التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَيَمۡنَعُونَ ٱلۡمَاعُونَ} (7)

( 6 ) الماعون : روى المفسرون أنها المعونة إطلاقا ، أو أنها الزكاة ، أو أنها أدوات البيت كالقدر والدلو والفأس ونحو ذلك ، وكل ذلك وراد .

1

ختام السورة:

مدى وتلقينات آيات السورة

ومن تلقينات السورة الرئيسية تقريرها لكون جحود الإنسان للآخرة هو الذي يشجعه على اقتراف الآثام في الدنيا ، وعلى قسوة القلب إزاء الضعفاء واليتامى والمساكين ، إذا أمن الجزاء والمقابلة ، وفي هذا توكيد لتقريرات قرآنية سابقة ، ولحكمة الله التي جعلت للحياة الدنيا تتمة في حياة أخرى لجزاء كل امرئ بما عمل . كما أن فيه مظهرا من مظاهر حكمة التنزيل في تكرار الإنذار بالحياة الأخرى ، وجعل الإيمان بها ركنا من أركان الإسلام ، على ما شرحناه في سياق سورة الفاتحة .

وتخصيص اليتيم والمسكين بالذكر لا يعني -كما هو المتبادر- أن قهر الأول وحرمان الثاني هما عنوان التكذيب بالآخرة وجزائها حصرا . فهذا أسلوب من أساليب القرآن ، وهناك آيات قرآنية كثيرة- منها مما سبق -تذكر آثاما أخرى عامة وخاصة يقترفها الإنسان نتيجة لجحوده ذلك . وقد يعني تخصيص ذلك بالذكر هنا قصد التنويه بخطورة أمر اليتيم والمسكين . وهو ما تكرر كثيرا في القرآن ، وقد سبق منه أمثلة عديدة ، وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار .

وفي التنديد بالمصلين اللاهية قلوبهم عن صلاتهم تنبيه لوجوب تذكر المصلي الله ، وإفراغ قلبه له حينما يقف أمامه متعبدا ، وتقرير ضمني بأنه بذلك فقط يتأثر بصلاته تأثرا يبعث فيه السكينة والطمأنينة ، ويرتفع به إلى أفق الروحانية العلوية كما هو مجرب عند كل من يفعل ذلك حقا . ويوقظ فيه الضمير ، فيبتعد عن الفحشاء والمنكر ، ويندفع نحو الخير والصلاح . وكل هذا من مقاصد الصلاة بالإضافة إلى كونها واجب العبادة ومظهر الخضوع لله ، على ما شرحناه في سياق سورة العلق . أما اللاهون فلا يتأثرون ذلك التأثير الباعث الموقظ الوازع الدافع ، فتكون صلاتهم عملا آليا لا روح فيها ولا حياة ، ويكون القصد منها الرياء والخداع ، ولا تكون بعد مقبولة عند الله .

وجملة { يراؤون } [ 6 ] جاءت مطلقة لتنعي الرياء على الإنسان إطلاقا ، سواء أكان يرائي في صلاته أم في أي موقف وعمل آخر . وتتضمن بناء على ذلك تنديدا بخطورة خلق الرياء وبشاعته ؛ حيث يكون المتخلق به أمام الله مخادعا ، وأمام الناس كاذبا مضللا ساخرا ، وتنبيها إلى ما في انتشار هذا الخلق في مجتمع من المجتمعات من الشر العام .

ولقد تكرر النعي القرآني على هذا الخلق والنهي عنه كما جاء في سورة البقرة هذه : { يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رثاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين } ، وآية سورة النساء هذه : { والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا } ، وآية سورة الأنفال هذه : { ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط } ، وآية سورة النساء هذه : { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا } .

ولقد أثرت أحاديث نبوية عديدة في ذم الرياء والمرائين . منها حديث أخرجه الترمذي عن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تعوذوا بالله من جب الحزن " . قالوا : يا رسول الله وما جب الحزن ؟ قال : واد في جهنم تتعوذ منه جهنم كل يوم ألف مرة " . قيل : يا رسول الله من يدخله ؟ قال : " القراء المراءون بأعمالهم " {[1]} . وحديث رواه البغوي بطرقه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن أخوفَ ما أخاف عليكم الشرك الأصغر " . قالوا : يا رسول الله وما الشرك الأصغر ؟ قال : " الرياء " . وحديث رواه الترمذي ومسلم عن أبي سعيد بن أبي فضالة قال : ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا جمع الله الناس يوم القيامة ليوم لا ريب فيه ، نادى مناد : من كان أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله ، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك " {[2]} . ولمسلم عن أبي هريرة حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه : " قال الله تبارك وتعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك . من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه " {[3]} .

وحديث رواه مسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن أول الناس يقضي يوم القيامة عليه رجل استشهد ، فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها ، قال : فما عملت فيها ؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت . قال : كذبت ، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء ، فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار . ورجل تعلم العلمَ وعلّمه وقرأ القرآن ، فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها . قال : فما عملت فيها ؟ قال : تعلمت العلم وعلمته ، وقرأت فيك القرآن . قال : كذبت ، ولكنك تعلمتَ العلم ليقال : عالم ، وقرأت القرآن ليقال : قارئ ، فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار . ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله ، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها . قال : ما عملت فيها ؟ قال : ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها المال إلا أنفقت فيها لك . قال : كذبت ، ولكنك فعلت ليقال : هو جواد ، فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه ، ثم ألقي في النار " {[4]} .

وننبه على أن هناك حديثا فيه استدراك يحسن سوقه في هذا المساق رواه الترمذي جاء فيه : ( قال رجل : يا رسول الله ، الرجل يعمل العمل فيسره ، فإذا اطلع عليه أعجبه ذلك ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " له أجران : أجر السر ، وأجر العلانية " {[5]} . حيث يفيد هذا أن الرياء المعاقب عليه هو ما قصد صاحب العمل أن يقال عنه ، وليس خالصا لله . وأنه إذا كان عمل المرء عملا بنية خالصة وعرفه الناس وأعجبوا به لا يعد من هذا الباب .

والتنديد بما نعى الماعون سواء أكان المعونة عامة ، أم الزكاة ، أم أدوات البيت ، جدير بالتنويه من حيث كون منع الماعون مظهرا من مظاهر عدم التعاون ، وعدم تبادل المعروف ، أو عدم بذل ما يكون الآخر في حاجة إليه من عون . ومن حيث تضمنه حقا لكل مسلم على تجنبه ، وعلى بذل كل عون يقدر عليه إلى من هو في حاجة إليه ، وهو ما تكرر تقريره في آيات عديدة مرت أمثلة منها .

ولقد روى مسلم وأبو داود والترمذي حديثا عن أبي هريرة قال : ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة . ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة . ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة . والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه " {[6]} ؛ حيث يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الشأن ، كما هو في كل شأن .


[1]:التاج جـ 5 ص 382.
[2]:كتب السيد رشيد رضا في تفسيره في صدد هذه النقطة وفي سياق آية مماثلة للآية هنا وهي الآية [128] من سورة الأنعام أكثر من خمس وعشرين صفحة استعرض فيها أقوال من يقول بالتأييد ومن يقول بخلافه وأورد حججهم النقلية والعقلية وانتهى إلى إناطة الأمر إلى حكمة الله ورحمته وعدله.
[3]:التاج جـ 5 ص 173 و 174.
[4]:التاج جـ 5 ص 173 و 174.
[5]:انظر تفسير الآيات في كشاف الزمخشري
[6]:تفسير الخازن