اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَأَشَارَتۡ إِلَيۡهِۖ قَالُواْ كَيۡفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلۡمَهۡدِ صَبِيّٗا} (29)

قوله تعالى : { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ } : الإشارةُ معروفةٌ تكون باليد والعين وغير ذلك ، وألفها عن ياءٍ ، وأنشدوا لكثيرٍ : [ الطويل ]

فقُلْتُ وفي الأحشاءِ داءٌ مُخامِرٌ *** ألا حبَّذا يا عزُّ ذَاكَ التَّشايرُ{[21577]}

قوله تعالى : { مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً } في " كَانَ " هذه أقوالٌ :

أحدها : أنها زائدةٌ ، وهو قولُ أبي عبيدٍ ، أي : كيف نُكَلِّمُ من في المهد ، و " صَبِيَّا " على هذا : نصبٌ على الحالِ من الضمير المستتر في الجارُ والمجرورِ الواقع صلة ، وقد ردَّ أبو بكرٍ هذا القول- أعني كونها زائدة- بأنها لو كانت زائدة ، لما نصبت الخبر ، وهذه قد نصبْ " صَبيَّا " وهذا الردُّ مرودٌ بما ذكرتُه من نصبه على الحال ، لا الخبر .

الثاني : أنها تامَّةٌ بمعنى حدوث ووجد ، والتقدير : كيف نكلمُ من وجد صبيَّا ، و " صبيَّا " حال من الضمير في " كان " .

الثالث : أنها بمعنى صار ، أي : كيف نكلِّم من صار في المهد صبيَّا ، و " صَبِيَّا " على هذا : خبرها ؛ فهو كقوله : [ الطويل ]

. . . *** قَطَا الحَزْنِ قد كَانَتْ فِرَاخَاً بُيُوضُهَا{[21578]}

الرابع : أنها النَّاقضةُ على بابها من دلالتها على اقتران مضمونِ الجملة بالزمان الماضي ، من غير تعرُّضٍ للانقطاع ؛ كقوله تعالى : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 96 ] ولذلك يعبَّر عنها بأنَّها ترادفُ " لَمْ تَزلْ " قال الزمخشريُّ : " كان " لإيقاع مضمون الجملة في زمانٍ ماض مبهمٍ صالح للقريبِ والبعيد ، وهو هنا لقريبة خاصَّة ، والدَّالُّ عليه معنى الكلام ، وأنه مسوقٌ للتعجُّب ، ووجه آخر : وهو أن يكون " نُكَلِّمُ " حكاية حالٍ ماضيةٍ ، أي : كيف عُهِدَ قبل عيسى أن يكلم النَّاس في المهد حتى نُكلمه نحنُ ؟

وأمَّا " مَنْ " فالظاهرُ أنَّها موصولةٌ بعنى الذي ، وضعفٌ جعلها نكرة موصوفة ، أي : كيف نكلِّم شخصاً ، أو مولوداً ، وجوَّز الفرَّاء والزجاج{[21579]} فيها أن تكون شرطيَّة ، و " كان " بمعنى " يَكُنْ " وجوابُ الشرطِ : إمَّا متقدِّمٌ ، وهو " كَيْفَ نُكَلِّمُ " أو محذوفٌ ، لدلالةِ هذا عليه ، أي : من يكن في المهدِ صبياً ، فكيف نُكلِّمُهُ ؟ فهي على هذا : مرفوعة المحلِّ بالابتداءِ ، وعلى ما قبله : منصوبته ب " نُكَلِّمُ " وإذا قيل بأنَّ " كان " زائدةٌ ؛ هل تتحمَّلُ ضميراً ، أم لا ؟ فيه خلافٌ ، ومن جوَّز ، استدلَّ بقوله : [ الوافر ]

فكَيْفَ إذا مررْت بدارِ قومٍ *** وجيرانٍ لنَا كَانُوا كِراَم{[21580]}

فرفع بها الواو ، ومن منع ، تأوَّل البيت ، بأنَّها غيرُ زائدةٍ ، وأنَّ خبرها هو " لنا " قُدِّم عليها ، وفصل بالجملة بين الصفة ، والموصوف .

وأبو عمرو يدغمُ الدال في الصاد ، والأكثرون على أنه إخفاء .

فصل في مناظرة مريم لقومها

لمَّا بالغوا في توبيخ مريم سكتت ، وأشارت إلى عيسى ، أن كلِّمُوه .

قال ابنُ مسعود : لمَّا لم يكُن لها حجَّةٌ ، أشارتْ إليه ؛ ليكون كلامهُ حُجَّةً لها ، أي : هو الذي يُجيبُكُم ، إذا ناطَقْتُمُوه{[21581]} .

قال السديُّ : لما أشارتْ إليه ؛ ليكون كلامُه حجَّة ، غضبُوا ، وقالوا : لسُخْريتُهَا بنا أشدُّ من زناها ، و { قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً } ، والمهدُ : هو حجرها{[21582]} .

وقيل : هو المهدُ بعينه .

والمعنى : كيف نكلِّم صبيِّا سبيلهُ أن ينام في المهد ؟ !


[21577]:ينظر: ديوانه 502، البحر المحيط 6/162، الدر المصون 4/503.
[21578]:تقدم.
[21579]:ينظر: معاني القرآن للزجاج 3/328.
[21580]:تقدم.
[21581]:ذكره البغوي في "تفسيره" (3/194).
[21582]:ذكره الرازي في "تفسيره" (21/178).