نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ جَاعِلِ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ رُسُلًا أُوْلِيٓ أَجۡنِحَةٖ مَّثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۚ يَزِيدُ فِي ٱلۡخَلۡقِ مَا يَشَآءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (1)

ولما أثبت سبحانه في التي قبلها الحشر الذي هو الإيجاد الثاني ، ودل عليه بجزئيات من القدرة على أشياء في الكون ، إلى أن ختم بأخذ الكفار أخذاً اضطرهم إلى الإيمان بظهور الحمد لهم أتم ظهور ، وبالحيلولة بينهم وبين جميع ما يشتهون كما كانوا متعوا في الدنيا بأغلب ما يشتهون من كثرة الأموال والأولاد ، وما مع ذلك من الراحة من أكثر الأنكاد ، وكان الحمد يكون بالمنع والإعدام ، كما يكون بالإعطاء والإنعام ، قال تعالى ما هو نتيجة ذلك : { الحمد } أي الإحاطة بأوصاف الكمال إعداماً وإيجاداً { لله } أي وحده .

ولما كان الإيجاد من العدم أدل على ذلك ، قال دالاً على استحقاقه للمحامد : { فاطر } أي مبتدئ ومبتدع { السماوات والأرض } أي المتقدم أن له ما فيهما بأن شق العدم بإخراجهما منه ابتداء على غير مثال سبق كما تشاهدون ولما كانت الملائكة إفراداً وجمعاً مثل الخافقين في أن كلاًّ منهم مبدع من العدم على غير مثال سبق من غير مادة ، وكان قد تقدم أنهم يتبرؤون من عبادة الكفرة يوم القيامة ، وكان لا طريق لعامة الناس إلى معرفتهم إلا الخبر ، أخبر عنهم بعد ما أخبر عما طريقه المشاهدة بما هو الحق من شأنهم ، فقال مبيناً بتفاوتهم في الهيئات تمام قدرته وأنها بالاختيار : { جاعل الملائكة رسلاً } أي لما شاء من مراده وإلى ما شاء من عباده ظاهرين للأنبياء منهم ومن لحق بهم وغير ظاهرين { أولي أجنحة } أي تهيؤهم لما يراد منهم ؛ ثم وصف الأجنحة فقال ( مثنى ) أي جناحين جناحين لكل واحد لمن لا يحتاج فيما صرف فيه إلى أكثر من ذلك ، ولعل ذكره للتنبيه على أن ذلك أقل ما يكون بمنزلة اليدين . ولما كان ذلك زوجاً نبه على أنه لا يتقيد بالزوج فقال : { وثلاث } أي ثلاثة ثلاثة لآخرين منهم . ولما كان لو اقتصر على ذلك لظن الحصر فيه ، نبه بذكر زوج الزوج على أن الزيادة لا تنحصر فقال : { ورباع } أي أربعة أربعة لكل واحد من صنف آخر منهم .

ولما ثبت بهذا أنه فاعل بالاختيار دون الطبيعة وغيرها ، وإلا لوجب كون الأشياء غير مختلفة مع اتحاد النسبة إلى الفاعل ، كانت نتيجة ذلك : { يزيد في الخلق } أي المخلوقات من أشياء مستقلة ومن هيئات للملائكة وغيرهم ومعاني لا تدخل تحت حصر من الذوات والألوان والمقادير والأشكال وخفة الروح واللطافة والثقالة والكثافة وحسن الصوت والصيت والفصاحة والسذاجة والمكر والسخاوة والبخل وعلو الهمة وسفولها - وغير ذلك مما يرجع إلى الكم والكيف مما لا يقدر على الإحاطة به غيره سبحانه ، فبطل قول من قال : إنه فرغ من الخلق في اليوم السابع عند ما أتم خلق آدم فلم يبق هناك زيادة ، كاليهود وغيرهم على أن لهذا المذهب من الضعف والوهي ما لا يخفى غير أنه سبحانه أوضح جميع السبل ، ولم يدع بشيء منها لبساً : { ما يشاء } فلا بدع في أن يوجد داراً أخرى تكون لدينونة العباد ، ثم علل ذلك كله بقوله مؤكداً لأجل إنكارهم البعث : { إن الله } أي الجامع لجميع أوصاف الكمال { على كل شيء قدير * } فهو قادر على البعث فاعل له لا محالة .

وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لما أوضحت سورة سبأ أنه سبحانه مالك السماوات والأرض ، ومستحق الحمد في الدنيا والآخرة ، أوضحت هذه السورة أن ذلك خلقه كما هو ملكه ، وأنه الأهل للحمد والمستحق ، إذ الكل خلقه وملكه ، ولأن السورة الأولى تجردت لتعريف العباد بأن الكل ملكه وخلقه دارت آيها على تعريف عظيم ملكه ، فقد أعطي داود وسليمان عليهما السلام ما هو كالنقطة من البحار الزاخرة ، فلان الحديد وانقادت الرياح والوحوش والطير والجن والإنس مذللة خاضعة

{ قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير }[ سبأ : 22 ] تعالى ربنا عن الظهير والشريك والند ، وتقدس ملكه عن أن تحصره العقول أو تحيط به الأفهام ، فتجردت سورة سبأ لتعريف العباد بعظيم ملكه سبحانه ، وتجردت هذه الأخرى للتعريف بالاختراع والخلق ، ويشهد لهذا استمرار آي سورة فاطر على هذا الغرض من التعريف وتنبيهها على الابتداءات كقوله تعالى { جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى } الآية ، وقوله { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها هل من خالق غير الله يرزقكم } وقوله : { أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً } الآية ، وقوله : { الله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً } الآية { والله خلقكم من تراب يولج اليّل في النهار ويولج النهار في اليّل } { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها } { هو الذي جعلكم خلائف في الأرض } { إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا } فهذه عدة آيات معرفة بابتداء الخلق ، والاختراع أو مشيرة ولم يقع من ذلك في سورة سبأ آية واحدة ، ثم إن سورة سبأ جرت آيها على نهج تعريف الملك والتصرف فيه والاستبداد بذلك والإبداد ، وتأمل افتتاحها وقصة داود وسليمان عليهما السلام ، وقوله سبحانه { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة } الآيات يتضح لك ما ذكرناه وما انجرّ في السورتين مما ظاهره الخروج عن هاذين الغرضين فملتحم ومستدعى بحكم الانجرار بحسب استدعاء مقاصد الآي - رزقنا الله الفهم عنه بمنه وكرمه - انتهى .