الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَأَشَارَتۡ إِلَيۡهِۖ قَالُواْ كَيۡفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلۡمَهۡدِ صَبِيّٗا} (29)

قوله تعالى : { فَأَشَارَتْ } : الإِشارةُ معروفةٌ تكونُ باليد والعين وغير ذلك وألفُها عن ياءٍ . وأنشدوا لكثيِّر :

فقلتُ وفي الأحشاءِ داءٌ مُخامِرٌ *** ألا حَبَّذا يا عَزُّ ذاك التَّشايُرُ

قوله : { مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً } في " كان " هذه أقوالٌ . أحدُها : أنها زائدةٌ وهو قولُ أبي عبيد ، أي : كيف نُكَلِّمُ مَنْ في المهد . و " صَبِيَّا " على هذا نصبٌ على الحالِ من الضمير المستتر في الجارِّ والمجرورِ الواقع صلةً . وقد رَدَّ أبو بكرٍ هذا القولَ - أعني كونَها زائدةً - بأنها لو كانَتْ زائدةً لَما نَصَبَتِ الخبرَ ، وهذه قد نصَبتْ " صَبيَّا " . وهذا الردُّ مردودٌ بما ذكرتُه مِنْ نصبِه على الحال لا الخبرِ .

الثاني : أنها تامةٌ بمعنى حَدَث ووُجد . والتقدير : كيف نكلِّم مَنْ وُجْد صبيَّا ، و " صَبِيَّاً " حال من الضمير في " كان " .

الثالث : أنها بمعنى صار ، أي : كيف نُكَلِّم مَنْ صار في المهد صَبِيَّا ، و " صَبِيَّا " على هذا خبرُها ، فهو كقوله :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** قَطا الحَزْن قد كانَتْ فِراخاً بُيُوضُها

الرابع : أنها الناقصةُ على بابها مِنْ دلالتِها على اقتران مضمونِ الجملة بالزمان الماضي مِنْ غيرِ تَعَرُّضٍ للانقطاع كقوله تعالى : { وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 96 ] ، ولذلك يُعَبِّر عنها بأنها ترادِف " لم تَزَلْ " . قال الزمخشري : " كان " لإِيقاع مضمون الجملة في زمانٍ ماضٍ مبهمٍ صالحٍ للقريبِ والبعيد . وهو هنا لقريبِه خاصةً ، والدالُّ عليه معنى الكلام ، وأنه مسوقٌ للتعجب . ووجه آخر : وهو أَنْ يكونَ " نُكَلِّمُ " حكاية حالٍ ماضيةٍ ، أي : كيف عُهِد قبل عيسى أَنْ يُكَلِّمَ الناسَ صبيَّا في المهد حتى نُكَلِّمَه نحن " ؟

وأمَّا " مَنْ " فالظاهرُ أنَّها موصولةٌ بمعنى الذي . ويَضْعُفُ جَعْلُها نكرةً موصوفة ، أي : كيف نُكَلِّم شخصاً أو مولوداً . وجَوَّز الفراء والزجاج فيها أَنْ تكون شرطيةً . و " كان " بمعنى " يكنْ " ، وجوابُ الشرطِ : إمَّا متقدِّمٌ وهو " كيف نُكَلِّم " ، أو محذوفٌ لدلالةِ هذا عليه ، اي : مَنْ يكنْ في المهدِ صبياً فكيف نُكَلِّمه ؟ فهي على هذا مرفوعةُ المحلِّ بالابتداءِ ، وعلى ما قبله منصوبتُه ب " نكلِّم " . وإذا قيل بأنَّ " كان " زائدةٌ . هل تتحمَّل ضميراً أم لا ؟ فيه خلاف ، ومَنْ جَوَّز استدلَّ بقوله :

فكيف إذا مَرَرْتَ بدارِ قومٍ *** وجيرانٍ لنا كانوا كرامِ

فرفع بها الواوَ . ومَنْ منع تأوَّل البيتَ بأنها غيرُ زائدةٍ ، وأنَّ خبرَها هو " لنا " قُدِّم عليها ، وفُصِل بالجملة بين الصفة والموصوف .

وأبو عمروٍ يُدغم الدالَ في الصاد . والأكثرون على أنه إخفاءٌ .