قوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } الآيات لما أمر{[32251]} بالعبادات في الآيات المتقدمة بطريق الحث عليها والاشتغال بعبادة الله لا يصح إلا بعد معرفة الله ، لا جرم عقّبها بذكر ما يدل على وجوده ، واتصافه بصفات الجلال والوحدانية ، فذكر أنواعاً من الدلائل : منها تقلب الإنسان في أدوار خلقته وهي تسعة :
أولها : قوله : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان } قال ابن عباس وعكرمة وقتادة ومقاتل : المراد بالإنسان آدم - عليه السلام{[32252]}- سُلَّ مِنْ كُلِّ تُرْبَةٍ ، وخُلقتْ ذريته من ماء مهين .
وقيل : الإنسان اسم جنس يقع على الواحد والجميع{[32253]} ، والسلالة هي الأجزاء الطينية المبثوثة في أعضائه التي لما اجتمعت وحصلت في أوعية المني صارت منياً ، وهذا مطابق لقوله تعالى : { وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ . ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ }{[32254]} {[32255]} [ السجدة : 7 – 8 ] .
قال ابن الخطيب : وفيه وجه آخر : وهو أنّ الإنسان إنما يتولد من النطفة ، وهي إنما تتولد من فضل الهضم الرابع وذلك{[32256]} إنما يتولد من الأغذية ، وهي إما حيوانية أو نباتية ، والحيوانية تنتهي إلى النباتية ، والنبات إنما يتولد من صفو الأرض والماء ، فالإنسان في الحقيقة يكون متولداً من سلالة من طين ، ثم إن تلك السلالة بعد أن تواردت عليها أطوار الخلقة وأدوار{[32257]} الفطرة صارت منياً{[32258]} .
( قوله ){[32259]} : «مِنْ سُلاَلَةٍ » فيه وجهان :
أظهرهما : أن يتعلق ب «خَلَقْنَا »{[32260]} ، و «مِنْ » لابتداء الغاية{[32261]} .
والثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «الإنسان » .
والسُّلالة ( فُعَالَة ) ، وهو بناء يدل على القلة كالقُلاَمة{[32262]} ، وهي من سَلَلْتُ الشيءَ من الشيءِ أي استخرجْتهُ منه ، ومنه قولهم : هو سُلاَلَةُ أَبيهِ كأنه انسلّ{[32263]} من ظهره{[32264]} ، وأنشد :
فَجَاءَتْ بِهِ عَضْبَ الأَدِيمِ غَضَنْفَراً *** سُلاَلَةَ فَرْجٍ كَانَ غَيْرَ حَصِينٍ{[32265]}
خلق البرية من سلالة منتن *** وإلى السلالة كلها ستعود{[32266]}
وقال عكرمة : هو الماء يسيل من الظهر . والعرب يسمون{[32267]} النطفة سُلاَلَة ، والولد سَلِيلاً وسُلاَلة ، لأنهما مَسْلُولاَنِ منه{[32268]} . وقال الزمخشري : السلالة الخُلاصة ، لأنها تسل من بين الكَدَر{[32269]} . وهذه الجملة جواب قسم محذوف ، أي : والله لقد خلقنا ، وعطفت على الجملة قبلها لما بينهما من المناسبة ، وهو أنه لما ذكر أنّ المتصفين بتلك الأوصاف{[32270]} يرثون الفردوس فتضمن{[32271]} ذلك المعاد الأخروي ذكر النشأة الأولى ليستدل{[32272]} بها على المعاد{[32273]} ، فإنّ الابتداء في العادة أصعب من الإعادة ، لقوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ }{[32274]} [ الروم : 27 ] .
وهذا أحسن من قول ابن عطية : هذا ابتداء كلام ، والواو في أوله عاطفة جملة كلام على جملة كلام ، وإن تباينتا في المعنى{[32275]} . وقد تقدم بيان وجه المناسبة .
قوله : «مِنْ طِين » في «مِنْ » وجهان :
أحدهما : أنها لابتداء الغاية .
قال الزمخشري{[32276]} : فإن قلت : ما الفرق بين «مِنْ » و «مِنْ » ؟ قلت : الأولى للابتداء ، والثانية للبيان كقوله : «مِنَ الأَوْثَانِ »{[32277]} {[32278]} . قال أبو حيان : ولا تكون للبيان إلا إذا قلنا : إن السلالة هي الطين أما إذا قلنا : إنه من انسل{[32279]} من الطين ف «مِنْ »{[32280]} لابتداء الغاية{[32281]} وفيما تتعلق به «مِنْ » هذه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها تتعلق بمحذوف إذ هي صفة ل «سُلاَلَة »{[32282]} .
الثاني : أنها تتعلق بنفس{[32283]} «سُلاَلَة » لأنها بمعنى مسلولة{[32284]} .
الثالث : أنها تتعلق ب «خَلَقْنَا » ، لأنها بدل من الأولى إذا قلنا : إنّ السلالة هي نفس الطين{[32285]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.