الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ أَبَىٰ وَٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (34)

قوله تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ } : العاملُ في " إذ " محذوفٌ دلَّ عليه قولُه : " فَسَجَدوا " تقديرُه : " فَسَجَدوا " تقديرُه : أطاعوا وانقادُوا فسجدوا ، لأنَّ السجودَ ناشئٌ عن الانقيادِ ، وقيل : العاملُ " اذكُرْ " مقدرةً ، وقيل : [ إذ ] زائدةٌ ، وقد تقدَّم ضَعْفُ هذين القولين . وقال ابنُ عطية : " وإذ قلنا معطوفٌ على " إذ " المتقدمةِ " لا يَصِحُّ هذا لاختلافِ الوقتين ، وقيل : " إذ " بدلٌ من " إذ " الأولى ، ولا يَصِحُّ لِمَا تقدَّم ولتوسُّطِ حرفِ العطفِ ، وجملةُ " قلنا " في محلِّ خفضٍ بالظرفِ ، وفيه التفاتٌ من الغَيبةِ إلى التكلمِ للعظمة ، واللامُ للتبليغ كنظائِرها .

والمشهورُ جَرُّ تاءِ " الملائكة " بالحرفِ ، وقرأ أبو جعفر بالضمِّ إتباعاً لضمةِ الجيم ، ولم يَعْتَدَّ بالساكن ، وغَلَّطه الزجَّاج ، وخطّأه الفارسي ، وشَبَّهه بعضُهم بقولِه تعالى : { وَقَالَتِ اخْرُجْ } [ يوسف : 31 ] بضم تاء التأنيث ، وليس بصحيح لأنَّ تلك حركةُ التقاءِ الساكنين وهذه حركةُ إعرابٍ فلا يُتلاعَبُ بها ، والمقصودُ هناك يحصُلُ بأيِّ حركةٍ كانَتْ . وقال الزمخشري : " لا يجوزُ استهلاكُ الحركةِ الإِعرابيةِ إلا في لغةٍ ضعيفةٍ كقراءةِ : { الْحَمْدِ للَّهِ } [ الفاتحة : 1 ] يعني بكسر الدال " ، قلتُ : وهذا أكثرُ شذوذاً ، وأضعفُ من ذاك مع ما في ذاك من الضعفِ المتقدِّم ، لأنَّ هناك فاصلاً وإنْ كان ساكناً ، وقال أبو البقاء : " وهي قراءةٌ ضعيفةٌ جداً ، وأحسنُ ما تُحْمَلُ عليه أن يكون الراوي لم يَضْبِطْ عن القارئ وذلك أن القارئ أشارَ إلى الضمِّ تنبيهاً على أنَّ الهمزةَ المحذوفةَ مضمومةٌ في الابتداءِ فلم يُدْرِك الراوي هذه الإِشارَةَ . وقيل : إنه نوى الوقفَ على التاءِ ساكنةً ثم حَرَّكها بالضم إتباعاً لحركةِ الجيم ، وهذا من إجراءِ الوَصْلِ مُجْرى الوقفِ . ومثلُه : ما رُوِيَ عن امرأةٍ رأت رجلاً مع نساءٍ فقالت : " أفي سَوْءَةَ أنْتُنَّه " نوتِ الوقف على " سَوْءَة " فسكَّنَتِ التاءَ ثم ألقَتْ عليها حركةُ همزةِ " أنتنَّ " . قلت " فعلى هذا تكونُ هذه الحركةُ حركةَ التقاءِ ساكنين ، وحينئذٍ يكونُ كقوله : { قَالَتِ اخْرُجْ } [ يوسف : 31 ] وبابه ، وإنما أكثرَ الناسُ توجيهَ هذه القراءةِ لجلالةِ قارِئها أبي جعفر يزيد بن القعقاع شيخِ نافعٍ شيخِ أهل المدينةِ ، وترجمتُهما مشهورةٌ .

و " اسجُدوا " في محلِّ نصبٍ بالقولِ ، واللامُ في " لآدمَ " الظاهرُ أنها متعلقةٌ باسجُدُوا ، ومعناها التعليلُ أي لأجلِه وقيل : بمعنى إلى ، أي : إلى جهته لأنه جُعِل قِبْلةً لهم ، والسجودُ لله . وقيل : بمعنى مع لأنه كان إمامَهم كذا نُقِلَ ، وقيل : اللامُ للبيانِ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ ولا حاجةَ إلى ذلك .

و " فسجدوا " الفاءُ للتعقيبِ ، والتقديرُ : فسَجدوا له ، فَحُذِفَ الجارُّ للعلمِ به . قوله تعالى : { إِلاَّ إِبْلِيسَ } [ إلا ] حرفُ استثناءٍ ، و " إبليس " نصبٌ على الاستثناء .

وهل نصبُه بإلاَّ وحدها أو بالفعلِ وحدَه أو به بوساطة إلا ، أو بفعلٍ محذوف أو ب " أنَّ " ؟ أقوالٌ ، وهل هو استثناءٌ متصلٌ أو منقطعٌ ؟ خلافٌ مشهورٌ ، والأصحُّ أنه متصلٌ . وأمَّا قولُه تعالى : { إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ } [ الكهف : 50 ] فلا يَرُدُّ هذا لأنَّ الملائكة قد يُسَمَّوْنَ جِنَّاً لاجْتِنانِهم قال :

وسَخَّر مِنْ جِنِّ الملائِكِ تسعةً *** قياماً لَديْهِ يَعْمَلون بلا أَجْرِ

وقال تعالى : { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً } [ الصافات : 158 ] يعني الملائكةَ .

واعلم أَنَّ المستثنى على أربعةِ أقسامٍ : قسمٍ واجبِ النصبِ ، وقسم واجبِ الجرِّ ، وقسمٍ جائزٍ فيه النصبُ والجرُّ ، وقسمٍ جائزٍ فيه النصبُ والبدلُ مِمَّا قبله والرجحُ البدلُ . القسم الأول : المستثنى من الموجبِ والمقدَّمُ والمكررُ والمنقطعُ عند الحجاز مطلقاً ، والواقعُ بعد لا يكون وليس ما خلا وما عدا عند غيرِ الجرميّ ، نحو : قام القومُ إلا زيداً ، ما قَام إلا زيداً القومُ ، وما قام أحد إلا زيداً إلا عَمْراً ، وقاموا إلا حماراً ، وقاموا لا يكون زيداً وليس زيداً وما خلا زيداً وما عدا زيداً . القسم الثاني : المستثنى بغير وسِوى وسُوى وسَواء . القسم الثالث : المستثنى بعدا وخلا وحاشا . القسمُ الرابع : المستثنى من غيرِ الموجب نحو : { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } [ النساء : 66 ] .

والسجودُ لغةً : التذلُّلُ والخضوعُ ، وغايتُه وَضْعُ الجبهةِ على الأرضِ ، وقال ابن السكيت : " هو المَيْلُ " قال زيدٌ الخيل :

بجَمْعٍ تَضِلُّ البُلْقُ في حَجَراته *** تَرَى الأُكْمَ فيها سُجَّداً للحَوافِرِ

[ يريد أنَّ الحوافِرَ تطأُ الأرضَ فتجعلُ تأثُّرَ الأكْمِ للحوافرِ سُجودا ] ، وقال آخر :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . سُجودَ النصارى لأَِحْبارِها

وفَرَّقَ بعضُهم بين سَجَد وأَسْجد ، فسجد : وََضَعَ جَبْهَتَه ، وأَسْجَدَ : أمال رأسَه وطأطأها ، قال الشاعر :

فُضُولَ أَزِمَّتِها أَسْجَدَتْ *** سُجودَ النَّصارى لأرْبابها

وقال آخر :

وقُلْنَ له أسْجِدْ لِلَيْلَى فَأَسْجدا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يعني : أنَّ البعيرَ طأطأ رأسَه لأجلها ، ودراهمُ الأسجادِ دراهمُ عليها صُوَرٌ كانوا يَسْجُدون لها ، قال الشاعر :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وافى بها كدَراهمِ الأَسْجادِ

وإبليس اختُلِفَ فيه فقيل : [ إنه ] اسمٌ أعجمي مُنِعَ من الصَّرْفِ للعلَمِيَّة والعَجْمةِ ، وهذا هو الصحيحُ ، وقيل : إنه مشتقٌّ من الإِبْلاسِ وهو اليأسُ من رحمة اللهِ تعالى والبُعْدُ عنها ، قال :

وفي الوُجوهِ صُفْرَةٌ وإبْلاسْ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقال آخر :

يا صاحِ هل تَعْرِفُ رَسْماً مُكْرَسَا *** قال نَعَمْ أَعْرِفُه وأَبْلَسَا

أي : بَعُد عن العِمارةِ والأُنْسِ به ، ووزنُه عند هؤلاء : إِفْعِيل ، واعتُرِضَ عليهم بأنه كان ينبغي أن يكونَ منصرفاً ، وأجابوا بأنه أَشْبَهَ الأسماءَ الأعجميةَ لعَدمِ نظيرِه في الأسماء العربية ، ورُدَّ عليهم بأنَّ مُثُلَه في العربية كثيرٌ ، نحو : إزْميل وإكليل وإغْريض وإخْريط وإحْليل . وقيل : لمَّا لم يَتَسَمَّ به أحدٌ من العرب صار كأنه دخيلٌ في لسانِهم فأشبهَ الأعجميةَ وفيه بُعْدٌ .

قوله : { أَبَى وَاسْتَكْبَرَ } الظاهرُ أنَّ هاتين الجملتين استئنافيتان جواباً لمَنْ قال : فما فعلَ ؟ والوقفُ على قولِه : { إِلاَّ إِبْلِيسَ } تامٌّ . وقال أبو البقاء : " في موضع نصبٍ على الحالِ من إبليسِ تقديرُه : تَرَك السجودَ كارهاً ومستكبراً عنه فالوقفُ عنده على " واستكبر " ، وجَوَّز في قولِه تعالى : { وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } أَنْ يكونَ مستأنفاً وأن يكونَ حالاً أيضاً .

والإِباء : الامتناعُ ، قالَ الشاعر :

وإما أَنْ يقولوا قَدْ أَبَيْنا *** وشَرُّ مواطِنِ الحَسَبِ الإِباءُ

وهو من الأفعال المفيدةِ للنفي ، ولذلك وَقَعَ بعده الاستثناءُ المفرَّغُ ، قال الله تعالى :

{ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ }

[ التوبة : 32 ] والمشهورُ أبى يأبى بالفتحِ فيهما ، وكان القياسُ كسرَ عينِ المضارعِ ، ولذلك اعتبره بعضُهم فَكَسَر حرفَ المضارعةِ فقال : تِئْبى ونِئْبى . وقيل : لمَّا كانت الألفُ تشبه حروفَ الحَلْقِ فُتِح لأجلِها عينُ المضارعِ . وقيل : أَبى يأبى بالفتحِ فيهما ، وكان القياسُ كسرَ عينِ المضارعِ ، ولذلك اعتبره بعضُهم فَكَسَر حرفَ المضارعةِ فقال : تِئْبَى ونِئْبَى . وقيل : لَمَّا كانت الألف تشبه حروف الحلق فُتح لأجلها عين المضارع . وقيل : أَبِيَ يأبى بكسرها في الماضي وفتحها في المضارع ، وهذا قياسٌ فيُحتمل أنْ يكونَ مَنْ قال : أبى يأبى بالفتح فيهما استغنى بمضارع مَنْ قال : أبِيَ بالكسر ويكونُ من التداخُلِ نحو : ركَن يركَنُ وبابِه .

واستكبر بمعنى تكبَّر ، وإنما قدَّم الإِباءُ عليه وإنْ كان متأخِّراً عنه في الترتيبِ لأنه من الأفعالِ الظاهرةِ بخلافِ الاستكبارِ فإنه من أفعال القلوب . وقوله " وكان " قيل : هي بمعنى صار كقوله :

بتَيْهاءَ قَفْرٍ والمَطِيُّ كأنَّها *** قطا الحَزْن قد كانَتْ فراخاً بيوضُها

أي : قد صارَتْ ، ورَدَّ هذا ابنُ فُوْركَ وقال : " تَرُدُّه الأصولُ " والأظهر أنها على بابها ، والمعنى : وكانَ من القومِ الكافرين الذين كانوا في الأرض قبل خَلْقِ آدمَ ما رُوي ، أو : وكانَ في عِلْم الله .