الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيۡطَٰنُ عَنۡهَا فَأَخۡرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِۖ وَقُلۡنَا ٱهۡبِطُواْ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّٞۖ وَلَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرّٞ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ} (36)

قوله : { فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا } : المفعولُ هنا واجبُ التقديمِ لأنه ضميرٌ متصلٌ ، والفاعلُ ظاهرٌ ، وكلُّ ما كان كذا فهذا حكمُه . قرأ حمزة : " فَأَزَالهما " والقِراءتان يُحتمل أن تكونا بمعنىً واحدٍ ، وذلك أنَّ قراءةَ الجماعةِ " أَزَلَّهما " يجوز أَنْ تكونَ مِنْ " زَلَّ عن المكان " إذا تَنَحَّى عنه فتكونَ من الزوالِ كقراءَةِ حمزة ، ويَدُلُّ عليه قولُ امرئ القيس :

كُمَيْتٍ يَزِلُّ اللِّبْدُ عن حالِ مَتْنِهِ *** كما زَلَّتِ الصَّفْواءُ بالمُتَنَزَّلِ

وقال أيضاً :

يَزِلُّ الغلامُ الخِفُّ عن صَهَوَاتِهِ *** ويَلْوِي بأثوابِ العنيفِ المُثَقَّلِ

فَرَدَدْنا قراءَة الجماعة إلى قراءة حمزة ، أو نَرُدُّ قراءَةَ حمزةَ إلى قراءَةِ الجماعة بأَنْ نقول : معنى أزالَهما أي : صَرَفَهُمَا عن طاعةِ الله تعالى فَأَوْقَعَهما في الزَلَّةِ لأنَّ إغواءَه وإيقاعَه لهُما في الزَلَةِ سببُ للزوالِ . ويُحتمل أن تفيدَ كلُّ قراءةٍ معنًى مستقلاً ، فقراءةُ الجماعةُ تُؤْذِنُ بإيقاعهما في الزَّلَّةِ ، فيكونُ زلَّ استنزل ، وقراءةُ حمزة تؤذن بتنحيتِهما عن مكانِهما ، ولا بُدَّ من المجازِ في كلتا القراءتينِ لأن الزَّلَل [ أصلُه ] في زَلَّة القَدَمِ ، فاستُعْمِلَ هنا في زَلَّةِ الرأي ، والتنحيةُ لا يَقْدِر عليها الشيطانُ ، وإنما يَقْدِرُ على الوسوسَةِ التي هي في زَلَّة الرأي ، والتحيةُ لا يقْدِر عليها الشيطانُ ، وإنما يَقْدِرُ على الوسوسَةِ التي هي سببُ التنحيةِ . و " عنها " متعلقٌ بالفعلِ قبلَه . ومعنى " عَنْ " هنا السببيَّةُ إن أَعَدْنَا الضميرَ على " الشجرة " أي : أَوْقَعَهما في الزَّلَّةِ بسبب الشجرة . ويجوز أن تكونَ على بابِها من المجاوزة إن [ عاد ] الضميرُ على " الجَنَّةِ " ، وهو الأظهرُ ، لتقدُّمِ ذِكْرِها ، وتجيءُ عليه قراءةُ حمزة واضحةً ، ولا تظهَرُ قراءتُهُ كلَّ الظهورِ على كونِ الضميرِ للشجرة ، قال ابن عطية : " وأمَّا مَنْ قرأ " أَزَالهما " فإنَّه يعودُ على الجَنَّةِ فقط " ، وقيل : الضميرُ للطاعةِ أو للحالة أو للسماءِ وإن لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ لدَلالةِ السياقِ عليها وهذا بعيدٌ جداً .

قوله : { فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } الفاءُ هنا واضحةُ السببية . وقال المهدويُّ : " إذا جُعِلَ " فَأَزَلَّهما " بمعنَى زلَّ عن المكان كان قولُه تعالى : { فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } توكيداً ، إذ قد يمكنُ أن يزولا عن مكانٍ كانا فيه إلى مكان آخرَ " ، وهذا الذي قاله المهدوي أَشْبَهُ شيءٍ بالتأسيسِ لا التأكيدِ ، لإِفادتِهِ معنىً جديداً ، قال ابن عطية : " وهنا محذوفٌ يَدُلُّ عليه الظاهرُ تقديرُهُ : فأكلا من الشجَرَةِ " ، يعني بذلك أنَّ المحذوفَ يُقَدِّرُ قبلَ قولِهِ " فَأزَلَّهما " .

و { مِمَّا كَانَا } متعلِّقٌ بأَخْرَجَ ، و " ما " يجوزُ أن تكونَ موصولةً اسميةً وأن تكونَ نكرةً موصوفةً ، أي : من المكانِ أو النعيمِ الذي كانا فيه ، أو من مكانٍ أو نعيمٍ كانا فيه ، فالجملةُ مِنْ كان واسمِها وخبرِها لا محلَّ لها على الأولِ ومحلُّهَا الجرُّ على الثاني ، و " مِنْ " لابتداءِ الغايةِ .

وقوله : " اهبِطوا " جملةٌ أمريةٌ في محلِّ نصبٍ بالفعلِ [ قبلها ] . وقُرئ : " اهبُطوا " بضم الباء وهو كثيرٌ في غيرِ المتعدِّي ، وأمّا الماضي فهبَطَ بالفتحِ فقط ، وجاء في مضارعِهِ اللغتان ، والمصدرُ : الهُبوط بالضم ، وهو النزولُ . وقيلَ : الانتقال مطلقاً . وقال المفضل : " الهبوطُ : الخروجُ من البلد ، وهو أيضاً الدخولُ فيها فهو من الأضداد " . والضمير في " اهبطوا " الظاهرُ أنه لجماعةٍ ، فقيل : لآدَمَ وحوَّاءَ والجنةِ وإبليسَ ، [ وقيلَ : لهما وللجنة ] ، وقيل : لهما وللوسوسةِ ، وفيه بُعْدٌ . وقيل : لبني آدمَ وبني إبليس ، وهذا وإنْ نُقِلَ عن مجاهد والحسن لا ينبغي أَنْ يُقالُ ، لأنه لم يُوْلَدْ لهما في الجنة بالاتفاق . وقال الزمخشري : " إنه يعودُ لآدمَ وحواء ، والمرادُ هما وذريتُهما ، لأنهما لمَّا كانا أصلَ الإِنسِ ومتشَعَّبَهم جُعِلاَ كأنهما الإِنسُ كلُّهم ، ويَدُلُّ عليه " قال اهبِطوا منها جميعاً " .

قوله : { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } هذه جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ ، وفيها قولان ، أَصَحُّهما : أنَّها في محلِّ نصبٍ على الحالِ أي : اهبِطوا مُتعادِيْن . والثاني : أنها لا محلَّ لها لأنها استئنافُ إخبارٍ بالعَداوة . وأُفْرِدَ لفظُ " عدو " وإِنْ كان المرادُ به جَمْعَاً لأحدِ وجهَيْنِ : إِمَّا اعتباراً بلفظِ " بعض " فإنه مفردٌ ، وإِمَّا لأن " عَدُوَّاً " أشْبَهَ المصادرَ في الوزنِ كالقَبول ونحوِهِ . وقد صَرَّحَ أبو البقاء بأن بعضهم جعل عَدُوّاً مصدراً ، قال في سورة النساء : " وقيلَ : عَدُوٌّ مصدرٌ كالقَبول والوَلوعِ فلذلك لم يُجْمَعْ " ، وعبارةُ مكي قريبةٌ من هذا فإنَّه قال : " وإنما وُحِّدَ وقبلَه جمعٌ لأنه بمعنى المصدرِ تقديرُهُ : ذوي عَداوة " . [ ونحوُه : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي } [ الشعراء : 77 ] ، وقولُه : { هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ } [ المنافقون : 4 ] . واشتقاقُ العدوّ من عَدا يعدُو : إذا ظَلَمَ . وقيل : من عَدَا يعدُو إذا جاوَزَ الحقَّ ، وهما متقاربان . وقيل : من عُدْوَتَي الجبل وهما طرفاه فاعتَبروا بُعْدَ ما بينهما ، ويقال : عُدْوَةَ ، وقد يُجْمَعُ على أَعْدَاء . ] .

واللامُ في " لِبعض " متعلقةٌ ب " عَدُوّ " ومقوِّيةٌ له ، ويجوزُ أن تكونَ في الأصلِ صفةً ل " عدُوّ " ، فلمَّا قُدِّمَ عليه انتصَبَ حالاً ، فتتعلَّقُ اللامُ حينئذٍ بمحذوفٍ ، وهذه الجملةُ الحاليةُ لا حاجةَ إلى ادِّعاءِ حَذْفِ واوِ الحالِ منها ، لأنَّ الربطَ حَصَلَ بالضميرِ ، وإن كان الأكثرُ في الجملةِ الاسميةِ الواقعةِ حالاً أن تقترنَ بالواوِ .

والبعضُ في الأصل مصدرُ بَعَضَ الشيءَ يَبْعَضُه إذا قطعه فأُطْلِقَ على القطعةِ من الناسِ لأنها قطعةٌ منه ، وهو يقابِلُ " كُلاًّ " ، وحكمُهُ حكمُه في لُزومِ الإِضافةِ معنىً وأنه مَعرفةٌ بنيَّةِ الإِضافةِ فلا تَدْخُل عليه أل ، وينتصِبُ عنه الحال . تقول : " مررت ببعضٍ جالساً " وله لفظٌ ومعنًى ، وقد تقدَّم تقريرُ جميعِ ذلك في لفظِ " كُل " .

وله : { وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ } هذه الجملةُ يجوز فيها الوجهان المتقدِّمان في الجملةِ قبلَها من الحاليةِ والاستئنافِ ، كأنه قيل : اهبِطوا مُتَعادِينَ ومستحقِّينَ الاستقرارَ . و " لكم " خبرٌ مقدمٌ . و { فِي الأَرْضِ } متعلقٌ بما تعَلَّقَ به الخبرُ من الاستقرار . وتعلُّقُه به على وجهين ، أحدُهما : أنه حالٌ ، والثاني : أنه غيرُ حالٍ بل كسائرِ الظروفِ ، ويجوزُ أن يكونَ { فِي الأَرْضِ } هو الخبرَ ، و " لكم " متعلقٌ بما تَعَلَّقَ به هو من الاستقرارِ ، لكن على أنه غيرُ حالٍ ، لئلا يلزَمَ تقديمُ الحالِ على عامِلِها المعنوي ، على أنّ بعضَ النَّحويين أجاز ذلك إذا كانتِ الحالُ نفسُها ظرفاً أو حرفَ جرٍّ كهذه الآية ، فيكونَ في " لكم " أيضاً الوجهان ، قال بعضُهم : " ولا يجوز أن يكونَ { فِي الأَرْضِ } متعلقاً بمستقرّ سواءً جُعل مكاناً أو مصدراً ، أمّا كونُهُ مكاناً فلأنَّ أسماءَ الأمكنةِ لا تعملُ ، وأمَّا كونُه مصدراً فإن المصدرَ الموصولَ لا يجوزُ تقديمُ معمولِهِ عليه " . ولِقائلٍ أن يقول : هو متعلِّقٌ به على أنه مصدرٌ ، لكنه غيرُ مؤولٍ بحرفٍ مصدري بل بمنزلةِ المصدر في قولِهم : " له ذكاءٌ ذكاءَ الحكماءِ " . وقد اعتذر صاحبُُ هذا القولِ بهذا العُذْرِ نفسِه في موضعٍ آخرَ مثلِ هذا .

قوله : { إِلَى حِينٍ } الظاهرُ أنه متعلقٌ بمتاع ، وأنَّ المسألة من بابِ الإِعمال لأنَّ كلَّ واحدٍ من قولِهِ : { مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ } يَطْلُبُ قولَه " { إِلَى حِينٍ } من جهةِ المعنى . وجاء الإِعمالُ هنا على مختارِ البصريين وهو إعمالُ الثاني وإهمالُ الأولِ فلذلك حُذِفَ منه ، والتقديرُ : ولكم في الأرض مستقرٌّ إليه ومتاعٌ إلى حين ، ولو جاءَ على إعمالِ الأولِ لأضمَرَ في الثاني ، فإن قيل : مِنْ شرطِ الإِعمالِ أن يَصِحَّ تَسَلُّطُ كلٍّ من العامِلَيْنِ على المعمولِ ، و " مستقرٌ " لا يَصِحُّ تَسَلُّطُه عليه لِئَلاَّ يلزَمَ منه الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِهِ والمصدر بتقديرِ الموصول . فالجوابُ : أنَّ المحذورَ في المصدرِ الذي يُرادُ به الحَدَثُ وهذا لَمْ يُرَدْ به حَدَثٌ ، فلا يُؤَول بموصولٍ ، وأيضاً فإنَّ الظرفَ وشبهَه تَعْمَلُ فيه روائِحُ الفعل حتى الأعلامُ كقوله :

أنا ابنُ مَأوِيَّةَ إذ جَدَّ النُّقُرْ

و " مستقر " يجوز أن يكونَ اسمَ مكانٍ وأن يكونَ اسم مصدرٍ ، مُسْتَفْعَل من القَرار وهو اللُّبْثُ ، ولذلك سُمِّيَتِ الأرضُ قَرارَةٌ ، قال الشاعر :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فَتَرَكْنَ كلَّ قَرارَةٍ كالدِّرْهَمِ

ويقال : استقرَّ وقرَّ بمعنًى . والمَتاعُ : البُلْغَةُ مأخوذةٌ من مَتَع النهار أي : ارتفع . واختار أبو البقاء أن يكونَ " إلى حين " في محلِّ رفعٍ صفةً لمَتاع .

والحينُ : القطعةُ من الزمان طويلةً كانت أو قصيرةً ، وهذا هو المشهورُ ، وقيل : الوقتُ البعيدُ . ويُقال : عامَلَتْهُ محايَنَةً ، وَأَحْيَنْتُ بالمكانِ أقمت به حِيناً ، وحانَ حينُ كذا : قَرُبَ ، قالت بثينة :

وإنَّ سُلُوِّي عن جميلٍ لَساعةٌ *** من الدهرِ ما حانَتْ ولا حانَ حِينُها

وقال بعضُهم : " إنه يُزادُ عليه التاءُ فيقال : تحينَ قُمْتَ " وأنشد :

العاطفونَ تحينَ ما مِنْ عاطِفٍ *** والمُطْعِمُون زمانَ أين المُطْعِمُ

وليس كذلكَ ، وسيأتي تحقيقُ هذا إن شاء الله تعالى .