الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{ثُمَّ خَلَقۡنَا ٱلنُّطۡفَةَ عَلَقَةٗ فَخَلَقۡنَا ٱلۡعَلَقَةَ مُضۡغَةٗ فَخَلَقۡنَا ٱلۡمُضۡغَةَ عِظَٰمٗا فَكَسَوۡنَا ٱلۡعِظَٰمَ لَحۡمٗا ثُمَّ أَنشَأۡنَٰهُ خَلۡقًا ءَاخَرَۚ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحۡسَنُ ٱلۡخَٰلِقِينَ} (14)

قوله : { ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً } : وما بعدها . ضَمَّنَ " خَلَق " معنى جَعَلَ التصييريةِ فتعَدَّت لاثنين كما تَضَمَّنَ جَعَلَ معنى خَلَق فيتعدَّى لواحدٍ نحوَ :

{ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } [ الأنعام : 1 ] .

قوله : { عِظَاماً } قرأ العامَّةُ " عِظاماً " و " العظام " بالجمع فيهما . وابن عامر وأبو بكر عن عاصم " عَظْماً " و " العظم " بالإِفراد فيهما . والسُّلمي والأعرج والأعمش بإفرادِ الأول وجَمْعِ الثاني . وأبو رجاء ومجاهد وإبراهيم ابن أبي بكر بجمع الأولِ وإفرادِ الثاني عكسَ ما قبله . فالجمعُ على الأصل لأنه مطابِقٌ لِما يُراد به ، والإِفرادُ للجنسِ كقولِه : { وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي } [ مريم : 4 ] . وقال الزمخشري : " وَضَعَ الواحدَ موضع الجمعِ لزوالِ اللَّبْسِ لأنَّ الإِنسانَ ذو عِظامٍ كثيرة " . قال الشيخ : " هذا عند سيبويه وأصحابِه لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةٍ وأنشدوا :

كُلوا في بَعْضِ بطنِكُم تَعِفُّوا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وإن كان مَعْلوماً أنَّ كلَّ واحدٍ له بطنٌ " . قلت : ومثله :

لا تُنْكِروا القَتْلَ وقد سُبِيْنا *** في حَلْقِكم عَظْمٌ وقد شُجينا

يريد : في حُلوقكم . ومثلُه قولُ الآخر :

به جِيَفُ الحَسْرى فأمَّا عِظامُها *** فبِيْضٌ وأمَّا جِلْدُها فصَلِيْبُ

يريد : جلودُها ، ومنه { وَعَلَى سَمْعِهِمْ } [ البقرة : 7 ] وقد تقدَّم طَرَفٌ مِنْ هذا .

قوله : { أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ . أحدها : أنه بدلٌ مِن الجلالة . الثاني : أنَّه نعتٌ للجلالة وهو أَوْلَى مِمَّا قبلَه ؛ لأن البدلَ بالمشتقِ يَقِلُّ . الثالث : أن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي : هو أحسنُ . والأصلُ عدمُ الإِضمارِ . وقد مَنَع أبو البقاء أن يكونَ وصفاً قال : " لأنه نكرةٌ وإنْ أُضيف لمعرفةٍ ؛ لأنَّ المضافَ إليه عِوضٌ مِنْ " مِنْ " وهكذا جميعُ أَفْعَل منك " . قلت : وهذا بناءً منه على أحد القولين في أَفْعَلِ التفضيلِ إذا أُضيف : هل إضافتُه محضةٌ أم لا ؟ والصحيحُ الأول .

والخالقين أي : المقدِّرين كقولِ زهير :

ولأنتَ تَفْرِيْ ما خَلَقْتَ وبَعْ *** ضُ القومِ يَخْلُقُ ثم لا يَفْرِي

/والمميِّزُ لأَفْعَل محذوفٌ لدلالةِ المضافِ إليه عليه أي : أحسن الخالقين خَلْقاً أي : المقدِّرين تقديراً كقوله : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ }

[ الحج : 39 ] أي : في القِتال . حُذِف المأذونُ فيه لدلالةِ الصلةِ عليه .