الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلۡأَسۡمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمۡ عَلَى ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ فَقَالَ أَنۢبِـُٔونِي بِأَسۡمَآءِ هَـٰٓؤُلَآءِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (31)

قولُه تعالى : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا } . . هذه الجملةُ يجوز إلاَّ يكونَ لها مَحَلٌّ من الإِعرابِ لاستئنافِها ، وأنْ يكونَ محلُّها الجرَّ لعطفِها على " قال ربك " . و " عَلَّم " هذه متعديةٌ إلى اثنين ، وكانت قبلَ التضعيفِ متعديةً لواحدٍ لأنها عرفانيةٌ ، فتعدَّت بالتضعيفِ لآخرَ ، وفَرَّقوا بين " عَلِم " العُرْفانيةِ واليقينيةِ في التعديةِ ، فإذا أرادوا أن يُعَدُّوا العرفانيةَ عَدَّوْها بالتضعيف ، وإذا أرادوا أن يُعَدُّوا اليقينيةَ عَدَّوْها بالهمزةِ ، ذكر ذلك أبو علي علي الشلوبين ، وفاعلُ " عَلَّم " يعودُ على الباري تعالى ، و " آدمَ " مفعولُه .

وفيه ستةُ أقوال ، أرجحُها [ أنه ] اسمٌ أعجميٌّ غيرُ مشتقٍّ ، ووزنُه فاعَل كنظائِره نحو : آزَر وشالَح ، وإنما مُنع من الصرفِ للعَلَمِيَّة والعجمةِ الشخصيةِ ، الثاني : أنه مشتقٌّ من الأُدْمَة ، وهي حُمْرَةٌ تميلُ إلى السوادِ ، الثالث : أنه مشتقٌّ من أَديمِ الأرض ، [ وهو أوجَهُها ومُنِعَ من الصَّرْف على هذين القولين للوزنِ والعلميةِ . الرابعُ : أنه مشتقٌّ من أديمِ الأرض ] أيضاً على هذا الوزنِ أعني وزنَ فاعَل وهذا خطأ ، لأنه كان ينبغي أن يَنْصَرِفَ . الخامس : أنه عِبْرِيٌّ من الإِدام وهو الترابُ . السادس : قال الطبري : " إنه في الأصل فِعْلٌ رباعي مثل : أَكْرَم ، وسُمِّي به لغرضِ إظهارِ الشيء حتى تُعْرَفَ جِهتُه " والحاصلُ أنَّ ادِّعاءَ الاشتقاق فيه بعيدٌ ، لأنَّ الأسماءَ الأعجميةَ لا يَدْخُلُها اشتقاقٌ ولا تصريفٌ ، وآدمُ وإن كانَ مفعولاً لفظاً فهو فاعِلٌ معنى ، و " الأسماءَ " مفعولٌ ثانٍ ، والمسألةُ من باب أعطى وكسا ، وله أحكامٌ تأتي إن شاء الله تعالى .

وقُرئ : " عُلِّم " مبنياً للمفعول ، و " آدمُ " رفعا لقيامهِ مَقامَ الفاعلِ . و " كلَّها " تأكيدٌ للأسماء تابعٌ أبداً ، وقد يلي العواملَ كما تقدَّم . وقولُه " الأسماء كلَّها " الظاهرُ أنه لا يَحْتَاج إلى ادِّعاءِ حَذْفٍ ، لأنَّ المعنى : وَعلَّم آدَمَ الأسماءَ ، [ ولم يُبَيِّنْ لنا أسماءً مخصوصةً ، بل دَلَّ كلُّها على الشمولِ ، والحكمةُ حاصلةٌ بتعلُّمِ الأسماءِ ] ، وإنْ لم يَعْلَمْ مُسَمَّياتِها ، أو يكونُ أَطْلَقَ الأسماءَ وأراد المسميَّات ، فعلى هذين الوجهين لا حَذْفَ . وقيل : لا بدَّ من حذفٍ واختلفوا فيه ، فقيل : تقديرُه : أسماءَ المسمَّيات ، فَحُذِفَ المضافُ إليه للعلم . قال الزمخشري : " وعُوَِّض منه اللامُ ، كقوله تعالى : { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً } [ مريم : 4 ] ورُجِّح هذا القول بقولِه تعالى : { أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَؤُلاءِ . . . فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ } [ البقرة : 31-33 ] ولم يَقُل : أنبئوني بهؤلاءِ فلمَّا أنبأهم بهم . ولكن في قوله : وعُوَّض منه اللام " نظرٌ ، لأن الألف واللام لا يَقُومان مقامَ الإِضافةِ عند البصريين . وقيل : تقديرُه مُسَمَّياتِ الأسماء ، فَحُذِف المضافُ ، وأُقيمَ المضافُ إليه مُقامه ، ورُجِّح هذا القولُ بقولِه تعالى : { ثُمَّ عَرَضَهُمْ } لأن الأسماءَ لا تُجْمَع كذلك ، فدلَّ عَوْدَه على المسميَّاتِ .

ونحوُ هذه الآيةِ قولُه تعالى : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ }

[ النور : 40 ] تقديرُه : أو كذي ظُلُمات ، فالهاءُ في " يَغْشَاه " تعودُ على " ذي " المحذوفِ .

قوله : { ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ } " ثم " حرفٌ للتراخي كما تقدَّم ، والضميرُ في " عَرَضَهُمْ " للمسمِّياتِ المقدَّرةِ أو لإِطلاقِ الأسماءِ وإرادةِ المسمَّيات ، كما تقدَّم . وقيل : يعودُ على الأسماءِ ونُقِل عن ابنِ عباس ، ويؤيِّدهُ قراءةُ مَنْ قرأ : " عَرَضَها وعَرَضَهُنَّ " إلا أنَّ في هذا القول جَعْلَ ضميرِ غير العقلاء كضمير العقلاءِ ، أو نقول : إنما قال ابن عباس ذلك بناءً منه أنّه أطلقَ الأسماء وأراد المسمَّيات كما تقدَّم وهو واضحٌ . و " على الملائكة " متعلق ب " عرضهم " .

قوله : { أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَؤُلاءِ } الإِنباءُ : الإِخبارُ ، وأَصلُ " أنبأ " أن يتعدَّى لاثنين ثانيهما بحرفِ الجر كهذه الآية ، وقد يُحْذَفُ الحرفُ ، قال تعالى : { مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا } [ التحريم : 3 ] أي : بهذا وقد يتضمَّن معنى " أَعْلَم " اليقينية ، فيتعدَّى تعديتَهَا إلى ثلاثةِ مفاعيل ، ومثلُ أنبأ : نَبَّأ وأخبر ، وخبَّر وحدَّث . و " هؤلاء " في محلِّ خفضٍ بالإِضافة ، وهو اسمُ إشارة ورتبتُه دنيا ، ويُمَدُّ ويُقْصَرُ ، كقولِه :

هَؤُلا ثُمَّ هَؤُلا كُلاًّ أعطَيْ *** تَ نِعالاً محْذُوَّة بمِثالِ

والمشهورُ بناؤُه على الكسرِ ، وقد يُضَمُّ وقد يُنَوَّنُ مكسوراً ، وقد تُبْدَلُ همزتُه هاءً ، فتقولُ : هَؤُلاه ، وقد يقال : هَوْلا ، كقوله :

تجلَّدْ لا يَقُلْ هَوْلا هَذَا *** بكَى لَمَّا بكى أَسَفا عليكما

ولامُه عند الفارسي همزةٌ فتكونُ فاؤُه ولامُه من مادةٍ واحدةٍ ، وعند المبرِّد أصلُها ياءٌ وإنما قُلِبَتْ همزةً لتطرُّفها بعد الألفِ الزائدة .

قوله : { إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } قد تقدَّم نظيره ، وجوابُه محذوف أي : إنْ كنتمْ صادقين فأنبئوني ، والكوفيون والمبرد يَرَوْنَ أنَّ الجوابَ هو المتقدِّمُ ، وهو مردودٌ بقولِهِم : " أنتَ ظالمٌ إن فعلْتَ " لأنه لو كان جواباً لوَجَبَت الفاءُ معه ، كما تَجِبُ متأخراً ، وقال ابن عطية : " إنَّ كونَ الجوابِ محذوفاً وهو رأيُ المبرد وكونَه متقدِّماً هو رأيُ سيبويه " وهو وَهْمٌ .