الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (173)

قوله تعالى : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ } : الجمهُور قرؤوا " حَرَّم " مشدَّد مبنياً للفاعِلِ ، " الميتة " نصباً ، على أنَّ " ما " كافةٌ مهيِّئَةٌ لإِنَّ في الدخولِ على هذه الجملَةِ الفعليةِ ، وفاعلُ " حَرَّم " ضَمِيرُ اللَّهِ تعالى . و " الميتةَ " مفعولٌ به . وابنُ أبي عبلة برفع الميتة وما بعدَها . وتخريجُ هذه القراءةِ سهلٌ ، وهو أن تكونَ " ما " موصولةً ، و " حَرَّمَ " صلتها ، والفاعلُ ضميرُ اللَّهِ تعالى ، والعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ ، تقديرُهُ : حَرَّمه ، والموصولُ وصلتُه في محلِّ نصبٍ اسمُ " إنَّ " و " الميتةُ " خبرُها .

وقرأ أبو جعفر : " حُرَّم " مبنياً للمفعولِ ، فتحتملُ " ما " في هذه القراءةِ وجهين ، أحدُهما : أن تكونَ " ما " مهيِّئَةً ، و " الميتةُ " مفعولُ ما لم يُسَمَّ فاعلُه والثاني : أن تكون موصولةً ، فمفعولُ " حَرَّمَ " القائم مقامَ الفاعلِ ضميرٌ مستكنٌ يعود على " ما " الموصولةِ ، و " الميتةُ " خبرُ " إنَّ " .

وقرأ أبو عبدِ الرحمن السُّلَّمي : " حَرُمَ " بضمِّ الراء مخففةً ، و " الميتةُ " رفعاً " و " ما " تحتملُ الوجهين أيضاً ، فتكونُ مهيئةً ، و " الميتةُ " فاعلٌ بحَرُم ، أو موصولةً ، والفاعلُ ضميرٌ يعودُ على " ما " ، وهي اسمُ " إنَّ " ، و " الميتةُ " خبرُها .

والجمهورُ على تخفيفِ " المَيْتَة " في جميع القرآنِ ، وأبو جَعْفَرٍ بالتشديدِ وهو الأصل ، وهذا كما تقدَّم في أنَّ " المَيْت " مخفَّفٌ من " الميِّت " وأن أصلَه : مَيْوِت ، وهما لغتان ، وسيأتي تحقيقُ ذلك عند قولِه { وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ } [ الآية : 27 ] في آلِ عمران . ويُحْكَى عن قدماءِ النحاة أن " المَيْت " بالتخفيف مَنْ فارقَتْ روحُهُ جسدَه ، وبالتشديد مَنْ عايَنَ أسبابَ الموتِ ولم يَمُتْ . وحكى ابنُ عطية عن أبي حاتم أنَّ ما قد ماتَ يُقالان فيه ، وما لم يَمُتْ بعدُ لا يقال فيه بالتخفيفِ ، ثم قال : " ولم يَقْرَأ أحدٌ بتخفيفِ ما لم يَمُتْ إلا ما رَوَى البزي عن ابنِ كثير : { وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ }

[ إبراهيم : 17 ] . وأمَّا قولُه :

816 - إذا ما ماتَ مَيْتٌ من تميمٍ *** فَسَرَّكَ أن يعيشَ فَجِىءْ بِزادِ

[ فقد حُمِل على مَنْ شارَفَ الموتَ ، وحَمْلُه على الميتِ حقيقةً أبلغُ في الهجاء ] .

وأصل " مَيِّتة " : مَيْوِتَة ، فَأُعِلَّتْ بقَلْبِ الواوِ ياءً وإدغامِ الياءِ فيها ، وقال الكوفيون : أصلُه : مَوِيت ، ووزنُه فَعيل .

واللحمُ معروفٌ ، وجمعه لُحوم ولُحْمان ، يُقال : لَحُمَ الرجلُ بالضم لحامةً فهو لَحِيم ، أي : غَلُظَ ، ولَحِمَ بالكسر يَلْحَم بالفتح فهو لَحِم : اشتاق إلى اللَّحْم وألحمَ الناسُ فهو لاحِمٌ ، أي : أَطعَمَهم اللحمَ ، وأَلْحَمَ كثُر عنده اللحمُ .

والخنزير حيوانٌ معروفٌ ، وفي نونِه قولانِ ؛ أصحُّهما أنَّها أصليةٌ ووزنُه فِعْليل كغِرْبيب . والثاني : أنها زائدةٌ اشتقُّوه من خَزَر العَيْنِ أي : ضيقها لأنه كذلك يَنْظُر . وقيل : الخَزَرُ النظرُ بمؤخَّرِ العَيْنِ ، يقال : هو أَخْزَرُ بيِّنُ الخَزَرِ .

قوله : { وَمَآ أُهِلَّ بِهِ } " ما " موصولةٌ بمعنى الذي ، ومَحَلُّهما : إمَّا النصبُ وإمَّا لرفعُ عطفاً على " الميِّتة " ، والرفعُ : إمَّا على خبر إنَّ ، وإمَّا على الفاعلية على حَسَبِ ما تقدَّم من القراءاتِ . و " أُهِلَّ " مبنيٌّ للمفعول ، والقائمُ مقامَ الفاعلِ هو الجارُّ والمجرورُ في " به " ، والضميرُ يعودُ على " ما " ، والباءُ بمعنى " في " . ولا بُدَّ من حَذْفِ مضافٍ أي : في ذَبْحِه ، لأنَّ المعنى وما صَحَّ في ذَبْحِه لغَيْرِ اللهِ . والإِهلالُ : مصدرُ أَهَلَّ أي : صَرَخَ ورفَع صوتَه ومنه : الهِلال لأنه يُصرَخُ عند رؤيتِه ، واستهَلَّ الصبيُّ . قال ابن أحمر :

يُهِلُّ بالغَرْقَدِ رُكْبَانُها *** كما يُهِلُّ الراكبُ المُعْتَمِرُ

قال النابغة :

أو دُرَّةٌ صَدَفِيَّةٌ غَوَّاصُها *** بَهِجٌ متى يَرَها يَهِلُّ ويَسْجُدُ

وقال :

تَضْحَكُ الضَّبْعُ لقتلى هُذَيْلٍ *** وترى الذئبَ لها يَسْتَهِلُّ

قوله : { فَمَنِ اضْطُرَّ } في " مَنْ " وجهان ، أحدُهما : أن تكونَ شرطيةً . والثاني : أن تكونَ موصولةً بمعنى الذي ، فعلى الأولِ يكونُ " اضطُرَّ " في محلِّ جَزْم بها .

وقوله : { فَلا إِثْمَ } جوابُ الشرطِ ، والفاءُ فيه لازمةٌ . وعلى الثاني لا محلَّ لقولِه : " اضطُّرَّ " من الإِعرابِ لوقوعهِ صلةً ، ودخَلَتِ الفاءُ في الخبرِ تشبيهاً للموصولِ بالشرطِ . ومحلُّ { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } الجزمُ على الأولِ والرفعُ على الثاني .

والجمهورُ على " اضْطُرَّ " بضمِّ الطاءِ وهي أصلُها ، وقرأ أبو جعفر بكسرها لأنَّ الأصل : " اضْطُرِرَ " بكسرِ الراءِ الأولى ، فلمّا أُدْغِمَتِ الراءُ في الراءِ نُقِلَت حركتُها إلى الطاءِ بعد سَلْبِها حَرَكَتَها . وقرأ ابن محيصن : " اطُّرَّ " بإدغام الضادِ في الطاء . وقد تقدَّم الكلامُ في هذه المسألةِ بأشبعَ مِنْ هذا عند قولِه : { ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ } [ البقرة : 126 ] .

وقرأ أبو عمرو وعاصمٌ وحمزةٌ بكسرِ نون " مَنْ " على أصلِ التقاءِ الساكنين ، وضَمَّها الباقون إتباعاً لضمِّ الثالث . وليس هذا الخلافُ مقصوراً على هذه الكلمةِ ، بل إذا التقى ساكنان من كلمتين ، وضُمَّ الثالثُ ضَمَّاً لازماً نحو : { وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ } [ الأنعام : 10 ] { قُلِ ادْعُواْ } [ الإسراء : 110 ] قالتِ اخْرُجْ جرى الخلافُ المذكورُ . إلاَّ أنَّ أبا عمروٍ خرجَ عن أصلِه في { أو } [ المزمل : 3 ] و { قل } [ 110 : الإسراء ] فضمَّهما ، وابنَ ذكوان خرجَ عن أصلِه فكسر التنوين خاصة نحو : { مَحْظُوراً انظُرْ } [ 20-21 : الإسراء ] ، واختُلف عنه في : { بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ } [ الأعراف : 49 ] ، واختُلف عنه في : { خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ } [ إبراهيم : 26 ] ، وسيأتي بيان الحكمةِ في ذلك عند ذكره إنْ شاء الله تعالى .

قوله : { غَيْرَ بَاغٍ } نصبٌ على الحالِ ، واختُلِفَ في صاحبها ، فالظاهر أنه هو الضميرُ المستتر في " اضطُرَّ " ، وجَعَلَه القاضي وأبو بكر الرازي من فاعل فعلٍ محذوفٍ بعد قولِه : " اضطُرَّ " ، قالا : تقديرُه : فمَنْ اضطُرَّ فأكلَ غيرَ باغ ، كأنهما قصدا بذلك أن يَجْعلاه قيداً في الأكلِ لا في الاضطرارِ .

قال الشيخ " ولا يتعيَّن ما قالاه ، إذا يُحْتَملُ أَنْ يكونَ هذا المقدَّرُ بعد قولِه : { غَيْرَ بِاغٍ وَلاَ عَادٍ } بل هو الظاهرُ والأَولى ، لأنَّ في تقديره قبل " غيرَ باغ " فصلاً بين ما ظاهرُه الاتصالُ بما بعده ، وليس ذلك في تقديره بعد قوله : " غيرَ باغ " .

و " عادٍ " اسمُ فاعلٍ من عدا يَعْدُو إذا تجاوزَ حَدَّه ، والأصلُ : عادِوٌ ، فَقُلبت الواوُ ياءٌ لانكسارِ ما قبلها كغازٍ من الغَزْو . وهذا هو الصحيحُ ، وفيه قولٌ ثانٍ : أنه مقلوبٌ من عادَ يعودُ فهو عائدٌ ، فَقُدِّمَتِ اللامُ على العينِ فصارِ اللفظُ : عادِو ، فأُعِلَّ بما تقدَّم ، ووزنُه : فالِع ، كقولهم : شاكٍ في شائِك من الشوكة ، وهارٍ والأصل هائر ، لأنه من هار يَهُور ، قال أبو البقاء : " ولو جاء في غيرِ القرآن منصوباً عطفاً على موضعِ " غير " جاز " يعني فكان يقال : ولا عادياً .

وقد اختلف القُرَّاء في حركةِ التقاء الساكنين مِنْ نحو : { فَمَنِ اضْطُرَّ } ، وبابِِِِه فأبو عمرو وحمزة وعاصم على كسرِ الأولِ منهما ، والباقون على الضم إلا ما يُسْتثنى لبعضهم . وضابطُ محلِّ اختلافهم : كلُّ ساكنين التقيا من كلمتين ثالثُ ثانيهما مضمومٌ ضمةً لازمةً ، نحو : " فَمَنِ اضطُرَّ " { فَمَنِ اضطُرَّ } { أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً } [ المزمل : 3 ] { وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ } [ يوسف : 31 ] { قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ } [ الإسراء : 110 ] { أَنِ اعْبُدُواْ } [ المائدة : 117 ] { وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ } [ الأنعام : 10 ] " محظوراً انظر " : وفُهِم من قولي " كلمتين " الاحترازُ من أن يُفْصَلَ بينهما بكلمةٍ أخرى نحو : { إِنِ الْحُكْمُ } [ الأنعام : 57 ] فإنَّ هذا وإنْ صَدَقَ عليه أنَّ الثالثَ مضمومٌ ضماً لازماً ؛ إلا أنه قد فُصِلَ بينهما بكلمةٍ أخرى وهي أل المعرفة . ومِنْ قولي : " ضمةً لازمةً " الاحترازُ من نحو : { أَنِ امْشُواْ }

[ ص : 26 ] فإنَّ الشين أصلُها الكسرُ ، فَمَنْ كَسَرَ فعلى أصلِ التقاءِ الساكنين ، ومَنْ ضَمَّ فللإِتباع .

واسْتُثْنِي لأبي عمروٍ موضعان فضمَّهما : وهما : " قُل ادْعُوا " " أو انْقُصْ منه " ، واسْتُثْنِي لابن ذكوان عن ابن عامر التنوينُ فكسره نحو : " محظوراً نظر " ، واختلف عنه في لفظتين :

{ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ } [ إبراهيم : 26 ] { بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ } [ الأعراف : 49 ]/ والمقصودُ بذلك الجمعُ بين اللغتين .