ولما ذكر سبحانه وصيته بهما وأكد حقهما ، أتبعه الدليل على ما ذكر لقمان عليه السلام من قباحة الشرك فقال : { وإن جاهداك } أي مع ما أمرتك به من طاعتهما ، وأشار بصيغة المفاعلة إلى مخالفتهما وإن بالغا {[53850]}في الحمل{[53851]} على ذلك { {[53852]}على أن تشرك بي{[53853]} } وأشار بأداة الاستعلاء إلى أنه لا مطمع لمن أطاعهما في ذلك ولو باللفظ فقط أن يكون في عداد المحسنين وإن كان الوالدان في غاية العلو والتمكن من الأسباب الفاتنة له بخلاف سورة العنكبوت فإنها لمطلق الفتنة ، وليست لقوة الكفار ، فعبر فيها{[53854]} بلام العلة{[53855]} ، إشارة إلى مطلق الجهاد الصادق {[53856]}بقويه وضعيفه{[53857]} ، ففي الموضعين نوع رمز إلى أنه إن ضعف عنهما{[53858]} أطاع{[53859]} باللسان ، ولم يخرجه ذلك عن الإيمان ، كما أخرجه هنا{[53860]} عن الوصف بالإحسان ، ولذلك حذر في الآية التي بعد تلك من النفاق لأجل الفتنة ، وأحال سبحانه على اتباع الأدلة على حكم ما وهب من العقل عدلاً وإنصافاً فقال{[53861]} : { ما ليس لك به علم } إشارة إلى أنه لا يمكن أن يدل علم من أنواع العلوم على شيء من الشرك بنوع من أنواع الدلالات بل العلوم كلها دالة على الوحدانية على الوجه الذي تطابقت عليه العقول ، وتظافرت عليه من الأنبياء والرسل النقول ، و{[53862]}أما الوجه{[53863]} الذي سماه أهل الإلحاد بمذهب الاتحاد توحيداً{[53864]} فقد كفى في أنه ليس به علم إطباقهم على أنه خارج عن طور العقل ، مخالف لكل ما ورد عن الأنبياء من نقل ، وإن لبسوا بإدعاء متابعة بعض الآيات كما بينه كتابي الفارض ، فلا يمكن أن يتمذهب به أحد إلا بعد الانسلاخ من العقل
والتكذيب بالنقل ، فلم يناد أحد على نفسه بالإبطال ما نادوا به على{[53865]} أنفسهم{[53866]} ولكن من يضلل{[53867]} الله {[53868]}فما له من هاد{[53869]} .
فلما قرر ذلك على هذا المنوال البديع ، قال مسبباً عنه : { فلا تطعهما } أي في ذلك ولو اجتمعا على المجاهدة لك عليه ، بل خالفهما ، وإن أدى الأمر إلى السيف فجاهدهما به ، لأن أمرهما بذلك مناف للحكمة{[53870]} حامل على محض الجور والسفه ، ففيه تنبيه لقريش على محض الغلط في التقليد{[53871]} لآبائهم في ذلك .
ولما كان هذا قد يفهم الإعراض عنهما رأساً في كل أمر إذا خالفا في{[53872]} الدين ، أشار إلى أنه ليس مطلقاً فقال : { وصاحبهما في الدنيا } أي في أمورها{[53873]} التي لا تتعلق بالدين {[53874]}ما دامت حياتهما{[53875]} .
ولما كان المبنى على النقصان عاجزاً عن الوفاء بجميع الحقوق ، خفف عليه بالتنكير{[53876]} في قوله : { معروفاً } أي{[53877]} ببرهما إن كانا على دين يقران عليه ومعاملتهما بالحلم والاحتمال وما تقتضيه مكارم الأخلاق ومعالي الشيم ، قال ابن ميلق : ويلوح من هذه المشكاة تعظيم الأشياخ الذين كانوا في العادة سبباً لإيجاد القلوب في دوائر التوحيد العلمية والعملية - يعني ففي سوق هذه الوصية هذا المساق أعظم تنبيه على أن تعظيم الوسائط من الخلق ليس مانعاً من الإخلاص في التوحيد ، قال ابن ميلق : ومن هنا زلت أقدام أقوام تعمقوا في دعوى التوحيد حتى أعرضوا عن جانب الوسائط فوقعوا{[53878]} في الكفر من حيث زعموا التوحيد ، فإن تعظيم المعظم في الشرع تعظيم لحرمات الله ، وامتثال لأمر الله ، ولعمري إن هذه المزلة ليتعثر بها أتباع إبليس حيث أبى أن يسجد لغير الله ، ثم قال ما معناه : و{[53879]}هؤلاء قوم{[53880]} أعرضوا عن تعظيم الوسائط زاعمين الغيرة على مقام التوحيد ، وقابلهم قوم أسقطوا الوسائط جملة وقالوا : إنه{[53881]} ليس في الكون إلا هو ، وهم أهل الوحدة المطلقة ، والكل على ضلال ، والحق الاقتصاد والعدل في إثبات الخالق وتوحيده ، وتعظيم من أمر بتعظيمه من عبيده .
ولما كان ذلك قد يجر{[53882]} إلى نوع وهن في الدين ببعض محاباة ، نفى ذلك بقوله : { واتبع } أي بالغ في أن تتبع { سبيل } أي دين وطريق { من أناب } أي أقبل خاضعاً { إليّ } لم يلتفت إلى عبادة غيري ، وهم المخلصون من أبويك و{[53883]}غيرهما ، فإن ذلك لا يخرجك{[53884]} عن برهما ولا عن توحيد الله والإخلاص له ، وفي هذا حث على معرفة الرجال بالحق ، وأمر بحك المشايخ وغيرهم على محك الكتاب والسنة ، فمن كان عمله موافقاً لها اتبع ، ومن كان عمله مخالفاً لهما اجتنب .
ولما كان التقدير : فإن مرجع أموركم كلها في الدنيا إليّ ، عطف عليه قوله : { ثم إليّ } أي في الآخرة ، لا إلى غيري{[53885]} مرجعك - هكذا كان الأصل ، ولكنه جميع لإرادة التعميم فقال معبراً بالمصدر الميمي الدال على الحدث{[53886]} وزمانه ومكانه : { مرجعكم } حساً ومعنى ، فأكشف الحجاب { فأنبئكم } أي أفعل فعل من يبالغ في التنقيب والإخبار عقب ذلك وبسببه ، لأن ذلك أنسب شيء للحكمة و{[53887]}إن كان{[53888]} تعقيب كل شيء بحسب ما يليق به { بما كنتم } بما هو لكم كالجبلة { تعملون* } أي تجددون عمله من صغير وكبير ، وجليل وحقير ، وما كان في جبلاتكم مما{[53889]} لم يبرز إلى الخارج ، فأجازي من أريد وأغفر لمن أريد{[53890]} ، فأعد لذلك عدته{[53891]} ، ولا
تعمل عمل من ليس له مرجع يحاسب فيه ويجازي على مثاقيل الذر من أعماله ، ولعله عبر {[53892]}عن الحساب{[53893]} بالتنبئة لأن العلم بالعمل{[53894]} سبب للمجازاة عليه أو{[53895]} لأنه جمع{[53896]} القسمين ، ومحاسبة السعيد العرض فقط بدلالة التضمن ومحاسبة الشقي بالمطابقية .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.