سورة الرعد{[1]}
مقصودها وصف الكتاب بأنه الحق في نفسه ، وتارة يتأثر عنه مع أن له{[2]} صوتا وصيتا وإرعابا وإرهابا{[3]} يهدي بالفعل ، وتارة لا يتأثر بل يكون سببا للضلال والعمى ، وأنسب ما فيها{[4]} لهذا{[5]} المقصد الرعد ، فإنه مع كونه حقا في نفسه يسمعه الأعمى والبصير{[6]} والبارز{[7]} والمستتر ، وتارة يتأثر عنه البرق والمطر وتارة لا{[8]} ، وإذا نزل{[9]} المطر فتارة ينفع إذا أصاب الأراضي الطيبة وسلمت من عاهة ، و تارة يخيب{[10]} إذا نزل على السباخ الخوارة{[11]} ، وتارة يضر بالإغراق أو{[12]} الصواعق أو{[13]} البرد وغيرها- والله أعلم .
{ بسم الله } الحق الذي كل ما عداه باطل { الرحمن } الذي عم{[14]} بالرغبة والرهبة{[15]} بعموم رحمته{[16]} { الرحيم } الذي خص من شاء بما يرضاه عظيم الوهية { المر } .
لما ختم التي قبلها بالدليل على حقية القرآن وأنه هدى ورحمة لقوم يؤمنون ، بعد أن أشار إلى كثرة ما يحسونه{[43282]} من آياته في السماوات والأرض مع الإعراض{[43283]} ، ابتدأ هذه{[43284]} بذلك على طريق اللف والنشر المشوش لأنه أفصح للبداءة في نشره بالأقرب فالأقرب فقال : { تلك } أي الأنباء المتلوة والأقاصيص المجلوة المفصلة بدر المعاني وبديع الحكم وثابت القواعد والمباني العالية المراتب { آيات } والآية : الدلالة{[43285]} العجيبة في التأدية إلى المعرفة { الكتاب } المنزل إليك { و } جميع { الذي } .
ولما كان تحقق أن هذا الكتاب من عند الملك أمراً لا يطرقه{[43286]} مرية لما له من الإعجاز ، وكذا ما تبعه من بيانه بالسنة لما له من الحق الذي لا يخفى على كل{[43287]} عاقل ، وكان ما{[43288]} تحقق أنه كذلك{[43289]} يعلم أن{[43290]} الآتي به لا يكون إلا عظيماً ، بني للمفعول قوله : { أنزل إليك } كائن { من ربك } فثبت حينئذ قطعاً أنه هو { الحق } أي الموضوع كل شيء منه في موضعه على{[43291]} ما تدعو إليه الحكمة ، الواضح الذي لا يتخلف شيء منه عن مطابقة الواقع من بعث ولا غيره ، فهو أبعد شيء عن قولهم : إن وعده بالبعث سحر ، فوجب{[43292]} لثبوت{[43293]} حقيته{[43294]} على كل من اتصف بالعقل أن{[43295]} يؤمن به { ولكن أكثر الناس } أي الآنسين بأنفسهم المضطربين{[43296]} {[43297]} في آرائهم{[43298]} ، { لا يؤمنون } أي لا يتجدد منهم إيمان أصلاً بأنه حق في نفسه وأنه من عند الله ، بل يقولون : إنه من عند محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وإنه تخييل ليست معاينة ثابتة - كما قلنا{ وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين }[ يوسف : 103 ] فليس هدى لهم كاملاً ولا رحمة تامة ، هذا التقدير محتمل ، ولكن الذي يدل عليه ظاهر{[43299]} قوله تعالى :{ أفمن يعلم أنما{[43300]} أنزل إليك من ربك الحق }[ الرعد : 19 ] أن { الذي } مبتدأ ، و { من ربك } صلة { أنزل } والخبر { الحق } والمقصود من هذه السورة هذه الآية ، وهي وصف المنزل بأنه الحق وإقامة الدليل عليه ، وذلك لأنه{[43301]} لما تم وصف الكتاب بأنه حكيم محكم مفصل مبين ، عطف الكلام إلى تفصيل أول{[43302]} سورة البقرة ، والإيماء إلى أنه حان اجتناء الثمرة في هذه السورة والتي بعدها ، ويلتحم بذلك وصف{[43303]} المصدقين بذلك - كما ستقف عليه .
وقال الإمام أبو جعفر ابن زبير رحمه الله في برهانه : هذه السورة تفصيل لمجمل{[43304]} قوله سبحانه في خاتمة سورة يوسف عليه السلام{ وكأيّن من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون * وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون * أفامنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون * قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله{[43305]} على بصيرة{[43306]} أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين{[43307]} }[ يوسف : 105-106-107-108 ] فبيان{[43308]} آي السماوات في{[43309]} قوله { الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى } وبيان آي الأرض في قوله : { وهو الذي مد الأرض وجعل فيها{[43310]} رواسي وأنهاراً ومن كل الثمرات جعل{[43311]} فيها{[43312]} زوجين اثنين } فهذه آي السماوات والأرض ، وقد زيدت بياناً في مواضع ، ثم في قوله تعالى : { يغشى الّيل النهار } ما يكون{[43313]} من الآيات عنهن ، لأن الظلمة عن جرم الأرض ، والضياء عن نور الشمس وهي سماوية .
ثم زاد تعالى آيات الأرض بياناً وتفصيلاً في قوله تعالى : { وفي الأرض قطع متجاورات }[ الرعد : 4 ] إلى قوله :{ لقوم يعقلون }[ الرعد :4 ] . ولما كان إخراج الثمر بالماء النازل من السماء من أعظم آية ، ودليلاً واضحاً على صحة المعاد ، ولهذا قال تعالى{[43314]} في الآية الأخرى{ كذلك نخرج الموتى }[ الأعراف : 57 ] وكان قد ورد هنا{[43315]} أعظم جهة في الاعتبار من إخراجها مختلفات{[43316]} في الطعوم و{[43317]} الألوان والروائح مع اتحاد المادة " يسقى{[43318]} " بماء واحد{[43319]} ونفضل بعضها على بعض في الأكل لذلك ما أعقب قوله تعالى : { وفي الأرض قطع متجاورات } الآية بقوله{[43320]} { وإن تعجب فعجب قولهم إذا كنا ترابا أئنّا لفي خلق جديد } ثم{[43321]} بين سبحانه الصنف القائل بهذا وأنهم الكافرون أهل الخلود في النار ، ثم أعقب ذلك ببيان عظيم حلمه وعفوه فقال{ ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة }[ الرعد : 6 ] الآية ، ثم أتبع ذلك{[43322]} بما يشعر بالجري على السوابق{[43323]} في قوله{ إنما أنت منذر ولكل قوم هاد }[ الرعد : 7 ]
ثم بين عظيم ملكه واطلاعه على دقائق ما أوجده من جليل صنعه واقتداره فقال { الله يعلم ما تحمل كل انثى وما تغيض الأرحام{[43324]} } الآيات إلى قوله : { وما لكم من دونه من وال }
ثم خوف عباده وأنذرهم ورغبهم{ هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً }[ الرعد : 12 ] ، الآيات وكل ذلك راجع إلى ما أودع سبحانه في السماوات والأرض وما بينهما من الآيات ، وفي ذلك أكثر آي السورة ونبه تعالى على الآية الكبرى والمعجزة العظمى فقال :{ ولو أن قراناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى }[ الرعد :31 ] والمراد : لكان هذا القرآن{ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً{[43325]} }[ النساء :82 ] والتنبيه بعظيم{[43326]} هذه الآيات مناسب لمقتضى السورة من التنبيه بما أودع{[43327]} تعالى من الآيات في السماوات والأرض ، {[43328]}
وكأنه جل وتعالى لما بين لهم عظيم ما أودع في السماوات والأرض{[43329]} وما بينهما من الآيات وبسط ذلك وأوضحه ، أردف ذلك بآية أخرى جامعة للآيات ومتسعة للاعتبارات فقال تعالى : { ولو أن قرآناً سيرت به الجبال }[ الرعد :31 ] فهو من نحو{ إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم{[43330]} }[ الجاثية :3 ] أي{[43331]} لو فكرتم{[43332]} في آيات{[43333]} السماوات والأرض لأقلتكم وكفتكم في بيان الطريق إليه و{[43334]} لو فكرتم{[43335]} في أنفسكم وما أودع تعالى فيكم{[43336]} من العجائب لاكتفيتم " من عرف نفسه عرف ربه " فمن قبيل هذا الضرب من الاعتبار هو الواقع في سورة الرعد من بسط آيات{[43337]} السماوات والأرض ، ثم ذكر القرآن وما يحتمل ، فهذه إشارة إلى ما تضمنت هذه السورة الجليلة من بسط الآيات المودعة في الأرضين والسماوات .
وأما{[43338]} قوله تعالى{ وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون }[ يوسف :106 ] فقد أشار إليه قوله تعالى : { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون إنما يتذكر أولوا الألباب }{[43339]} وقوله تعالى : { الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله لا بذكر الله تطمئن القلوب }[ الرعد :28 ] فالذين تطمئن قلوبهم بذكر الله هم أولو الألباب المتذكرون التامو الإيمان وهم القليل{[43340]} المشار إليهم في قوله{[43341]} تعالى{ وقليل ما هم }[ ص :24 ] والمقول فيهم{ أولئك هم المؤمنون حقاً }[ الأنفال :4 ] ودون هؤلاء طوائف من المؤمنين ليسوا في درجاتهم ولا بلغوا يقينهم ، وإليهم الإشارة بقوله :{ وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون }[ يوسف :106 ] قال عليه الصلاة والسلام " الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل " فهذا بيان ما أجمل في قوله { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } وأما قوله تعالى :{ أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله }[ يوسف :107 ] فما عجل لهم من ذلك في قوله : { ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريباً من دارهم حتى يأتي وعد الله } القاطع دابرهم ، و{[43342]} المستأصل لأمرهم .
وأما قوله تعالى : { قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة }[ يوسف :108 ] الآية ، فقد أوضحت آي سورة الرعد سبيله عليه السلام وبينته بما تحملته{[43343]} من عظيم التنبيه وبسط الدلائل بما في السماوات والأرض وما بينهما وما في العالم بجملته{[43344]} وما تحمله الكتاب المبين - كما تقدم ، ثم قد{[43345]} تعرضت السورة لبيان جليّ سالكي{[43346]} تلك السبيل الواضحة المنجية فقال تعالى :{ الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق }[ الرعد :20 ] إلى آخر ما حلاهم به أخذاً وتركاً ، ثم عاد{[43347]} الكلام بعد إلى ما فيه من التنبيه والبسط وتقريع الكفار وتوبيخهم وتسليته عليه السلام في أمرهم{ إنما أنت منذر ولقد أرسلنا رسلاً{[43348]} من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية }[ الرعد : 38 ] ، { فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب }[ الرعد :40 ] { ويقول الذين كفروا لست مرسلاً }[ الرعد : 43 ] ، والسورة بجملتها{[43349]} غير حائدة عن تلك الأغراض المجملة في الآيات الأربع المذكورات من آخر سورة يوسف ، ومعظم السورة وغالب آيها في التنبيه وبسط الدلالات والتذكير بعظيم ما أودعت من الآيات ؛ ولما كان هذا شأنها أعقبت بمفتتح سورة إبراهيم{[43350]} عليه السلام - انتهى .