الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن سُلَٰلَةٖ مِّن طِينٖ} (12)

قوله : { مِن سُلاَلَةٍ } : فيه وجهان : أحدهما : وهو الظاهرُ أَنْ يتعلَّقَ ب خَلَقْنا و " مِنْ " لابتداءِ الغاية . والثاني : أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ من الإِنسان . والسُّلالَةُ : فُعالة . وهو بناءٌ يَدُلُّ على القِلَّة كالقُلامة . وهي مِنْ سَلَلْتُ الشيءَ من الشيءِ أي استَخْرَجْتَه منه ، ومنه قولُهم : هو سُلالَةُ أبيه كأنه انْسَلَّ مِنْ ظَهْرِه وأُنْشِد :

فجاءت به عَضْبَ الأَديمِ غَضَنْفَراً *** سُلالةَ فَرْجٍ كان غيرَ حَصِيْنِ

وقال أمية بن أبي الصلت :

خَلَقَ البَرِيَّةَ مِنْ سُلالةِ مُنْتِنٍ *** وإلى السُّلالَةِ كلِّها سَنعودُ

/ وقال الزمخشري : " السُّلالَةُ : الخُلاصة لأنَّها تُسَلُّ من بين الكَدَر " . وهذه الجملةُ جوابُ قسمٍ محذوف . أي : والله لقد خَلَقْنا . وعُطِفَت على الجملةِ قبلَها لِما بينهما من المناسبةِ ؛ وهو أنَّه تعالى لمَّا ذَكر أنَّ المُتَّصِفين بتلك الأوصافِ يَرِثون الفردوسَ ، فتضَمَّنَ ذِكْرَ المعادِ الأُخْروي ، ذَكَرَ النشأةَ الأولى ليستدِلَّ بها على المَعَادِ ، فإن الابتداء في العادة أصعبُ من الإِعادةِ كقوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] . وهذا أحسنُ مِنْ قولِ ابن عطية : " هذا ابتداءُ كلامٍ ، والواو في أولِه عاطفةٌ جملةَ كلامٍ على جملةِ كلامٍ ، وإنْ تبايَنَتا في المعنى " لأنِّي قَدَّمْتُ لك وَجْهَ المناسبة .

قوله : { مِّن طِينٍ } في " مِنْ " وجهان ، أحدهما : أنها لابتداءِ الغايةِ . والثاني : أنها لبيانِ الجنسِ . قال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : ما الفرقُ بين " مِنْ " ومِنْ " ؟ قلت الأُوْلى للابتداءِ ، والثانيةٌ للبيانِ كقولِه : { مِنَ الأَوْثَانِ } . قال الشيخ : " ولا تكونُ للبيان ؛ إلاَّ إذا قلنا : إنَّ السُّلالةَ هي الطينُ . أمَّا إذا قُلْنا : إنه مِنْ أُنْسِل من الطين ف " مِنْ " لابتداءِ الغاية " .

وفيما تتعلَّق به " مِنْ " هذه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّها تتعلَّقُ بمحذوفٍ إذ هي صفةٌ ل " سُلالة " . الثاني : أنَّها تتعلَّقُ بنفس " سُلالة " ؛ لأنها بمعنى مَسْلولة . الثالث : أنها تتعلَّقُ ب " خَلَقْنا " لأنها بدلٌ مِن الأولى ، إذا قلنا : إن السُّلالةَ هي نفسُ الطين .