قوله : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ } .
لمّا ذكر الذين قصرت همَّتهم على الدُّنيا في قوله : " ومِنَ النَّاسِ من يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَة " ، والمؤمنين الذين سألوا خير الدَّارين ، ذكر المنافقين ؛ لأنَّهم أظهروا الإيمان وأسرُّوا الكفر .
قوله تعالى : " مَنْ يُعْجِبُكَ " : يجوز في " مَنْ " أن تكون موصولة ، وأن تكون نكرةً موصوفةً ، وقد تقدَّم نظيرها ، والإعجاب : استحسان الشيء ، والميل إليه ، والتعظيم له ، والهمزة فيه للتعدِّي .
وقال الراغب{[23]} : " العَجَبُ حَيْرَةٌ تَعْرِضُ للإنسان عند الجهل بسبب الشَّيء ، وليس هو شيئاً له في ذاته حالةً ، بل هو بحسب الإضافات إلى من يعرف السَّبب ومن لا يعرفه ، وحقيقة : أعجبني كذا : ظهر لي ظهوراً لم أعرف سببه " ، ويقال : عجبت من كذا ، قال القائل : [ الرجز ]
عَجِبْتُ وَالدَّهْرُ كَثِيرٌ عَجَبُهْ *** مِنْ عَنَزِيَّ سَبَّنِي لَمْ أَضْرِبُهْ{[24]}
قال بعض المفسِّرين : يقال في الاستحسان : أعجبني كذا ، وفي الإنكار والكراهة : عجبت من كذا .
قوله : " في الحَيَاةِ " فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلق ب " قَوْلُهُ " ، أي : يعجبك ما يقوله في معنى الدنيا ، لأنَّ ادِّعاءه المحبة بالباطل يطلب حظّاً من الدنيا .
والثاني : أن يتعلَّق ب " يُعْجِبُكَ " ، أي : قوله حلوٌ فصيحٌ في الدُّنيا ، فهو يعجبك ولا يعجبك في الآخرة ، لما يرهقه في الموقف من الاحتباس واللُّكنة ، أو لأنه لا يؤذن لهم في الكلام ، قال أبو حيان : " والذي يظهر أنه متعلِّق ب " يُعْجِبُكَ " ، لا على المعنى الذي قاله الزمخشري ، بل على معنى أنك تستحسن مقالته دائماً في مدَّة حياته ؛ إذ لا يصدر منه من القول إلا ما هو معجبٌ رائقٌ لطيفٌ ، فمقالته في الظاهر معجبة دائماً ، لا تراه يعدل عن تلك المقالة الحسنة الرائعة إلى مقالةٍ منافيةٍ .
قوله : " وَيُشْهِدُ اللَّهَ " في هذه الجملة وجهان :
أظهرهما : أنها عطف على " يُعْجِبُكَ " ، فهي صلة لا محلَّ لها من الإعراب ، أو صفةٌ ، فتكون في محلِّ رفع على حسب القولين في " مَنْ " .
والثاني : أن تكون حاليةً ، وفي صاحبها حينئذً وجهان :
أحدهما : أنه الضمير المرفوع المستكن في " يُعْجِبُكَ " .
والثاني : أنه الضمير المجرور في " قَوْلُهُ " ، تقديره : يعجبك أن يقول في أمر الدنيا ، مقسماً على ذلك .
وفي جعلها حالاً نظر من وجهين :
أحدهما : من جهة المعنى ، فإنه يلزم منه أن يكون الإعجاب والقول مقيدين بحالٍ ، والظاهر خلافه .
والثاني : من جهة الصِّناعة وهو أنَّه مضارعٌ مثبتٌ ، فلا يقع حالاً إلا في شذوذٍ ؛ نحو : " قُمْتُ وَأَصُكُّ عَيْنَهُ " أو ضرورةً ؛ نحو : [ المتقارب
. . . *** نَجَوْتُ وَأَرْهَنُهُمْ مَالِكَا{[25]}
وتقديره مبتدأً قبله على خلاف الأصل ، أي : وهو يشهد .
والجمهور على ضمِّ حرف المضارعة وكسر الهاء ، مأخوذاً من " أَشْهَدَ " ونصب الجلالة مفعولاً به ، وقرأ أبو حيوة وابن محيصنٍ بفتحهما ورفع الجلالة فاعلاً .
قال القرطبيُّ - رحمه الله تعالى - ويؤيِّده قراءة{[26]} ابن عباسٍ " واللَّهُ يَشْهَدُ عَلَى مَا في قَلْبِهِ " .
وقرأ أُبَيٌّ{[27]} : " يَسْتَشْهِدُ اللَّهَ " .
فأمَّا قراءة الجمهور وتفسيرهم ، فإن المعنى : يحلف بالله ويشهده أنّه صادقٌ ، وقد جاءت الشهادة بمعنى القسم في آية اللِّعان ، وقيل : فيكون اسم الله منتصباً على حذف حرف الجر ، أي : يقسم بالله ، قال شهاب الدين : وهذا سهوٌ من قائله ؛ لأنَّ المستعمل بمعنى القسم " شَهِدَ " الثلاثيٌّ ، لا " أَشْهَدَ " الرباعيُّ ، لا تقول : أُشْهِدُ بالله ، بل : أَشْهَدُ بالله ، فمعنى قراءة الجمهور : يطَّلع الله على ما في قلبه ، ولا يعلم به أحدٌ ، لشدة تكتُّمه .
وأمَّا تفسير الجمهور : فيحتاج إلى حذف ما يصحُّ به المعنى ، تقديره : ويحلف بالله على خلاف ما في قلبه ؛ لأن الذي في قلبه هو الكفر ، وهو لا يحلف عليه ، إنما يحلف على ضدِّه ، وهو الذي يعجب سامعه ، ويقوِّي هذا التأويل قراءة{[28]} أبي حيوة ؛ إذ معناها : ويطَّلع الله على ما قلبه من الكفر . وأمَّا قراءة أُبيًّ : فيحتمل " ستَفْعَلَ " وجهين :
أحدهما : أن يكون بمعنى " أَفْعَلَ " ؛ فيوافق قراءة الجمهور .
والثاني : أنه بمعنى المجرَّد وهو " شَهِدَ " ، وتكون الجلالة منصوبةً على إسقاط الخافض .
قوله : { وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } الكلام في هذه الجملة كالتي قبلها ، وهنا وجهٌ آخر ، وهو أن تكون حالاً من الضمير في " يُشْهِدُ " ، والألد : الشديد ؛ من اللَّدد ، وهو شدة الخصومة ؛ قال : [ الخفيف ]
إنَّ تَحْتَ التُّرَابِ عَزْماً وحَزْماً *** وَخَصِيماً أَلَدَّ ذَا مِغْلاَقِ{[29]}
ويقال : لَدِدت بكسر العين ألَدُّ بفتحها ، ولدَدته بفتح العين ألُدُّه بضمها أي : غلبته في ذلك ، فيكون متعدياً ، قال الشاعر : [ الرجز ]
تَلُدُّ أَقْرَانَ الرِّجَالِ اللُّدِّ{[30]} *** . . .
تلدُّ أقران الرِّجال ، معناه أنّه في أي وجه أخذ خصمه من اليمين أو الشمال في أبواب الخصومة غلبه .
ورجل ألدُّ وألنددٌ ويلنددٌ ، وامرأةٌ لدَّاء ، والجمع " لُدٌّ " ك " حُمْرٍ " .
وفي اشتقاقه أقوالٌ : قال الزجَّاج{[31]} : من لُديدَي العنق ، وهما صفحتاه .
وقيل : من لديدي الوادي ، وهما جانباه ، سمِّيا بذلك ؛ لاعوجاجهما .
وقيل : هو من لدَّه إذا حبسه ، فكأنه يحبس خصمه عن مفاوضته .
أحدهما : قال الزجَّاج : وهو جمع خصمٍ بالفتح ؛ نحو : كعبٍ وكعابٍ ، وكلبٍ وكلابٍ ، وبحرٍ وبحارٍ ، وعلى هذا فلا تحتاج إلى تأويل .
والثاني : قال الخليل وأبو عبيد إنه مصدر ، يقال : خاصمَ خصاماً ، نحو قاتلَ قتالاً ، وعلى هذا فلا بد من مصحِّح لوقوعه خبراً عن الجثَّة ، فقيل : في الكلام حذف من الأول ، أي وخصامه أشدُّ الخصام ، وجعل أبو البقاء " هو " ضمير المصدر الذي هو " قوله " فإنه قال : ويجوز أن يكون " هُوَ " ضمير المصدر الذي هو " قَوْلُهُ " وهو خصام ، والتقدير : خصامه ألدُّ الخصام .
وقيل : من الثاني : أي : وهو أشدُّ ذوي الخصام ، وقيل : أريد بالمصدر اسم الفاعل ؛ كما يوصف به في قولهم : رجل عدلٌ وخصمٌ ، وقيل : " أَفْعَلُ " هنا ليست للتفضيل ، بل هي بمعني لديد الخصام ، فهو من باب إضافة الصفة المشبهة ، وقال الزمخشريُّ{[32]} : والخِصَامُ المُخَاصَمَةُ ، وإضافةُ الألدِّ بمعنى " في " ؛ كقولهم : " ثَبْتُ الغَدْرِ " يعني أن " أَفْعَلَ " ليس من باب ما أضيف إلى ما هو بعضه ، بل هي إضافة على معنى " في " ؛ قال أبو حيان : وهذا مخالفٌ لما يَزْعُمُهُ النحاة من أنَّ " أَفْعَلَ " لا تضاف إلا إلى ما هي بعضه ، وفيه إثبات الإضافة بمعنى " في " ، وهو قولٌ مرجوحٌ ، وقيل : " هُوَ " ليس ضمير " مَنْ " بل ضمير الخصومة يفسِّره سياق الكلام ، أي : وخصامه أشدُّ الخصام .
قال بعض المفسِّرين : هذه الآية الكريمة مختصَّة بأقوام معيَّنين ، وقال بعضهم : إنّها عامة في كلِّ من اتَّصف بهذه الصِّفة ، والأولون اختلفوا على وجوهٍ :
أحدها : أنها نزلت في الأخنس بن شريق{[33]} الثقفي حليف بني زهرة ، واسمه : أُبي ، وسمِّي الأخنس ؛ لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة من بني زهرة عن قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان رجلاً حلو المنظر ، حلو الكلام ، وكان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجالسه ويظهر الإسلام ، ويقول : إنيّ أحبُّك ، ويحلف بالله على ذلك ، وكان منافقاً ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدنيه في مجلسه ، وكان حسن العلانية خبيث الباطن ، فخرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم فمرَّ بزرع لقوم من المسلمين فأحرق الزَّرع ، وقيل : المواشي ، وقيل : بيَّت قوماً من ثقيف فلبسهم ، وأهلك مواشيهم ، وأحرق زرعهم .
وقال مُقاتِلٌ{[34]} : خرج إلى الطَّائف مُقْتَضِياً مالاً لَهُ على غرِيم فَأَحْرَقَ له كدساً{[35]} ، وعَقَرَ لَهُ أَتاناً{[36]} ، والنّسلُ : نَسْل كُلّ حيوان من ناطقٍ ، وغيره ؛ فنزلت الآية الكريمة .
الثَّاني : أنَّ الأَخْنَس أَشَار على بني زهرة بالرُّجُوع يوم بدرٍ وقال لهُم : إِنَّ مُحَمَّد ابن أخيكم ، فإِنْ يَكُ كَاذِباً كفاكموه سائر النَّاس ، وإن يَكُ صَادِقاً كنتم أَسعَدَ النَّاسِ به ، قالُوا نِعْمَ الرَّأيُ ما رَأَيَتَ قال : فإذا نودي في النَّاس بالرحيل فإنّي أخنس بكم ، فاتَّبِعُوني ، ثمَّ انخنَسَ بثلاثِمائة من بني زُهْرَة عن قِتَال رسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وسُمِّيَ بهذا السَّبب الأَخنس ، فبلغ ذلك رسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فأعجبه .
قال ابنُ الخطيب{[37]} : وعندي أَنَّ هذا القول ضعيفٌ ، لأَنَّهُ لا يَسْتَوجِبُ الذَّمَّ بهذا العمل ، والآية مذكورة في معرض الذَّمِّ ، فلا يمكن حَمْلُها عليه .
الثالث : روي عن ابن عبَّاس والضحَّاك أنَّ كُفَّار قريش بعثوا إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - " أَنَّا قد أَسلمنا ، فابعثْ إِلَيْنَا نفراً مِنْ عُلَمَاءِ أَصْحَابك ، فبعثَ إليهم جماعَة ، فنزلوا ببطن الرجيع ، ووصل الخَبَرُ إلى الكُفَّارِ ، فَرَكِبَ منهم سبعون راكباً ، وأَحَاطُوا بهم ، وَقَتَلُوهم ، وصَلَبُوهُم ، فَنَزَلَتْ هذه الآية الكريمة ، ولذلك عقَّبَهُ بقول " مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتَغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ{[38]} " فَنَبَّه بذلك على حال هؤُلآءِ الشَّهداء .
القولُ الثَّاني : وهو اختيارُ أكثر المحقِّقين من المُفسِّرين ، أنَّها عامَّة في كُلِّ من اتَّصف بهذه الصِّفَةِ المَذْكُورة ، نقل عن محمَّد بن كعب القُرظِي{[39]} أنَّه جرَى بَيْنَهُ وبَيْنَ غيره كلام في الآية فقال : إِنَّها وإن نزلت فيمن ذكرتهم ، فلا يَمْتنعُ أن تنزل الآية الكريمة في الرَّجُلِ ، ثم تَكُونُ عامَّة في كُلِّ مَنْ كان موصوفاً بهذه الصِّفات .
وَرَوَتْ عائشة - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم قال :- " إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَلَدُّ الخَصِمُ{[40]} " .
قال ابن الخطيب{[41]} : نُزُول الآية الكريمة على سبب لا يمنعُ من العُمُومِ ، بل في الآية الكريمة ما يَدُلُّ على العُمومِ مِنْ وجوه :
الأول : أَنَّ ترتيب الحُكم على الوصف المُنَاسِبِ مشعراً بالعلِّيَّة{[42]} .
الثاني : أَنَّ الحَمْلَ على العُموم أكثر فائدة ، لأَنَّهُ زجرٌ لكلِّ مكلَّف عن تِلك الطَّريقةِ المَذْمُومَةِ .
الثالث : أَنَّهُ أَقربُ إلى الاحتياطِ .
قال قتادةُ ومُجاهدٌ وجماعة من العلماء : نزلت في كُلِّ مُبْطنٍ كُفراً ، أو نِفاقاً ، أو كذباً أو إضراراً ، وهو يظهر بلسانِهِ خلاف ذلك{[43]} ، فهي عامة .
قال القرطبي{[44]} رحمه الله : وهي تشبه ما ورد في التِّرمذيّ أَنّ في بعض الكُتُب أَنَّ اللَّهَ تعالى يقُولُ : " إِنَّ مِنْ عِبَادِي قوماً ألسِنَتُهُمْ أَحْلَى من العسَلِ ، وقلوبهم أَمَرّ مِنَ الصَّبْرِ ، يَلْبسون للنَّاس جُلُودَ الضَّأْنِ مِنَ اللِّين ، يشترُون الدُّنيا بالدِّين ، يقُولُ الله - تبارك وتعالى - إِنَّهُم لمُغترُّون ، وعلى اللَّهِ يجترئُونَ فبي حلفت لأُسَلِّطَنَّ عليهم فِتنَةً تدَعُ الحليم منهم حيران . ومعنى : " وَيُشْهِدُ الله " ، أي : يقول : اللَّهُ يعلم أَنَّي أقُولُ حَقّاً .
اختلفُوا في المَوْصُوف بالصِّفاتِ المذكورة في الآية ، هل هو مُنَافقٌ أمْ لا ؟
قال ابنُ الخطيب{[45]} : إنَّها لا تدلُّ على ذلك ، فإِنَّ قوله : { يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } لا دلالة فيه على صِفةٍ مَذْمُومةٍ ، إِلاَّ من جهة الإِيماء{[46]} الحاصل بقوله { فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } ، فإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ : فُلاَن حُلْوُ الكَلاَمِ فيما يَتَعَلَّق بالدُّنيا أَوْهَم نوعاً من المَذمَّةِ .
وقوله : { وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ } لا دلالة فيه على حالَةٍ مُنْكرةٍ ، وإِن أَضمرنا فيه أَنَّهُ يُشْهِدُ اللَّهَ على ما في قلبه ، مع أنَّ قلبه بخلاف ذلك لأَنَّهُ ليس في الآية أَنَّ القَوْلَ الَّذي أَظْهرهُ هو الإِسلامُ والتَّوحِيدُ حتى يكُون خلافه نِفَاقاً ، بل يَحْتَمِلُ أن يُضْمِر الفساد ، ويظهر ضِدَّهُ ، فَيَكُونُ مُرائِياً .
وقوله : { وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } أيضاً لا يُوجِبُ النِّفَاقَ .
وقوله : { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا } فالمفسد قد يكون مُسْلِماً .
وقوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } أيضاً لا يَقْتَضِي النِّفَاق ، إِلاَّ أنَّ المُنَافِقَ داخل في هذه الصِّفَاتِ الخَمْس ، والمرائي أيضاً .
فصل في ما أثر عن السلف في بيان " ألد الخصام "
قال مُجاهدٌ : أَلَدُّ الخِصَام : معناهُ : ظَالِمٌ لا يستقيمُ{[47]} وقال السُّدِّيُّ - رحمه الله تعالى - أعوجُ الخِصَامِ{[48]} .
وقال قتادةُ : شديدُ القَسْوة في المعَصية ، جدلٌ بالباطل ، عالم اللِّسان ، جاهل العمل ، يتقلد بالحكمة ، ويعملُ بالخطيئة{[49]} .
فصل في بيان أمر الاحتياط في الدِّين
قال القُرطبيُّ{[50]} : قال عُلماؤُنَا : في الآية الكريمة دليلٌ على أَنَّ الاحتياط فيما يتعلق بأُمُور الدِّين والدُّنيا ، واستبراء أحوال الشهود والقضاة ، وأَنَّ الحاكم لا يعملُ على ظاهر أَحوالِ النَّاسِ وما يبدو من إيمانهم ، وصلاحهم ؛ حتى يَبْحث عن باطنهم ؛ لأَنَّ الله تعالى بَيَّنَ أَحوال النَّاسِ ، وأَنَّ منهم من يظهرُ قولاً جميلاً ، وهو يَنْوي قَبِيحاً .
فإِنْ قِيلَ : هذا يَعارضُ قوله عليه السَّلام : " أُمِرتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لا إِله إِلاَّ اللَّهُ{[51]} " وقوله : " فَأَقْضِيَ لَهُ بِنَحو ما أَسْمَعُ " .
فالجوابُ : هذا كان في صدر الِسلامِ ، حيثُ كان إِسْلاَمُهُم سلامتهم ، وأمَّا الآن ، وقد عَمَّ الفسادُ ، فلا ، قاله ابنُ العَرَبيّ{[52]} .
والصَّحيحُ : أَنَّ الظَّاهِرَ يَعملُ عليه ، حَتّى يبين خلافه .