الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{أَوَلَمۡ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقٗا فَفَتَقۡنَٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ كُلَّ شَيۡءٍ حَيٍّۚ أَفَلَا يُؤۡمِنُونَ} (30)

قوله : { أَوَلَمْ يَرَ } : قرأ ابن كثير " ألم يرَ " من غير واو . والباقونَ/ بالواوِ بين همزةِ الاستفهام و " لم " . ونظيرُ حذفِ الواوِ وإثباتِها هنا ما تقدَّم في البقرة وآل عمران في قولِه { قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً } [ البقرة : 116 ] { سَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ } [ البقرة : 133 ] وقد تقدَّم حكمُ ذلك . والرؤيةُ هنا يجوز أن تكونَ قلبيةً ، وأن تكونَ بَصَريةً . ف " أنَّ " وما في حَيِّزها سادَّةٌ مَسَدَّ مفعولَيْنِ عند الجمهور على الأول ، ومَسَدَّ واحدٍ والثاني محذوف ، عند الأخفش ، وسادَّةٌ مسدَّ واحدٍ فقط على الثاني .

قوله : { كَانَتَا } الضميرُ يعودُ على السماوات والأرض بلفظِ التثنيةِ ، والمتقدِّم جمعٌ . وفي ذلك أوجه أحدُها : ما ذكره الزمخشري فقال : " وإنما قيل " كانتا " دونَ " كُنَّ " لأنَّ المرادَ جماعةُ السماواتِ وجماعةُ الأرَضين . ومنه قولُهم : " لِقاحان سَوْداوان " أي : جماعتان . فَعَلَ في المضمر نحوَ ما فَعَل في المظهر . الثاني : قال أبو البقاء : " الضميرُ يعودُ على الجنسين " . الثالث : قال الحوفي : " قال : كانتا رَتْقاً والسماوات جمعٌ لأنه أراد الصِّنْفَيْنِ . قال الأسودُ ابنُ يَعْفَر :

إن المنيَّةَ والحُتُوفَ كِلاهما *** يُوفي المخارم يَرْقُبان سوادي

لأنه أراد النوعين ، وتبعه ابن عطية في هذا فقال : " وقال : " وكانتا " من حيث هما نوعان . ونحوُه قولُ عمرِو بن شييم :

ألم يُحْزِنْكَ أنَّ حبالَ قيسٍ *** وتَغْلِبَ قد تباينتا انقطاعا

ورَتْقاً : خبرٌ . ولم يُثَنَّ لأنَّه في الأصلِ مصدرٌ . ثم لك أن تجعلَه قائماً مقامَ المفعولِ كالخَلْقِ بمعنى المَخْلوق ، أو تجعلَه على حَذْفِ مضافٍ أي : ذواتَيْ رَتْقٍ . وهذه قراءةُ الجمهور .

وقرأ الحسنُ وزيد بن علي وأبو حيوة وعيسى " رَتَقاً " بفتحِ التاءِ وفيه وجهان ، أحدهما : أنه مصدرٌ أيضاً ، ففيه الوجهان المتقدِّمان في الساكنِ التاءِ . والثاني : أنه فَعَل بمعنى مَفْعول كالقَبَض والنَّقَض بمعنى المَقْبوض والمَنْقوض ، وعلى هذا فكان ينبغي أَنْ يطابقَ بخبرِه في التثنية . وأجاب الزمخشري عن ذلك فقال : " هو على تقديرِ موصوفٍ أي : كانتا شيئاً رَتَقاً " . ورَجَّح بعضُهم المصدريةَ بعدمِ المطابقَةِ في التثنية ، وقد عرفت جوابه . وله أن يقولَ : الأصلُ عدمُ حذفِ الموصوف فلا يُصارُ إليه دونَ ضرورةٍ .

والرَّتْقُ : الانضمامُ . ارْتَتَقَ حَلْقُه : أي : انضمَّ . وامرأةٌ رَتْقاءُ أي : مُنْسَدَّة الفَرْجِ ، فلم يُمْكِنْ جماعُها من ذلك . والفَتْقُ : فَصْل ذلك المُرْتَتِقِ ، وهو من أحسن البديع هنا ؛ حيث قابل الرَّتْقَ بالفَتْق . قال الزمخشري : " فإنْ قلت : متى رَأَوْهما رَتْقاً حتى جاء تقريرُهم بذلك ؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أنه وارِدٌ في القرآن الذي هو معجِزٌ في نفسِه ، فقام مقامَ المَرْئيِّ المشاهَدِ . والثاني : أنَّ تَلاصُقَ السماءِ والأرضِ وتبايَنهما كلاهما جائزٌ في العقلِ فلا بُدَّ للتباين دون التلاصُقِ من مخصِّصٍ وهو القديمُ سبحانه " .

قوله : { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } يجوز في " جَعَل " هذه أَنْ تكونَ بمعنى " خلق " فتتعدَّى لواحدٍ وهو كلُّ شيءٍ ، و { مِنَ الْمَآءِ } متعلقٌ بالفعلِ قبلَه . ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من " كل شيء " لأنه في الأصلِ يجوز أن يكونَ وَصْفاً له ، فلما قُدِّم عليه نُصِبَ على الحال . ومعنى خَلْقِه من الماء أحدُ شيئين : إمَّا شدةُ احتياجِ كلِّ حيوانٍ للماء فلا يعيشُ بدونِه ، وإمَّا لأنه مخلوقٌ من النُّطْفَة التي تُسَمَّى ماءً . ويجوز أن تكونَ " جَعَلَ " بمعنى صَيَّر فتتعدَّى لاثنين ، ثانيهما الجارُّ بمعنى : أنَّا صَيَّرْنا كلَّ شيء حيّ بسبب من الماء لا بُدَّ له منه .

والعامَّةُ على خفض " حيّ " صفةً لشَيْء . وقرأ حميد بنصبه على أنه مفعولٌ ثانٍ ل جَعَلْنا . والظرفُ لغوٌ . ويَبْعُد على هذه القراءةِ أَنْ يكونَ " جعل " بمعنى " خَلَقَ " ، وأنْ ينتصبَ " حَيَّاً " على الحال .