الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (30)

قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ } : " إذ " ظرفُ زمانٍ ماضٍ ، يُخَلِّص المضارعَ للمضيِّ وبُني لشَبَهِه بالحرفِ في الوَضْع والافتقار ، وتليه الجملُ مطلقاً ، فإذا كانتِ الجملةُ فعليةً قَبُحَ تقديمُ الاسمِ وتأخيرُ الفعلِ نحو : إذ زيدٍ قام ، ولا يتصرَّفُ إلا بإضافةِ الزمنِ إليه نحو : يومئذٍ وحينئذٍ ، ولا يكون مفعولاً به ، وإن قال به أكثرُ المُعْرِبين ، فإنهم يُقَدِّرونَ : اذكر وقتَ كذا ، ولا ظرفَ مكان ولا زائداً ولا حرفاً للتعليل ولا للمفاجأة خلافاً لزاعمي ذلك ، وقد تُحْذَفُ الجملةُ المضافُ هو إليها للعلمِ ويُعَوَّض منها تنوينٌ كقولِهِ تعالى : { وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } [ الواقعة : 84 ] ، وليس كسرتُه والحالةُ هذه كسرةَ إعرابٍ ولا تنوينُه تنوينَ صرفٍ خلافاً للأخفش ، بل الكسرُ لالتقاءِ الساكنين والتنوينُ للعوضِ بدليلِ وجودِ الكسر ولا إضافةَ قال :

327- نَهَيْتُكَ عن طِلابِكَ أمَّ عمروٍ *** بعاقبةٍ وأنتَ إذٍ صَحيحُ

وللأخفشِ أن يقولَ : أصلُه " وأنتَ حينئذٍ " فلمّا حُذِفَ المضافُ بقي المضافُ إليه على حَالِه ولَم يَقُمْ مَقامَه ، نحو : { وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةِ } [ الأنفال : 67 ] بالجر ، إلا أنه ضعيفٌ .

و { قَالَ رَبُّكَ } جملةٌ فعليةٌ في محلِّ خَفْضٍ بإضافةِ الظرفِ إليها .

واعلم أنَّ " إذ " فيه تسعةُ أوجه ، أحسنُها أنه منصوبٌ ب { قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا } أي : قالوا ذلك القولَ وقتَ قولِ اللهِ تعالى لهم : إني جاعلٌ في الأرضِ خليفةً ، وهذا أسهلُ الأوجهِ . الثاني : أنه منصوبٌ ب " اذكُرْ " مقدراً وقد تقدَّم أنه لاَ يَتَصَرَّفُ فلا يقع مفعولاً . الثالث : أنه منصوبٌ ب " خَلَقَكم " المتقدمِ في قولِه : { اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ } [ النساء : 1 ] والواو زائدةٌ . وهذا ليس بشيء لطولِ الفصلِ . الرابعُ : أنه منصوبٌ ب " قال " بعده . وهو فاسدٌ لأن المضافَ إليه لا يعمل في المضاف . الخامس : أنه زائدٌ ويعزى لأبي عبيد . السادس : أنه بمعنى قد . السابع أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره : ابتداءُ خَلْقِكم وقتُ قولِ ربِّك . الثامن : أنه منصوبٌ بفعلٍ لائق ، تقديرُه : ابتدأ خلقُكم وقتَ قولِه ذلكَ ، وهذان ضعيفان لأن وقتَ ابتداءِ الخلق ليس وقتَ القول ، وأيضاً فإنه لاَ يَتَصرَّف . التاسع : أنه منصوبٌ ب " أحياكم " مقدَّراً ، وهذا مردودٌ باختلافِ الوقتين أيضاً .

و " للملائكة " متعلِّقٌ ب " قال " واللامُ للتبليغ . وملائكةٌ جمع مَلَك . واختُلِف في " مَلَك " على ستة أقوال ، وذلك أنهم اختلفوا في ميمِه ، هل هي أصليةٌ أو زائدةٌ ؟ والقائلون بأصالتها اختلفوا ، فقال بعضهم : مَلَك ووزنه فَعَل من المُلْك ، وشذَّ جمعُه على فعائِلة فالشذوذ في جَمْعِه فقط . وقال بعضهم : بل أصلُهُ مَلأّك ، والهمزةُ فيه زائدةٌ كشَمْأَل ثم نُقِلَت حركةُ الهمزة إلى اللام وحُذِفَت الهمزةُ تخفيفاً ، والجمعُ جاء على أصلِ الزيادةِ فهذان قَوْلان عند هؤلاء . والقائلون بزيادتها اختلفوا أيضاً ، فمنهم مَنْ قال : هو مشتقٌّ من " أَلَك " أي : أرسل ففاؤُه همزةٌ وعينه لام ، ويدلُّ عليه قوله :

أَبْلِغْ أبا دَخْتَنُوسَ مَأْلُكَةً *** غيرَ الذي قد يُقال مِلْكَذِبِ

وقال آخر :

وغلامٌ أَرْسَلَتْه أمُّه *** بِأَلوكٍ فَبَذَلْنَا ما سَأَلْ

وقال آخر :

330- أَبْلِغِ النُّعْمانَ عني مَألُكا *** أنَّه قد طالَ حَبْسي وانتظاري

فأصل مَلَكَ : مَأْلَك ، ثم قُلِبت العينُ إلى موضع الفاء ، والفاءُ إلى موضع العين فصارَ مَلأَكاً على وزنَ مَعْفَل ، ثم نُقِلَتْ حركةُ الهمزةِ إلى اللامِ وحُذِفَتِ الهمزةُ تخفيفاً ، فيكونُ وزنُ مَلَكَ : مَعَلاً بحَذْفِ الفاء . ومنهم مَنْ قال : هو مشتقٌّ من لأَك أي أرسل أيضاً ، ففاؤُه لامٌ وعينُه همزةٌ ثم نُقِلَت حركةُ الهمزةِ وحُذِفَت كما تقدَّم ، ويَدُلُّ على ذلك أنه قد نُطِقَ بهذا الأصلِ قال :

فَلَسْتُ لإِنْسِيٍّ ولكنْ لِمَلأَكٍ *** تَنَزَّلَ من جَوِّ السماء يَصُوبُ

ثم جاء الجمعُ على الأصلِ فَرُدَّتِ الهمزةُ على كِلا القَوْلينِ ، فوزن ملائِكَة على هذا القول : مفاعِلَة ، وعلى القولِ الذي قبلَه : معافِلَة بالقلب . وقيل : هو مشتقٌّ من : لاكَه يَلُوكه أي : أداره يُديره ، لأنَّ المَلَكُ يُديرُ الرسالةَ في فيه ، فأصل مَلَك : مَلْوَك ، فنُقِلَتْ حركةُ الواوِ إلى اللامِ الساكنةِ قبلها ، فتحَرَّك حرفُ العلة وانفتح ما قبلَه فَقُلب ألفاً فصارَ ملاكاً مثل مَقَام ، ثم حُذِفَت الألفُ تخفيفاً فوزنُه مَفَل بحذفِ العينِ ، وأصلُ ملائكة ملاوِكة فقُلبت الواوُ همزةً ، ولكنَّ شرطَ قلبِ الواوِ والياءِ همزةً بعد ألفِ مفاعل أن تكونَ زائدةً نحو عجائز ورسائل ، على أنه قد جاء ذلك في الأصليّ قليلاً قالوا : مصائِب ومنائِر ، قُُرئ شاذاً : " معائِش " بالهمز ، فهذه خمسةُ أقوال . والسادس : قال النضر بن شميل : " لا اشتقاقَ للملك عند العرب " .

والهاء في ملائكة لتأنيث الجَمْع نحو : صَلادِمة . وقيل للمبالغة كعلاَّمة ونسَّابة ، وليس بشيء ، وقد تُحْذَفُ هذه الهاء شذوذاً ، قال الشاعر :

أبا خالدٍ صَلَّتْ عليكَ الملائِكُ

قوله : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } هذه الجملة معمولُ القولِ ، فهي في محلِّ نصبٍ به ، وكُسِرت " إنَّ " هنا لوقوعِها بعد القولِ المجرَّدِ من معنى الظن محكيةً به ، فإن كان بمعنى الظنِ جَرى فيها وجهان : الفتحُ والكسرُ ، وأنشدوا :

إذا قلتُ أني آيبٌ أهلَ بلدةٍ *** نَزَعْتُ بها عنه الوليَّةَ بالهَجْر

وكان ينبغي أن يُفَتَح ليسَ إلاَّ نظراً لمعنى الظنِّ ، لكن قد يقال جاز الكسر مراعاةً لصورةِ القولِ .

و " إنَّ " على ثلاثةِ أقسامٍ : قسمٍ يجب فيه كَسْرُها ، وقسمٍ يجبُ فيه فَتْحُها وقسمٍ يجوز فيه وجهان ، وليس هذا موضعَ تقريرِه ، بل يأتي في غضون السور ، ولكن الضابطَ الكلي في ذلك أنَّ كلَّ موضعٍ سَدَّ مَسَدَّها المصدرُ وَجَبَ فيه فتحُها نحو : بلغني أنك قائمٌ ، وكلَّ موضعٍ لم يَسُدَّ مسدَّها وَجَبَ فيه كَسْرُها كوقوعِها بعد القولِ ومبتدأةً وصلةً وحالاً ، وكلَّ موضعٍ جازَ أن يَسُدَّ مسدَّها جاز الوجهان كوقوعِها بعد فاءِ الجزاء ، وإذا الفجائية وهذه أشدُّ العباراتِ في هذا الضابطِ .

و " جاعلٌ " فيه قولان ، أحدُهما أنه بمعنى خالق ، فيكونُ " خليفةً " مفعولاً به ، و " في الأرض " فيه حينئذ قولان ، أحدُهما وهو الواضح أنه متعلقٌ بجاعلٌ . الثاني : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من النكرةِ بعدَه . القولُ الثاني : أنه بمعنى مُصَيِّر ، ولم يَذْكر الزمخشري غيرَه ، فيكونُ خليفةً " هو المفعولَ الأولَ ، و " في الأرض " هو الثانيَ قُدِّم عليه ، ويتعلَّقُ بمحذوف على ما تقرَّر . و " خليفة " يجوز أن يكون بمعنى فاعل أي : يَخْلُفُكم أو يَخْلُف مَنْ كان قبلَه من الجنِّ ، وهذا أصحُّ لدخولِ تاءِ التأنيث عليه وقيل : بمعنى مفعول أي : يَخْلُف كلُّ جيلٍ مَنْ تقدَّمَه ، وليس دخولُ التاءِ حينئذٍ قياساً . إلا أن يُقال : " إنَّ " خليفةً " جَرى مجرى الجوامدِ كالنطيحة والذبيحة . وإنما وُحِّد " خليفة " وإن كانَ المرادُ الجمعَ لأنه أريدَ به آدمُ وذريتُه ، ولكن استَغْنى بذكره كما يُسْتَغْنى بذكرِ أبي القبيلة نحو : مُضَر ورَبِيعة ، وقيل : المعنى على الجنس .

وقرئ : " خليقةً " بالقاف .

و " خليفةً " منصوبٌ ب " جاعل " كما تقدَّم ، لأنَّه اسمُ فاعل . واسمُ الفاعل يعملُ عَمَل فعلِه مطلقاً إن كان فيه الألفُ واللام ، وبشرطِ الحالِ أو الاستقبال والاعتماد إذا لم يكونا فيه ، ويجوز إضافتُه لمعمولِه تخفيفاً ما لَم يُفْصل بينهما كهذه الآية .

قوله : { قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ } قد تقدَّم أن " قالوا " عامل في " إذ قال ربُّك " وأنه المختارُ ، والهمزةُ في " أتجعل " للاستفهامِ على بابها ، وقال الزمخشري : " للتعجب " ، وقيل : للتقرير كقوله :

ألستُمْ خيرَ مَنْ ركب المَطايا *** وأنْدى العالمينَ بطونَ راحِ

وقال أبو البقاء : " للاستشهاد " ، أي : أتجعلُ فيها مَنْ يُفْسِد كَمَنْ كان قبلُ " وهي عبارةٌ غريبةٌ . و " فيها " الأولى متعلقةٌ ب " تَجْعَل " إن قيل : إنها بمعنى الخَلْق ، و " مَنْ يُفْسِدُ " مفعولٌ به ، وإنْ قيل إنَّها بمعنى التصيير فيكون " فيها " مفعولاً ثانياً قُدِّم على الأولِ وهو " مَنْ يفسد " ، و " مَنْ " تحتملُ أن تكونَ موصولةً أو نكرةً موصوفةً ، فعلى الأولِ لا مَحَلَّ للجملةِ بعدها من الإِعراب ، وعلى الثاني محلُّها النصب ، و " فيها " الثانيةُ مُتَعلقةٌ ب " يُفْسِدُ " . و " يَسْفِكُ " عطفٌ على " يُفْسِدُ " بالاعتبارين .

والجمهورُ على رَفْعِهِ ، وقُرئ منصوباً على جوابِ الاستفهام بعدَ الواو التي تقتضي الجمع بإضمار " أَنْ " كقوله :

أَتَبيتُ رَيَّانَ الجفونِ من الكَرى *** وأبيتَ منك بليلةِ المَلْسُوعِ

وقال ابن عطية : " منصوبٌ بواو الصَرْف " وهذه عبارةُ الكوفيين ، ومعنى واوِ الصرفِ أن الفعلَ كان يقتضي إعراباً فصَرَفَتْه الواوُ عنه إلى النصب ، والمشهورُ " يَسْفِك " بكسر الفاء ، وقُرئ بضمِّها ، وقرئ أيضاً بضمِّ حرفِ المضارعةِ من أَسْفك وقُرئ أيضاً مشدَّداً للتكثير .

والسَّفْكُ : هو الصَّبُّ ، ولا يُستعمل إلا في الدمِ ، وقال ابن فارس ، والجوهري : " يُستعمل أيضاً في الدمع " . وقال المَهدوي " ولا يُستعمل السفك إلا في الدَّمِ ، وقد يُستعمل في نثرِ الكلامِ ، يقال : سَفَكَ الكلامَ أي : نثره " .

والدِّماء : جمعُ دَمٍ ، ولا يكونُ اسمٌ معربٌ على حرفين ، فلا بدَّ له من ثالث محذوفٍ هو لامُه ، ويجوزُ أن تكونَ واواً وأن تكونَ ياءً ، لقولِهم في التثنيةِ : دَمَوان ودَمَيان ، قال الشاعر :

336- فَلَوْ أنَّا على حَجَرٍ ذُبِحْنا *** جَرَى الدَّميَانِ بالخبرِ اليقين

وهل وزنُ دم " فَعْل " بسكون العين أو فَعَل بفتحها قولان ، وقد يُرَدُّ محذوفُه ، فَيُسْتعملُ مقصوراً كعصا وغيرِه ، وعليه قولُه :

كَأَطُومٍ فَقَدَتْ بُرْغُزَها *** أَعْقَبَتْها الغُبْسُ منه عَدَماً

غَفَلَتْ ثم أَتَتْ تَطْلُبه *** فإذا هِيَ بِعِظامٍ ودَماً

وقد تُشَدَّدُ ميمُه أيضاً ، قال الشاعر :

أهانَ دَمَّكَ فَرْغَاً بعد عِزَّتِه *** يا عمروُ بَغْيُكَ إصراراً على الحَسَد

وأصلُ : الدِّماء : الدِّماو أو الدِّماي ، فقُلب حرفُ العلةِ همزةً لوقوعِه طَرَفاً بعد ألفٍ زائدةً نحو : كساء ورداء .

قولُه : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } الواوُ للحال ، و { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ } جملةٌ من مبتدأ وخبر ، في محلِّ النصب على الحال ، و " بحمدك " متعلقٌ بمحذوفٍ ، لأنه حالٌ أيضاً ، والباءُ فيه للمصاحبة أي نُسَبِّح ملتبسين بحمدك ، نحو : " جاء زيد بثيابِه " فهما حالان متداخلتان ، أي حالٌ في حال . وقيل : الباءُ للسببية ، فتتعلَّق بالتسبيح . قال ابن عطية : " ويُحْتمل أن يكونَ قولُهم : " بحمدِكَ " اعتراضاً بين الكلامين ، كأنهم قالوا : ونحن نسبِّح ونقدِّس ، ثم اعترضُوا على جهةِ التسليم ، أي : وأنتَ المحمودُ في الهداية إلى ذلك " قلتُ : كأنه يحاول أن تكونَ الباءُ للسببية ، ولكن يكونُ ما تعلَّقَتْ به الباءُ فعلاً محذوفاً لائقاً بالمعنى تقديرُه : حَصَلَ لنا التسبيحُ والتقديسُ بسببِ حمدك .

والحمدُ هنا : مصدرٌ مضاف لمفعولِه ، وفاعلُه محذوف تقديره : بحمدِنا إياك . وزعم بعضهُم أن الفاعلَ مضمرٌ فيه وهو غَلَطٌ ؛ لأنَّ المصدرَ اسم جامدٌ لا يُضمرُ فيه ، على أنه قد حُكِيَ خلافٌ في المصدرِ الواقعِ موقعَ الفعل نحو : ضرباً زيداً ، هل يَتَحَّملُ ضميراً أم لا ؟ وقد تقدَّم .

و " نُقَدِّسُ " عطف على " نُسَبِّح " فهو خبر أيضاً عن " نحن " ومفعولُه محذوفٌ أي : نقدِّسُ أنفسَنا وأفعالنا لك ، و " لكم " متعلِّقٌ بِه أو ب " نُسَبِّح " ، ومعناها العلةُ ، وقيل : هي زائدةٌ ، فإنَّ ما قبلَها متعدٍّ بنفسِه ، وهو ضَعيفٌ إذ لا تُزادُ إلاَّ مع تقديمِ المعمولِ أو يكونَ العاملُ فَرْعاً ، وقيل : هي مُعَدِّيَةٌ نحو : سجدت لله ، وقيل : هي للبيان ، كهي في قولك : سُقْياً لك ، فعلى هذا يتعلَّق بمحذوفٍ ويكونُ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي : تقديسُنا لك .

هذا التقدير أحسنُ من تقديرِ قولهم : " أعني " لأنه أليقُ بالموضِع . وأبعدَ مَنْ زَعَم أنَّ جملةَ قولِه " ونحنُ نسبِّح " داخلةٌ في حَيِّزِ استفهامٍ مقدرٍ تقديرُه : وأنحن نسبِّح أم نتغيَّر . واستحسنه ابن عطية مع القولِ بالاستفهام المحضِ في قولهم : " أتجعلُ " ، وهذا يَأْباه الجمهورُ ، أعني حَذْفَ همزةِ الاستفهام مِنْ غيرِ ذِكْر " أم " المعادِلةِ وهو رأيُ الأخفش ، وجَعَل مِن ذلك قَولَه تعالى : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ } [ الشعراء : 22 ] أي : وأتلك نعمةٌ ، وقول الآخر :

طَرِبْتُ وما شوقاً إلى البيضَ أَطْرَبُ *** ولا لَعِباً مني وذو الشَّيْبِ يَلْعَب

أي : وأذو الشيب ، وقول الآخر :

أفرحُ أَنْ أُرْزَأَ الكِرامَ وأَنْ *** أُوْرَثَ ذَوْداً شَصائِصاً نَبْلاً

أي : أأفرحُ ، فأمَّا مع " أمْ " فإنه جائزٌ لدَلالتِها عليه كقوله :

فواللهِ ما أدري وإنْ كنتُ دارياً *** بسبْعٍ رَمَيْنَ الجمرَ أم بِثَمانِ

أي : أبسبعٍ .

والتسبيحُ : التنزِيهُ والبَرَاءَةُ ، وأصلُه من السَّبْحِ وهو البُعْد ، ومنه السابحُ في الماء ، فمعنى " سبحان الله " أي : تنزيهاً له وبراءةً عمَّا لا يليقُ بجلالِه ومنه قولُ الشاعر :

أقولُ لَمَّا جاءَني فَخْرُهْ *** سُبْحانَ مِنْ علقمَةَ الفاخِر

أي : تنزيهاً ، وهو مختصٌّ بالباري تعالى ، قال الراغب في قولِه سبحان مِنْ علقمة : " إن أصلَه سبحانَ علقمةَ ، على سبيل التهكُّم فزادَ فيه " مِنْ " ، وقيل : تقديرُه : سبحانَ الله مِنْ أجل عَلْقمة " ، فظاهرُ قولِه أنه يجوزُ أن يقالَ لغيرِ الباري تعالى على سبيل التهكُّم ، وفيه نظرٌ .

والتقديسُ : التَطْهير ، ومنه الأرضُ المقدَّسَةُ ، وبيت المَقْدِس ، وروحُ القُدُس ، وقال الشاعر :

فَأَدْرَكْنَه يَأخُذْنَ بالساقِ والنَّسا *** كما شَبْرَقَ الوِلْدَانُ ثوبَ المَقْدِسِ

أي : المطهَّرُ لهم . وقال الزَمخشري : " هو مِنْ قَدَّسَ في الأرضِ إذا ذهبَ فيها وأبعدَ ، فمعناه قريبٌ من معنى نُسَبِّح " . انتهى .

قوله تعالى : { قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أصلُ إنِّي : إنني فاجتمع ثلاثةُ أمثال ، فحذَفْنا أحدَها ، وهل هو نونُ الوقايةِ أو النونُ الوسطى ؟ قولان الصحيحُ الثاني ، وهذا شبيهٌ بما تقدَّم في { إِنَّا مَعَكُمْ } [ البقرة : 14 ] وبابه .

والجملة في محلِّ نصبٍ بالقولِ ، و " أعلمُ " يجوزُ فيه أن يكونَ فعلاً مضارعاً وهو الظاهرُ ، و " ما " مفعولٌ به ، وهي : إمَّا نكرةٌ موصوفةٌ أو موصولةٌ ، وعلى كلِّ تقديرٍ فالعائدُ محذوفٌ لاستكمالِه الشروطَ أي : تعلمونَه ، وقال المهدوي ، ومكي وتبعهما أبو البقاء : " إنَّ " أعلمُ " اسمٌ بمعنى عالم " كقوله :

لَعَمْرُكَ ما أدري واني لأوْجَلُ *** على أيِّنا تَعْدُو المنيَّةُ أَوَّلُ

ف " ما " يجوزُ فيها أن تكونَ في محلِّ جرٍّ بالإِضافةِ أو نصبٍ ب " أَعْلَمُ " ولم يُنوَّنْ " أعلمُ " لعدمِ انصرافِه ، نحو : " هؤلاء حَوَاجُّ بيتَ الله " وهذا مبنيٌّ على أصلَيْن ضعيفينِ ، أحدُهما : جَعْلُ أَفْعَل بمعنى فاعِل من غير تفضيلٍ ، والثاني أنَّ أفْعل إذا كانت بمعنى اسمِ الفاعل عَمِلَتْ عملَه ، والجمهورُ لا يثبتونها .

وقيل : " أعلمُ " على بابها من كونِها للتفضيلِ ، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ ، أي : أعلمُ منكم ، و " ما " منصوبةٌ بفعلٍ محذوفٍ دَلَّ عليه أفعل ، أي : علمتُ ما لا تعلمون ، ولا جائزٌ أن يُنْصَبَ بأفعل التفضيلِ لأنه أضعفُ من الصفةِ التي هي أضعفُ من اسمِ الفاعلِ الذي هو أضعفُ من الفعلِ في العملِ ، وهذا يكونُ نظيرَ ما أَوَّلوه من قول الشاعر :

فلم أَرَ مثلَ الحيِّ حَيَّاً مُصَبَّحاً *** ولا مثلَنا يومَ التَقَيْنَا فوارِساً

أَكَرَّ وأَحْمى للحقيقةِ منهمُ *** وأضْرَبَ منا بالسيوفِ القوانِسا

فالقوانسَ منصوبٌ بفعلٍ مقدَّر ، أي ب " ضَرَب " ، لا ب " أَضْرَبَ " ، وفي ادِّعاء مثلِ ذلك في الآيةِ الكريمةِ بُعْدٌ لحذفِ شيئين : المفضَّلِ عليه والناصبِ ل " ما " .