسناد له في المغازي، وذكر ابن إسحاق أنهم وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وهم حينئذ عشرون رجلا، لكن أعاد ذكرهم في الوفود بالمدينة فكأنهم قدموا مرتين. قال ابن سعد: كان النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليهم، فخرج إليه وفدهم في أربعة عشر رجلا من أشرافهم، وعند ابن إسحاق أيضا من حديث كرز بن علقمة: أنهم كانوا أربعة وعشرين رجلا، وسرد أسماءهم. وفي قصة أهل نجران من الفوائد أن إقرار الكافر بالنبوة لا يدخل في الإسلام، حتى يلتزم أحكام الإسلام، وفيها جواز مجادلة أهل الكتاب، وقد تجب إذا تعينت مصلحته، وفيها مشروعية مباهلة المخالف إذا أصر بعد ظهور الحجة، وقد دعا ابن عباس إلى ذلك ثم الأوزاعي، ووقع ذلك لجماعة من العلماء، ومما عرف بالتجربة أن من باهل وكان مبطلا لا تمضي عليه سنة من يوم المباهلة، ووقع لي ذلك مع شخص كان يتعصب لبعض الملاحدة، فلم يقم بعدها غير شهرين، وفيها مصالحة أهل الذمة على ما يراه الإمام من أصناف المال، ويجري ذلك مجرى الجزية عليهم؛ فإن كلا منهما مال يؤخذ من الكفار على وجه الصغار في كل عام، وفيها بعث الإمام الرجل العالم الأمين إلى أهل الهدنة في مصلحة الإسلام، وفيها منقبة ظاهرة لأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، وقد ذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليا إلى أهل نجران؛ ليأتيه بصدقتاهم وجزيتهم، وهذه القصة غير قصة أبي عبيدة؛ لأن أبا عبيدة توجه معهم، فقبض مال الصلح ورجع، وعلي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يقبض منهم ما استحق عليهم من الجزية، ويأخذ ممن أسلم منهم ما وجب عليه من الصدقة والله أعلم. ينظر فتح الباري 8/428، 429.
[40]:والحبرة والحبرة: ضرب من برود اليمن منمر، والجمع حبر وحبرات. الليث: حبرة ضرب من البرود اليمانية. يقال برد حبير وبرد حبرة، مثل عنبة. على الوصف والإضافة وبرود حبرة. قال: وليس حبرة موضعا أو شيئا معلوما إنما هو وشيء كقولك ثوب قرمز. ينظر لسان العرب 2/749- 750. (حبر)، النهاية في غريب الحديث 1/328.
[41]:سقط في ب.
[42]:سقط في .
[43]:سقط في ب.
[44]:سقط في أ.
[45]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/151- 152) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/4) وزاد نسبته لابن إسحاق وابن المنذر عن محمد بن جعفر بن الزبير وذكره أبو حيان في "البحر المحيط (2/389) وانظر "التفسير الكبير" للفخر الرازي (7/154).
[46]:- البيت لابن خلكان القناني: ينظر إصلاح المنطق: ص 134، والمقاصد النحوية: 1/154، ولسان العرب: (سما)، وشرح المفصل: 1/42، وأوضح المسالك:1/34، والإنصاف: ص15، وأسرار العربية: ص9، والمغني: 1/154.
[47]:-البيت للأحوص ينظر: ديوانه: 193، القرطبي: 1/71، والدر المصون: 1/55..
[48]:-في أ: أنها ثبتت
[49]:- ينظر الفخر الرازي: 1/93.
[50]:-الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي الأزدي، اليحمدي، أبو عبد الرحمن: ولد سنة 100هـ في البصرة، من أئمة اللغة والأدب، وواضع علم العروض، وهو أستاذ سيبويه النحوي، عاش فقيرا صابرا. قال النضر بن شميل: ما رأى الراءون مثل الخليل، ولا رأى الخليل مثل نفسه، فكر في ابتكار طريقة في الحساب تسهله على العامة؛ فدخل المسجد وهو يعمل فكره؛ فصدمته سارية وهو غافل فكانت سبب موته سنة 170هـ بالبصرة. من كتبه: "العين" و "معاني الحروف" و"العروض" و"النغم". ينظر: وفيات الأعيان: 1/172، وإنباه الرواة1/341، ونزهة الجليس: 1/18، والأعلام: 2/314.
[51]:- في أ: فلو أنك.
[52]:- في أ: ولو.