الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَيَوۡمَ يَحۡشُرُهُمۡ كَأَن لَّمۡ يَلۡبَثُوٓاْ إِلَّا سَاعَةٗ مِّنَ ٱلنَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيۡنَهُمۡۚ قَدۡ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ} (45)

قوله تعالى : { وَيَوْمَ } : منصوب على الظرف . وفي ناصبه أوجه ، أحدُها : أنه منصوبٌ بالفعل الذي تضمَّنه قوله : { كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ } الثاني : أنه منصوبٌ ب " يتعارفون " . والثالث : أنه منصوبٌ بمقدر ، أي : اذكر يومَ . وقرأ الأعمش " يَحْشُرهم " بياء الغيبة ، والضمير لله تعالى لتقدُّم اسمه في قوله : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ } .

قوله : { كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ } قد تقدَّم الكلامُ على " كأنْ " هذه . ولكن اختلفوا في محلِّ هذه الجملة على أوجهٍ ، أحدها : أنها في محلِّ نصبٍ صفةً للظرف وهو " يوم " قاله ابن عطية . قال الشيخ : " لا يَصِحُّ لأنَّ " يومَ يحشرُهم " معرفةٌ والجملَ نكرات ، ولا تُنْعَتُ المعرفةُ بالنكرة ، لا يقال : إن الجملَ التي يُضاف إليها أسماءُ الزمانِ نكرةٌ على الإِطلاق لأنها إن كانَتْ في التقدير تَنْحَلُّ إلى معرفة فإن ما أُضيف إليها يتعرَّفُ ، وإن كانت تَنْحَلُّ إلى نكرة كان ما أُضيف إليها نكرةً ، تقول " مررت في يوم قَدِم زيدٌ الماضي " فتصِفُ " يوم " بالمعرفة ، و " جئت ليلةَ قَدِم زيدٌ المباركة علينا " وأيضاً فكأنَّ لم يلبثوا لا يمكن أن يكون صفة لليوم من جهةِ المعنى ؛ لأنَّ ذلك من وصف المحشورين لا مِنْ وصف يوم حشرهم . وقد تكلَّفَ بعضُهم تقديرَ رابطٍ يَرْبطه فقدَّره " كأن لم يَلْبثوا قبله " فحذف " قبله " ، أي : قبل اليوم ، وحَذْفُ مثلِ هذا الرباطِ لا يجوز " ، قلت : قوله : " بعضهم " ، هو مكي ابن أبي طالب فإنه قال : " الكافُ وما بعدها مِنْ " كأنْ " صفةٌ لليوم ، وفي الكلامِ حَذْفُ ضميرٍ يعودُ على الموصوفِ تقديرُه : كأنْ لم يَلْبثوا قبلَه ، فحذف " قبل " فصارت الهاءُ متصلةً ب " يَلْبثوا " فحُذِفَتْ لطولِ الاسم كما تُحْذَفُ من الصِّلات " ونَقَل هذا التقدير أيضاً أبو البقاء ولم يُسَمِّ قائلَه فقال : " وقيل " فذكره .

والوجه الثاني : أن تكونَ الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال من مفعول " يَحْشُرهم " ، أي : يَحْشُرهم مُشْبهين بمَنْ لم يلبث إلا ساعةً ، هذا تقديرُ الزمخشري . وممَّنْ جَوَّز الحالية أيضاً ابنُ عطية ومكي وأبو البقاء ، وجعله بعضُهم هو الظاهر .

الوجه الثالث : أن تكونَ الجملةُ نعتاً لمصدر محذوف ، والتقدير : يَحْشُرهم حَشْراتً كأنْ لم يَلْبَثُوا " ذكر ذلك ابن عطية وأبو البقاء ومكي . وقدّر مكي وأبو البقاء العائد محذوفاً كما قَدَّراه حالَ جَعْلِهما الجملةَ صفةً لليوم ، وقد تقدَّم ما في ذلك .

الرابع : قال ابن عطية : " ويَصِحُّ أن يكونَ قوله { كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ } كلاماً مجملاً " ولم يُبَيِّنْ الفعلَ الذي يتضمَّنه { كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ } .

قال الشيخ : " ولعلَّه أرادَ ما قاله الحوفي مِنْ أنَّ الكاف في موضعِ نصبٍ بما تضمَّنَتْه من معنى الكلام وهو السرعة " انتهى . قال : " فيكونُ التقدير : ويوم يحشرهم يُسْرعون كأنْ لم يَلْبثوا " قلت : فيكونُ " يسرعون " حالاً من مفعول " يَحْشرهم " ويكون { كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ } حالاً من فاعل " يُسْرعون " ، ويجوز أن تكونَ " كأنْ لم " مفسرةً ل " يُسْرعون " المقدرة .

قوله : { يَتَعَارَفُونَ } فيه أوجهٌ ، أحدُها : أن الجملةَ في محل نصبٍ على الحال من فاعل " يَلْبثوا " . قال الحوفي : " يتعارفون " فعل مستقبلٌ في موضع الحال من الضمير في " يلبثوا " وهو العامل ، كأنه قال : متعارفين ، والمعنى اجتمعوا متعارفين " . والثاني : أنها حالٌ من مفعول " يَحْشُرهم " أي : يَحْشُرهم متعارفين والعاملُ فعلُ الحشر ، وعلى هذا فَمَنْ جوَّز تعدُّدَ الحال جوَّز أن تكونَ " كأَنْ لم " حالاً أولى ، وهذه حالٌ ثانية ، ومَنْ مَنَعَ ذلك جَعَلَ " كأَنْ لم " على ما تقدم من غيرِ الحالية . قال أبو البقاء : " وهي حالٌ مقدرة لأنَّ التعارفَ لا يكونُ حالَ الحشر " . والثالث : مستأنفةٌ ، أخبر تعالى عنهم بذلك قال الزمخشري : " فإن قلت : كأن لم يَلْبثوا ويتعارفون كيف موقعهما ؟ قلت : أمَّا الأولى فحالٌ منهم أي : يَحْشُرهم مُشْبهين بمَنْ لم يَلْبث إلا ساعةً ، وأمَّا الثانية : فإمَّا أن تتعلق بالظرف يعني فتكون حالاً وإما أن تكونَ مبينةً لقوله : كأن لم يَلْبثوا إلا ساعةً ؛ لأن التعارف لا يبقى مع طول العهد وينقلب تناكراً " .

قوله : { قَدْ خَسِرَ } فيها وجهان ، أحدهما : أنها مستأنفة أخبر تعالى بأن المكذِّبينَ بلقائِه خاسرون لا محالة ، ولذلك أتى بحرفِ التحقيق . والثاني : أن يكونَ في محل نصبٍ بإضمارِ قولٍ أي : قائلين قد خسر الذين . ثم لك في هذا القول المقدر/ وجهان ، أحدهما : أنه حال مِنْ مفعول " يحشرهم " أي : يحشرهم قائلين ذلك . والثاني : أنه حالٌ من فاعل " يتعارفون " . وقد ذهب إلى الاستئناف والحالية مِنْ فاعل " يتعارفون " الزمخشري فإنه قال : " هو استئنافٌ فيه معنى التعجب كأنه قيل : ما أحشرهم " ثم قال : " قد خَسِر " على إرادة القولِ أي : يتعارفون بينهم قائلين ذلك " ، وذهبَ إلى أنها حالٌ من مفعول " يحشرهم " ابن عطية .

قوله : { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } يجوزُ فيها وجهان ، أحدهما : أن تكونَ معطوفةً على قولِه " قد خَسِر " فيكونُ حكمُه حكمَه . والثاني : أن تكونَ معطوفةً على صلةِ الذين ، وهي كالتوكيد للجملة التي وقعتْ صلةً ؛ لأنَّ مَنْ كذَّب بلقاء الله غيرُ مهتدٍ .