التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِيٓ أَكِنَّةٖ مِّمَّا تَدۡعُونَآ إِلَيۡهِ وَفِيٓ ءَاذَانِنَا وَقۡرٞ وَمِنۢ بَيۡنِنَا وَبَيۡنِكَ حِجَابٞ فَٱعۡمَلۡ إِنَّنَا عَٰمِلُونَ} (5)

بسم الله الرحمن الرحيم

{ حم ( 1 ) تنزيل من الرحمن الرحيم ( 2 ) كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون ( 3 ) بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون ( 4 ) وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون ( 5 ) قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين ( 6 ) الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون ( 7 ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون ( 8 ) } [ 1- 8 ] .

بدأت السورة بحرفي الحاء والميم كسابقتها وما قلناه في حرفي سابقتها نقوله هنا . وقد أعقبهما تنويه بكتاب الله تعالى وتقرير بكونه منزلا من الرحمن الرحيم مفصل الآيات واضح البيان والغايات بلسان عربي لقوم يستطيعون أن يفهموه ويدركوا ما احتواه ليكون لهم بشيرا ونذيرا . ثم أعقب ذلك تنديد بالكفار الذين أعرضوا عنه ، ولم يستمعوا له وكانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن قلوبنا محجوبة فلا يتسرب إليها شيء مما تدعونا إليه ، وإن في آذانهم صمما يجعلهم لا يسمعون ما يتلوه عليهم وإن بيننا وبينك سدا لا ينفذ إلينا منه شيء من أقوالك ونذرك ، وإنهم ثابتون مصرون على ما هم عليه فليفعل ما يشاء . وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرد عليهم فيها بقوله لهم إنه بشر مثلهم يوحى إليه أن إله الناس جميعا واحد ، وإن كل ما عليه أن يدعوهم إليه وإلى السير في طريقه المستقيم والاستغفار عما بدا منهم من ذنوب وأخطاء ، وأن ينذر المشركين الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يؤتون زكاة أموالهم بالويل ، وأن يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات بأجر الله الدائم .

والآيات كما هو المتبادر بسبيل حكاية موقف جدلي حجابي بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين ، وبدء السورة بمثابة مقدمة لحكاية هذا الموقف مما جرى عليه النظم القرآني .

ووصف سامعي القرآن بوصف { لقوم يعلمون ( 3 ) } ينطوي على صورة لما كان عليه المخاطبون العرب أو زعماؤهم ونبهاؤهم على الأقل من الفهم والإدراك . وينطوي على الأقل على تقرير كونهم يفهمون اللغة القرآنية ومعاني الآيات القرآنية . ولذلك جاءت الآيات التالية للآية الثانية التي احتوت هذه الجملة تعلل موقفهم بكونه موقف المكابر العنيد المتصامم عن قصد وتصميم .

ولقد روى البغوي بطرقه في سياق الآية الأخيرة توضيحا لمدى جملة { لهم أجر غير ممنون ( 8 ) } حديثا عن عبد الله بن عمر قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة ثم مرض قيل للملك الموكل به اكتب له مثل عمله إذا كان طليقا حتى أطلقه أو أكفته إلي ) . حيث ينطوي في الحديث توضيح لمدى الجملة وتبشير وتطمين مستمران للمؤمنين المخلصين متساوقان مع ما انطوى فيها .

ووصف المشركين بوصفي { الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون ( 7 ) } جدير بالتنويه حيث يمكن أن يكون بقصد وصفهم بأظهر سببين جعلاهم يقفون موقف الجحود من الرسالة النبوية . ولقد شغل هذان السببان حيزا كبيرا في القرآن ، وبخاصة المكي منه مما مرت منه أمثلة كثيرة ؛ حيث يؤيد هذا ما قلناه من أنهما أظهر سببين فاقتضت حكمة التنزيل وصف المشركين بهما هنا .

ولقد روى بعض المفسرين{[1800]} في سياق تفسير هذه الآيات رواية ينطوي فيها صورة لما كان من تأثير القرآن على بعض زعماء قريش حينما كانت تتيح لهم الفرص سماعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم على انفراد ، حيث روي أن زعماء قريش كلفوا أحدهم عتبة بن ربيعة ليأتي النبي صلى الله عليه وسلم فينصحه بالكف عما هو فيه ويعرض عليه باسمهم ما يرضاه من مطالب الدنيا فجاء إليه وقال له فيما قال : إنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت به جماعتهم ، وسفهت به أحلامهم ، وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم ، فاسمع مني أعرض عليك أمورا لعلك تقبل منها بعضها . فقال له : قل أسمع . فقال : إن كنت تريد مالا جمعنا لك أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت تريد شرفا سودناك حتى لا نقطع دونك أمر ، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا – جنيا – طلبنا لك الأطباء وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك . فلما انتهى قال له : استمع مني ثم أخذ يقرأ هذه السورة حتى بلغ موضع السجدة منها فسجد ، فسجد معه عتبة ثم انصرف إلى قومه متغير الوجه فسألوه فقال لهم : إني سمعت كلاما حلوا نافذا ما هو بقول شاعر ولا سجع كاهن ولا نفث ساحر ثم اقترح عليهم أن يخلوا بينه وبين العرب فإن تصبه العرب فقد كفوه بغيرهم وإن يظهر عليهم فملكه ملكهم وعزه عزهم وكانوا أسعد الناس به ، فقالوا له : سحرك والله بلسانه ، ثم ظلوا مصرين على عنادهم وجحودهم .


[1800]:انظر تفسير الآيات في تفسير ابن كثير والبغوي.