الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قُلۡنَا ٱهۡبِطُواْ مِنۡهَا جَمِيعٗاۖ فَإِمَّا يَأۡتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدٗى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (38)

قولُه : { قُلْنَا اهْبِطُواْ } إنما كرَّر قولِه : " قُلْنا " لأنَّ الهبوطَيْنِ مختلفان باعتبارِ متعلَّقَيْهما ، فالهبوطُ الأول [ عَلَّق به العداوةَ ، والثاني علَّقَ به إتيانَ الهدى . وقيل : " لأنَّ الهبوطَ الأول ] من الجنةِ إلى السماءِ ، والثاني من السماءِ إلى الأرض " . واستَعْبَدَه بعضُهم لأجلِ قوله : { وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ } . وقال ابن عطيةِ : " وحكى النقاش أن الهبوطَ الثاني إنما هو من الجنة إلى السماءِ ، والأَوْلَى في ترتيبِ الآيةِ إنما هو إلى الأرضِ وهو الأخيرُ في الوقوعِ " . انتهى ، وقيل : كُرِّر على سبيلِ التأكيدِ نحو قولِك : قُمْ قُمْ ، والضمير في " منها " يَعُودُ على الجنةِ أو السماء .

قوله : " جميعاً " حالٌ من فاعلِ " اهبِطوا " أي : مجتمِعِين : إمَّا في زمانٍ واحدٍ أو في أزمنةٍ متفرقة لأنَّ المرادَ الاشتراكُ في أصلِ الفعل ، وهذا [ هو ] الفرقُ بين : جاؤوا جميعاً ، وجاؤوا معاً ، فإن قولَك " معاً " يستلزمُ مجيئهم جميعاً في زمنٍ واحدٍ لِما دَلَّتْ عليه " مع " مِن الاصطحاب ، بخِلاف " جميعاً " فإنها لا تفيدُ إلا أنه لم يتخلَّفْ أحدٌ منهمْ عن المجيءِ ، من غيرِ تعرُّضٍ لاتحادِ الزمانِ . وقد جَرَتْ هذه المسألةُ بين ثعلب وغيره ، فلم يعرِفْها ذاك الرجلُ فأفادها له ثعلب .

و " جميع " في الأصل من ألفاظِ التوكيد ، نحو : " كُل " ، وبعضُهم عَدَّها معها . وقال ابنُ عطية : " وجميعاً حالٌ من الضميرِ في " اهبِطوا " وليس بمصدرٍ ولا اسمِ فاعل ، ولكنه عِوَضٌ منهما دالٌّ عليهما ، كأنه قال : " هبوطاً جميعاً أو هابطين جميعاً " كأنه يعني أنَّ الحالَ في الحقيقةِ محذوفٌ ، وأنَّ " جميعاً " تأكيدٌ له ، إلا أنَّ تقديرَه بالمصدرِ يَنْفي جَعْلَه حالاً إلا بتأويلٍ لا حاجةَ إليه . وقال بعضُهُم : التقديرُ : قُلْنا اهبِطوا مجتمِعِين فهبطوا جميعاً ، فَحُذِفَ الحالُ من الأولِ لدلالةِ الثاني عليه ، وحُذِفَ العاملُ من الثاني لدلالةِ الأولِ عليه ، وهذا تكلُّفٌ لم تَدْعُ إليه ضرورةٌ .

قوله : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِع } . . . الآية . الفاءُ مُرَتَّبَةٌ معقِّبةٌ . و " إمَّا " أصلُها : إن الشرطيةُ زِيدَتْ عليها " ما " تأكيداً ، و " يأتينَّكم " في محلِّ جزمٍ بالشرطِ ، لأنه بُني لاتصالِه بنونِ التوكيدِ . وقيل : بل هو مُعْرَبٌ مطلقاً . وقيل : مبنيٌّ مطلقاً . والصحيح : التفصيلُ : إنْ باشَرَتْه كهذه الآيةِ بُني ، وإلاَّ أُعْرِبَ ، نحو : هل يقومانِّ ؟ وبُني على الفتحِ طلباً للخفَّة ، وقيل : بل بُني على السكونِ وحُرِّكَ بالفتحِ لالتقاءِ الساكنينِ . وذهب الزجاج والمبردُ إلى أن الفعلَ الواقعَ بعد إن الشرطية المؤكَّدة ب " ما " يجب تأكيدُه بالنون ، قالا : ولذلك لم يَأْتِ التنزيلُ إلا عليه . وذهب سيبويه إلى أنه جائزٌ لا واجبٌ ، لكثرةِ ما جاءَ به منه في الشعر غيرَ مؤكَّد ، فكثرةُ مجيئِه غيرَ مؤكَّدٍ يدلُّ على عَدَمِ الوجوبِ ، فمِنْ ذلك قولُه :

فإمَّا تَرَيْني كابنةِ الرَّمْلِ ضاحياً *** على رِقَّةٍ أَحْفَى ولا أَتَنَعَّلُ

وقولُ الآخر :

يا صاحِ إمَّا تَجِدْني غيرَ ذي جِدَةٍ *** فما التَخلِّي عن الخُلاَّنِ من شِيَمي

وقولُ الآخر :

389- زَعَمَتْ تُماضِرُ أنَّني إمَّا أَمُتْ *** يَسْدُدْ أُبَيْنُوها الأَصاغِرُ خُلَّتي

وقول الآخر :

390- فإمَّا تَرَيْني ولِي لِمَّةٌ *** فإنَّ الحوادثَ أَوْدَى بِها

وقولُ الآخر :

391- فإمَّا تَرَيْني لا أُغَمِّضُ ساعةً *** مِن الدهرِ إلا أَنْ أَكِبَّ فَأَنْعَسَا

وقول الآخر :

إمَّا تَرَيِْني اليومَ أمَّ حَمْزِ *** قارَبْتُ بينَ عَنَقي وجَمْزِي

وقال المهدوي : " إما " هي إنْ التي للشرطِ زِيدَتْ عليها " ما " ليصِحَّ دخولُ النون للتوكيدِ في الفعلِ ، ولو سَقَطَتْ " ما " لم تَدْخُلِ النونُ ، ف " ما " تؤكِّدُ أولَ الكلامِ ، والنونُ تؤكِّدُ آخرَه " وتبعه ابنُ عطية . وقال بعضهم : " هذا الذي ذَهَبا إليه من أنَّ النونَ لازِمَةٌ لفعلِ الشرطِ إذا وُصِلَتْ " إنْ " ب " ما " هو مذهبُ المبردِ والزجاجِ " . انتهى . وليس في كلامِهما ما يدُلُّ على لزومِ النونِ كما ترى ، غايةُ ما فيه أنَّهما اشترطا في صِحَّةِ تأكيدِه بالنونِ زيادةَ " ما " على " إنْ " ، أمَّا كونُ التأكيدِ لازماً أو غيرَ لازم فلم يتعرَّضا له ، وقد جاء تأكيدُ الشرطِ بغيرِ " إنْ " كقوله :393 مَنْ نَثْقَفَنْ منهم فليس بآئِبِ *** أبداً وقتلُ بني قُتَيْبَةَ شافي

و " مني " متعلق ب " يَأْتِيَنَّ " ، وهي لابتداءِ الغاية مَجازاً ، ويجوز أن تكون في محلِّ حالٍ من " هُدَىً " لأنه في الأصل صفةُ نكرةٍ قُدِّم عليها ، وهو نظيرُ ما تَقَدَّم في قوله تعالى : { مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ } [ البقرة : 37 ] ، و " هُدى " فاعلٌ ، والفاءُ مع ما بعدها مِنْ قولِه : { فَمَن تَبِعَ } جوابُ الشرطِ الأولِ ، والفاءُ في قوله تعالى : { فَلاَ خَوْفٌ } جوابُ الثاني ، وقد وقع الشرطُ [ الثاني وجوابُه جوابَ الأول ، ونُقِل عن الكسائي أن قوله : { فَلاَ خَوْفٌ } جوابُ الشرطين ] معاً . قال ابن عطية بعد نَقْلِه عن الكسائي : " هكذا حُكِي وفيه نَظَرٌ ، ولا يتوجَّه أن يُخالَفَ سيبويه هنا ، وإنما الخلافُ في نحوِ قولِه : { فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ } [ الواقعة : 88-89 ] فيقولُ سيبويهِ : جوابُ أحدِ الشرطينِ محذوفٌ لدلالةِ قوله " فَرَوْحٌ " عليه . ويقول الكوفيون " فَرَوْح " جوابُ الشرطين . وأمَّا في هذه الآية فالمعنى يمنع أَنْ يكونَ " فلا خوف " جواباً للشرطين " . وقيل : جوابُ الشرطِ الأول محذوفٌ تقديرُه : فإمَّا يأتِيَنَّكم مني هدىً فاتَّبعوه ، وقولُه : { فَمَنْ تَبِع } جملةٌ مستقلةٌ . وهو بعيدٌ أيضاً .

و " مَنْ " يجوزُ أَنْ تكونَ شرطيةً وهو الظاهرُ ، ويجوز أَنْ تكونَ موصولةً ، ودَخَلَت الفاءُ في خبرِها تشبيهاً لها بالشرطِ ، ولا حاجةَ إلى هذا .

فإن كانتْ شرطيةً كان " تبع " في محل جزم ، وكذا : " فلا خَوْفٌ " لكونِهما شرطاً وجزاءً ، وإنْ كانت موصولةً فلا محلَّ ل " تَبِع " . وإذا قيل بأنَّها شرطيةٌ فهي مبتدأٌ أيضاً ، ولكنْ في خبرها خلافٌ مشهور : الأصحُّ أنه فعلُ الشرطِ ، بدليل أنه يَلزُم عودُ ضميرٍ مِنْ فعلِ الشرط على اسمِ الشرط ، ولا يلزَمُ ذلك في الجوابِ ، تقول : مَنْ يَقُمْ أُكْرِمْ زيداً ، [ فليس في " أُكرم زيداً " ضميرٌ يعودُ على " مَنْ " ولو كان خبراً للزِمَ فيه ضميرٌ ] ، ولو قلتَ : " مَنْ يَقُمْ زيداً أُكْرِمْه " وأنت تعيدُ الهاءَ على " مَنْ " لم يَجُزْ لخلوِّ فعلِ الشرطِ من الضمير . وقيل : الخبرُ الجوابُُ ، ويلزُم هؤلاء أن يأتوا فيه بعائدٍ على اسمِ الشرطِ ، فلا يَجُوزُ عندهم : " مَنْ يَقُمْ أُكْرِمْ زيداً " ولكنه جائز ، هذا ما أورده أبو البقاء . وسيأتي تحقيقُ القول في لزوم عَوْدِ ضميرٍِ مِنَ الجوابِ إلى اسمِ الشرطِ عند قوله تعالى : { مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ } [ البقرة : 97 ] . وقيل : مجموعُ الشرطِ والجزاءِ هو الخبرُ لأنَّ الفائدةَ إنما تَحْصَلُ منهما . وقيل : ما كان فيه ضميرٌ عائدٌ على المبتدأِ فهو الخبرُ .

والمشهورُ : " هُدَايَ " ، وقُرئ : هُدَيَّ ، بقلبِ الألفِ ياءً ، وإدغامها في ياء المتكلم ، وهي لغة هُذَيْل ، يقولون في عَصاي : عَصَيَّ ، وقال شاعرُهم يرثي بَنيه :

سَبَقوا هَوَيَّ وأَعْنَقُوا لِهَوَاهُمُ *** فَتُخُرِّمُوا ولكلِّ جَنْبٍ مَصْرَعُ

كأنهم لمَّا لم يَصِلوا إلى ما تستحقُّه ياءُ المتكلمِ مِنْ كسرِ ما قبلَها لكونِه ألفاً أتَوا بما يُجَانِسُ الكسرةَ ، فقلبوا الألفَ ياءً ، وهذه لغةٌ مطردةٌ عندهم ، إلا أَنْ تكونَ الألفُ للتثنية فإنهم يُثْبِتُونها نحو : جاء مسلمايَ وغلامايَ .

قولُه : { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } قد تقدَّم أنه يجوزُ أن يكونَ جواباً للشرطِ ، فيكونَ في محلِّ جزم ، وأن يكونَ خبراً ل " مَنْ " إذا قيل بأنها موصولةٌ ، وهو أَوْلَى لمقابلتِه بالموصولِ في قولِه : { وَالَّذِينَ كَفَرواْ } فيكونَ في محل رفع ، و " لا " يجوز أَنْ تكونَ عاملةً عملَ ليس ، فيكونَ " خوفٌ " اسمها ، و " عليهم " في محلِّ نصبٍ خبرَها ، ويجوز أن تكونَ غيرَ عاملةٍ فيكونَ " خوفٌ " مبتدأ ، و " عليهم " في محل رفع خبرَه . وهذا أَوْلَى مِمَّا قَبْله لوجهين ، أحدُهما : أنَّ عملَها عملَ ليس قليلٌ ولم يَثْبُتْ إلا بشيءٍ محتملٍ وهو قوله :

تَعَزَّ فلا شيءٌ على الأرضِ باقياً *** ولا وَزرٌ ممَّا قضى اللهُ واقِيَا

والثاني : أنَّ الجملة التي بعدها وهي : { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } تُعَيِّنُ أن تكونَ " لا " فيها غيرَ عاملةٍ لأنها لا تعملُ في المعارفِ ، فَجَعْلُها غيرَ عاملةٍ فيه مشاكلةٌ لِما بعدها ، وقد وَهِمَ بعضُهم فَجَعَلها عاملةً في المعرفة مستدلاًّ بقوله :

وحَلَّتْ سوادَ القلبِ لا أنا باغياً *** سِواها في حُبِّها مُتَراخِيا

ف " أنا " اسمُها و " باغياً " خبرُها . قيل : ولا حُجَّةَ فيه لأنَّ " باغياً " حال عاملُها محذوفٌ هو الخبرُ في الحقيقة تقديره : ولا أنا أُرَى باغِياً ، أو يكونُ التقديرُ : ولا أُرَى باغيا ، فلمَّا حُذِفَ الفعلُ انفصلَ الضميرُ .

وقُرِئَ : " فلا خَوْفُ " بالرفعِ مِنْ غيرِ تنوين ، والأحسنُ فيه أَنْ تكونَ الإِضافةُ مقدرةً أي : خوفُ شيءٍ ، وقيلَ : لأنه على نيةِ الألفِ واللامِ ، وقيل : حَذَفَ التنوينَ تخفيفاً . وقرئ : " فلا خوفَ " مبنياً على الفتح ، لأنها لا التبرئة وهي أبلغُ في النفي ، ولكن الناسَ رجَّحوا قراءةَ الرفع ، قال أبو البقاء : " لوجهَيْنِ ، أحدُهما : أنه عُطِف عليه ما لا يجوزُ فيه إلا الرفعُ وهو قولُه : " ولا هم " لأنه معرفةٌ ، و " لا " لا تعملُ في المعارِفِ ، فالأَوْلى أن يُجْعَلَ المعطوفُ عليه كذلك لتتشاكلَ الجملتان " ، ثم نظَّره بقولِهم : " قام زيد وعمراً كلَّمْتُه " يعني في ترجيحِ النصب في جملة الاشتغالِ للتشاكل . ثم قال : " والوجهُ الثاني من جهة المعنى ، وذلك أنَّ البناءَ يَدُلُّ على نفي الخوفِ عنهم بالكُلِّيَّة ، وليس المراد ذلك ، بل المرادُ نفيُه عنهم في الآخرةِ . فإنْ قيل : لِمَ لا يكونُ وجهُ الرفعِ أنَّ هذا الكلامَ مذكورٌ في جزاءِ مَنِ اتَّبع الهُدى ، ولا يَليق أن يُنْفَى عنهم الخوفُ اليسيرُ ويُتَوَهَّمَ ثَبوتُ الخوفِ الكثير ؟ قيل : الرفعُ يجوزُ أَنْ يُضْمَرَ معه نفيُ الكثيرِ ، تقديرُه : لا خوفٌ كثيرٌ عليهم ، فيُتَوَهَّمَ ثبوتَ القليلِ ، وهو عكسُ ما قُدِّر في السؤال فبانَ أنَّ الوجهَ في الرفعِ ما ذكرنا " . انتهى .

قولُه تعالى : { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } تقدَّم أنه جملةٌ منفيةٌ وأنَّ الصحيحَ أنَّها غيرُ عاملةٍ ، و " يَحْزنون " في محلِّ رفعٍ خبراً للمبتدأ ، وعلى هذا القولِ الضعيفِ يكون في محل نصب .

والخوفُ : الذُّعْرُ والفَزَع ، يقال : خافَ يخاف فهو خائِفٌ والأصل : خَوِف بزون عَلِمَ ، ويتعدَّى بالهمزةِ والتضعيف . قال تعالى : { وَنُخَوِّفُهُمْ } [ الإسراء : 60 ] ، ولا يكونُ إلا في الأمر المستقبل . والحزنُ ضدُّ السرورِ ، وهو مأخوذٌ من الحَزْن ، وهو ما غَلُظَ من الأرض فكأنه ما غَلُظ من الهمِّ ، ولا يكون إلا في الأمرِ الماضي ، يقال : حَزِن يَحْزَن حُزْناً وحَزَناً . ويتعدَّى بالهمزةِ نحو : أَحْزَنْتُه ، وحَزَّنْتُه ، بمعناه ، فيكون فَعَّل وأَفْعَلَ بمعنى . وقيل : أَحْزَنَه حَصَّل له حُزْناً . وقيل : الفتحةُ مُعَدِّيةٌ للفعلِ نحو : شَتِرَتْ عينُه وشَتَرها الله ، وهذا على قولِ مَنْ يَرَى أنَّ الحركةَ تُعَدِّي الفعلَ . وقد قُرِئ باللغتين : " حَزَنَه وأَحْزَنه " وسيأتي تحقيقهما .