البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِيٓ أَكِنَّةٖ مِّمَّا تَدۡعُونَآ إِلَيۡهِ وَفِيٓ ءَاذَانِنَا وَقۡرٞ وَمِنۢ بَيۡنِنَا وَبَيۡنِكَ حِجَابٞ فَٱعۡمَلۡ إِنَّنَا عَٰمِلُونَ} (5)

ثم أخبر تعالى عنهم بالمقالة الدالة على امتناع قلوبهم ، والناس من رجوعهم إليه ومن سماعهم لما يتلوه ، وهو قوله تعالى ، حكاية عنهم : { وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذننا وقر } ، تقدم الكلام على شبه ذلك في الأنعام .

وقرأ طلحة : وقر بكسر الواو ، وهذه تمثيلات لامتناع قبول الحق ، كأن قلوبهم في غلاف ، كما قالوا : { وقالوا قلوبنا غلف } وكأن أسماعهم عند ذكر كلام الله بها صمم .

والحجاب : الستر المانع من الإجابة ، وهو خلاف في الدين ، لأنه يعبد الله وهم يعبدون الأصنام ، قال معناه الفراء وغيره .

ويروى أن أبا جهل استغشى على رأسه ثوباً وقال : يا محمد ، بيننا وبينك حجاب ، استهزاء منه .

وقيل : تمثيل بعدم الإجابة .

وقيل : عبارة عن العداوة .

ومن في { مما تدعونا } إليه لابتداء الغاية ، وكذا في { ومن بيننا } .

فالمعنى أن الحجاب ابتدأ منا وابتدأ منك ، فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب ، لا فراغ فيها ، ولو لم يأت بمن لكان المعنى أن حجاباً حاصل وسط الجهتين ، والمقصود المبالغة بالتباين المفرط ، فلذلك جيء بمن .

وقال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل : على قلوبنا أكنة ، كما قيل : { وفي آذاننا وقر } ، ليكون الكلام على نمط واحد ؟ قلت : هو على نمط واحد ، لأنه لا فرق في المعنى بين قولك : { قلوبنا في أكنة } ، والدليل عليه قوله تعالى : { إنا جعلنا على قلوبهم } ولو قيل : إنا جعلنا قلوبهم في أكنة ، لم يختلف المعنى ، وترى المطابيع منهم لا يراعون الطباق والملاحظة إلا في المعاني ، وتقول : إن في أبلغ في هذا الموضع من على ، لأنهم قصدوا إفراط عدم القبول ، لحصول قلوبهم في أكنة احتوت عليها احتواء الظرف على المظروف ، فلا يمكن أن يصل إليها شيء .

كما تقول : المال في الكيس ، بخلاف قولك : على المال كيس ، فإنه لا يدل على الحصر ، وعدم الحصول دلالة الوعاء .

وأما في قوله : { إنا جعلنا } ، فهو من أخبار الله تعالى ، لا يحتاج إلى مبالغة ، بخلاف قولهم .

وقول الزمخشري : وترى المطابيع ، يعني من العرب وشعرائهم ، ولذلك تلكم الناس في شعر حبيب ، ولم يستحسن بعضهم كثرة صنعة البديع فيه ؛ قالوا : وأحسنه ما جاء من غير تكلف .

{ فاعمل إننا عاملون } قال الكلبي : في هلاكنا إنا عاملون في هلاكك .

وقال مقاتل : اعمل لإلهك الذي أرسلك ، فإننا عاملون لآلهتنا التي نعبدها .

وقال الفراء : اعمل على مقتضى دينك ، ونحن نعمل على مقتضى ديننا ، وذكر الماوردي : اعمل لآخرتك ، فإنا نعمل لدنيانا .

ولما كان القلب محل المعرفة ، والسمع والبصر معينان على تحصيل المعارف ، ذكروا أن هذه الثلاثة محجوبة عن أن يصل إليها مما يلقيه الرسول شيء .

واحتمل قولهم : { فاعمل إننا عاملون } ، أي تكون متاركة محضة ، وأن يكون استخفافاً .