التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَحَآجَّهُۥ قَوۡمُهُۥۚ قَالَ أَتُحَـٰٓجُّوٓنِّي فِي ٱللَّهِ وَقَدۡ هَدَىٰنِۚ وَلَآ أَخَافُ مَا تُشۡرِكُونَ بِهِۦٓ إِلَّآ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيۡـٔٗاۚ وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيۡءٍ عِلۡمًاۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} (80)

{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ( 74 ) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ( 1 ) وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( 75 ) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ( 2 ) رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ( 3 )( 76 ) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا( 4 ) قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ( 77 ) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ( 78 ) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 79 ) وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ( 80 ) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( 81 ) الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ( 5 ) أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ( 82 ) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( 83 ) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 84 ) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ( 85 ) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ( 86 ) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( 87 ) ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( 88 ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء( 6 ) فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ( 89 ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ( 90 ) } [ 75 – 90 ] .

هذا الفصل جاء عقب فصول الحجاج والنقاش وحكاية المواقف التي كانت بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والكفار جريا على الأسلوب القرآني وبسبيل التمثيل والتذكير والتثبيت . فهو غير منقطع عن السياق السابق ، والآية الأخيرة من الفصل التي وجه الخطاب فيها إلى العرب .

وآيات الفصل واضحة المعاني ولا تحتاج إلى أداء بياني آخر . وقصة إبراهيم عليه السلام مع قومه ذكرت في سورتي الشعراء ومريم بأسلوب آخر فيه بعض الزيادات ؛ حيث يبدو أن حكمة التنزيل حينما اقتضت ذكرها هنا اقتضت أن تكون بالأسلوب الذي جاءت به .

ولقد علقنا على القصة بما فيه الكفاية في سياق تفسير السورتين المذكورتين فلا حاجة إلى الإعادة . غير أننا ننبه هنا إلى أن المفسرين{[922]} أوردوا تفصيلات كثيرة عن هذه القصة في سياق الآيات التي نحن في صددها معزوة إلى علماء الأخبار والسير مما ينطوي فيه دلالة على أنها كانت مما يتناقل ويتداول في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعصره . ومما قد يؤيد ترجيحنا بأنها كانت واردة في أسفار وقراطيس يهودية لم تصل إلينا . ولم نر ضرورة ولا طائلا في إيرادها لأنها ليست مما يتصل بهدف الآيات .

وفي القصة هنا شيء جديد لم يرد في سورتي الشعراء ومريم وهو نظرة إبراهيم عليه السلام إلى الكواكب ثم إلى القمر ثم إلى الشمس وتبرؤه من عبادتها . واحدة بعد أخرى . والراجح أن هذا أيضا ورد في الأسفار التي كانت في أيدي اليهود .

مواضع العبرة

في قصة إبراهيم عليه السلام

أما العبرة فيما جاء في الآيات فهي قائمة في التطابق بين ما حكته من خطاب إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه وتنديده بهم وإعلانه البراءة منهم ونبذة عبادة الكواكب والأوثان التي كانوا يعبدونها واتجاهه إلى الله تعالى وحده ومحاججة قومه له وإفحامه إياهم بالحجج التي ألهمها الله له ، وبين ما حكته الفصول السابقة من مواقف مماثلة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقومه حيث ينطوي في ذلك تثبيت وتطمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وتنديد وإنذار وإفحام للمشركين . وإذا لاحظنا ما تواترت فيه الروايات من تداول العرب خبر صلتهم بإبراهيم بالنبوة والملة وتقاليد الحج ، وهو ما احتوى القرآن إشارات عديدة إليه ، منها آية الحج هذه { وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل } [ 78 ] وآيات سورة البقرة هذه { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ( 125 ) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( 126 ) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 127 ) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( 128 ) } . ظهرت قوة استحكام الإفحام والتمثيل والتذكير والإلزام .

ومن مواضع العبرة في الآيات أيضا التنويه بأنبياء الله وعباده الصالحين وذرياتهم التي سارت على طريقهم وما كان لهم عند الله من الدرجات العليا والإشارة إلى أنهم لم يكونوا يصلون إلى ما وصلوا إليه لو ظلوا على الشرك مثل سائر قومهم ، حيث ينطوي في ذلك لفت نظر المشركين إلى أنهم إذا كانوا يكفرون بآيات الله ويشركون معه غيره ، فقد رمن به أولئك الصالحون الذين أوتوا الحكمة والنبوة والكتاب ، وكانوا موضع تكريم الله وحملة مشعل الهداية إليه ، وتقرير استغناء الله تعالى عنهم ودعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالثبات على موقفهم والإقتداء بهؤلاء الذين هداهم الله .

ومن المفسرين من قال : إن الآية [ 82 ] من كلام إبراهيم عليه السلام لقومه ، ومنهم من قال : إنه تقرير رباني لتوكيد حجة إبراهيم وأنها مطلقة التوجيه{[923]} . وهو ما نرجحه استلهاما من أسلوبها . وقد جرى النظم القرآني على مثل هذه الآيات الاستطرادية والاعتراضية كثيرا ، لقد روى المفسرون{[924]} في سياقها أن المسلمين شق عليهم ما جاء فيها وتساءلوا قائلين أينا يظلم نفسه فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ليس بالذي تعنون أو تظنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح ( إن الشرك لظلم عظيم ) وهذه الفقرة من آية سورة لقمان التي يجيء ترتيب أولها بعد سورة الأنعام بسورتين .

وعلى كل حال ففي الآية تلقين جليل مستمر المدى . فالمؤمنون هم الآمنون المهتدون على شرط أن لا يشوب إيمانهم شائبة ما من شرك وظلم وإثم . وهذا ما تكرر تقريره في القرآن بأساليب متنوعة مرت أمثلة منها .

والآية الأخيرة جاءت خاتمة قوية للفصل حيث أمرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول للمشركين إنه لا يسألهم ولا ينتظر منهم أجرا وإنه إنما يقوم بالمهمة التي انتدبه الله إليها وتبليغ القرآن الذي يوحي الله به إليه ليكون تذكرة للناس جميعا .

تعليق على وصف

إبراهيم عليه السلام بالحنيف

وهذه أول مرة وصف بها إبراهيم عليه السلام في القرآن بالحنيف ثم تكرر ذلك . وقد علقنا على هذه الكلمة في سياق تفسير سورة يونس بما فيه الكفاية . غير أننا بمناسبة وصف إبراهيم بها نقول إن بعض المستشرقين ومنهم كايتاني الطلياني قالوا : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو أول من أشار إلى ملة إبراهيم ووصفه بالحنيف ، وأن هذا كان مجهولا في أوساط العرب . وهذا خطأ فيما نعتقد . فورود الكلمة مكررة في القرآن المكي في صور وصف ملة إبراهيم والروايات المروية عن وجود أشخاص كانوا على ملة إبراهيم موحدين غير مشركين وكانوا يسمونها بالحنيفية على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة يونس دلائل قوية على أن وصف إبراهيم بالحنيف كان مستعملا قبل نزول القرآن ، وأن ملة إبراهيم الحنيفية كان مما يذكر في أوساط العرب ، وأن هذا الوصف كان يعني التوحيد وعدم الشرك كما جاء في آيات عديدة منها إحدى آيات الفصل الذي نحن في صدده ، ومنها آية الحج هذه { حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من الماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ( 31 ) } ولاسيما أن في القرآن إشارات عديدة كما قلنا تفيد تداول العرب صلتهم النبوية بإبراهيم وملته . والمماراة في هذا مكابرة لا شك فيها .

هذا وقد تكلم المفسرون طويلا {[925]} في صدد التأليف بين اسم أبي إبراهيم آزر المذكور في الآيات واسم تارح المذكور في سفر التكوين المتداول{[926]} . والذي نراه أن يوقف عند ما جاء في القرآن . ولا نرى ضرورة لهذه المحاولات ولا طائلا من ورائها فسفر التكوين لم يذكر إلا اسما واحدا وقد عربته العرب بآزر وكفى . ولا نستبعد مع ذلك – إن لم نقل إننا نرجح – أن يكون اسم أبي إبراهيم في النسخ المخطوطة التي كانت في أيدي اليهود هو نفس ما ورد في القرآن أو قريبا منه .

وأسماء الأنبياء المذكورين في السلسلة قد مرت جميعها في السور السابقة عدا اسم ( إلياس ) فإنه يأتي هنا لأول مرة .

وقد ذكر مرة أخرى في سورة الصافات التي تأتي بعد هذه السورة في ترتيب النزول ، وهو تعريب إيليا النبي أحد أنبياء بني إسرائيل . وندع الكلام عنه إلى تفسير السورة التالية


[922]:انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن والبغوي وابن كثير.
[923]:انظر تفسير الآية في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والزمخشري والخازن والمنار.
[924]:المصدر نفسه.
[925]:انظر تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن.
[926]:الإصحاح 12.