إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَحَآجَّهُۥ قَوۡمُهُۥۚ قَالَ أَتُحَـٰٓجُّوٓنِّي فِي ٱللَّهِ وَقَدۡ هَدَىٰنِۚ وَلَآ أَخَافُ مَا تُشۡرِكُونَ بِهِۦٓ إِلَّآ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيۡـٔٗاۚ وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيۡءٍ عِلۡمًاۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} (80)

{ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ } أي شرَعوا في مغالبته في أمر التوحيد { قَالَ } استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال نشأ من حكاية مُحاجَّتهم ، كأنه قيل : فماذا قال عليه السلام حين حاجّوه ؟ فقيل : قال منكِراً لما اجترأوا عليه من مُحاجَّته مع قصورهم عن تلك الرُتبة وعِزّةِ المطلب وقوةِ الخصم { أَتُحَاجُّونّي في الله } بإدغام نونِ الجمعِ في نون الوقاية ، وقرئ بحذف الأولى وقوله تعالى : { وَقَدْ هَدَانِ } حال من ضمير المتكلم مؤكِّدة للإنكار ، فإن كونه عليه السلام مَهدِياً من جهة الله تعالى ومؤيَّداً من عنده مما يوجب استحالةَ مُحاجَّتِه عليه السلام أي أتجادلونني في شأنه تعالى ووحدانيّتِه والحال أنه تعالى هداني إلى الحق بعد ما سلكت طريقتَكم بالفرض والتقدير وتبيَّن بُطلانُها تبيناً تاماً كما شاهدتموه ، وقوله تعالى : { وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ } جوابٌ عما خوّفوه عليه السلام في أثناء المُحاجّة من إصابة مكروهٍ من جهة أصنامِهم كما قال لهودٍ عليه السلام قومُه : { إِن نقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوء } [ هود ، الآية 54 ] ولعلهم فعلوا ذلك حين فعل عليه السلامُ بآلهتهم ما فعل ، و( ما ) موصولةٌ اسميةٌ حُذف عائدُها ، وقوله تعالى : { إِلاَّ أَن يَشَاء رَبّي شَيْئاً } استثناءٌ مفرَّغٌ من أعمِّ الأوقات ، أي لا أخاف ما تشركونه به سبحانه من معبوداتكم في وقتٍ من الأوقات إلا في وقتِ مشيئتِه تعالى شيئاً من إصابة مكروهٍ بي من جهتها ، وذلك إنما هو من جهته تعالى من غير دَخْلٍ لآلهتكم فيه أصلاً ، وفي التعرُّض لعُنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرِه عليه السلام إظهارٌ منه لانقيادِه لحُكمه سبحانه وتعالى ، واستسلامِه لأمره واعترافِه بكَوْنه تحتَ ملَكوتِه ورُبوبيتِه . وقوله تعالى : { وَسِعَ رَبّي كُلَّ شيء عِلْماً } كأنه تعليلٌ للاستثناء ، أي أحاط بكل شيءٍ علماً فلا يبعُد أن يكونَ في علمه تعالى أن يَحيقَ بي مكروهٌ مِنْ قِبَلها بسببٍ من الأسباب ، وفي الإظهار في موضع الإضمارِ تأكيدٌ للمعنى المذكور ، واستلذاذٌ بذكره تعالى { أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } أي أتُعرضون عن التأمل في أن آلهتَكم جماداتٌ غيرُ قادرةٍ على شيء ما مِنْ نفع ولا ضرر ؟ فلا تتذكرون أنها غيرُ قادرة على إضراري ، وفي إيراد التذكّرِ دون التفكر ونظائرِهِ إشارةٌ إلى أن أمرَ أصنامِهم مركوزٌ في العقول لا يتوقفُ إلا على التذكر .