اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن سُلَٰلَةٖ مِّن طِينٖ} (12)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } الآيات لما أمر{[32251]} بالعبادات في الآيات المتقدمة بطريق الحث عليها والاشتغال بعبادة الله لا يصح إلا بعد معرفة الله ، لا جرم عقّبها بذكر ما يدل على وجوده ، واتصافه بصفات الجلال والوحدانية ، فذكر أنواعاً من الدلائل : منها تقلب الإنسان في أدوار خلقته وهي تسعة :

أولها : قوله : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان } قال ابن عباس وعكرمة وقتادة ومقاتل : المراد بالإنسان آدم - عليه السلام{[32252]}- سُلَّ مِنْ كُلِّ تُرْبَةٍ ، وخُلقتْ ذريته من ماء مهين .

وقيل : الإنسان اسم جنس يقع على الواحد والجميع{[32253]} ، والسلالة هي الأجزاء الطينية المبثوثة في أعضائه التي لما اجتمعت وحصلت في أوعية المني صارت منياً ، وهذا مطابق لقوله تعالى : { وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ . ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ }{[32254]} {[32255]} [ السجدة : 7 – 8 ] .

قال ابن الخطيب : وفيه وجه آخر : وهو أنّ الإنسان إنما يتولد من النطفة ، وهي إنما تتولد من فضل الهضم الرابع وذلك{[32256]} إنما يتولد من الأغذية ، وهي إما حيوانية أو نباتية ، والحيوانية تنتهي إلى النباتية ، والنبات إنما يتولد من صفو الأرض والماء ، فالإنسان في الحقيقة يكون متولداً من سلالة من طين ، ثم إن تلك السلالة بعد أن تواردت عليها أطوار الخلقة وأدوار{[32257]} الفطرة صارت منياً{[32258]} .

( قوله ){[32259]} : «مِنْ سُلاَلَةٍ » فيه وجهان :

أظهرهما : أن يتعلق ب «خَلَقْنَا »{[32260]} ، و «مِنْ » لابتداء الغاية{[32261]} .

والثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «الإنسان » .

والسُّلالة ( فُعَالَة ) ، وهو بناء يدل على القلة كالقُلاَمة{[32262]} ، وهي من سَلَلْتُ الشيءَ من الشيءِ أي استخرجْتهُ منه ، ومنه قولهم : هو سُلاَلَةُ أَبيهِ كأنه انسلّ{[32263]} من ظهره{[32264]} ، وأنشد :

فَجَاءَتْ بِهِ عَضْبَ الأَدِيمِ غَضَنْفَراً *** سُلاَلَةَ فَرْجٍ كَانَ غَيْرَ حَصِينٍ{[32265]}

وقال أمية بن أبي الصلت :

خلق البرية من سلالة منتن *** وإلى السلالة كلها ستعود{[32266]}

وقال عكرمة : هو الماء يسيل من الظهر . والعرب يسمون{[32267]} النطفة سُلاَلَة ، والولد سَلِيلاً وسُلاَلة ، لأنهما مَسْلُولاَنِ منه{[32268]} . وقال الزمخشري : السلالة الخُلاصة ، لأنها تسل من بين الكَدَر{[32269]} . وهذه الجملة جواب قسم محذوف ، أي : والله لقد خلقنا ، وعطفت على الجملة قبلها لما بينهما من المناسبة ، وهو أنه لما ذكر أنّ المتصفين بتلك الأوصاف{[32270]} يرثون الفردوس فتضمن{[32271]} ذلك المعاد الأخروي ذكر النشأة الأولى ليستدل{[32272]} بها على المعاد{[32273]} ، فإنّ الابتداء في العادة أصعب من الإعادة ، لقوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ }{[32274]} [ الروم : 27 ] .

وهذا أحسن من قول ابن عطية : هذا ابتداء كلام ، والواو في أوله عاطفة جملة كلام على جملة كلام ، وإن تباينتا في المعنى{[32275]} . وقد تقدم بيان وجه المناسبة .

قوله : «مِنْ طِين » في «مِنْ » وجهان :

أحدهما : أنها لابتداء الغاية .

والثاني : أنها لبيان الجنس .

قال الزمخشري{[32276]} : فإن قلت : ما الفرق بين «مِنْ » و «مِنْ » ؟ قلت : الأولى للابتداء ، والثانية للبيان كقوله : «مِنَ الأَوْثَانِ »{[32277]} {[32278]} . قال أبو حيان : ولا تكون للبيان إلا إذا قلنا : إن السلالة هي الطين أما إذا قلنا : إنه من انسل{[32279]} من الطين ف «مِنْ »{[32280]} لابتداء الغاية{[32281]} وفيما تتعلق به «مِنْ » هذه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها تتعلق بمحذوف إذ هي صفة ل «سُلاَلَة »{[32282]} .

الثاني : أنها تتعلق بنفس{[32283]} «سُلاَلَة » لأنها بمعنى مسلولة{[32284]} .

الثالث : أنها تتعلق ب «خَلَقْنَا » ، لأنها بدل من الأولى إذا قلنا : إنّ السلالة هي نفس الطين{[32285]} .


[32251]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 23/84 – 85.
[32252]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[32253]:في ب: والجمع.
[32254]:[السجدة: 7 – 8].
[32255]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 23/84 – 85.
[32256]:في ب: وذاك.
[32257]:في ب: أطوار.
[32258]:الفخر الرازي 23/85.
[32259]:ما بين القوسين بياض في الأصل.
[32260]:انظر التبيان 2/951.
[32261]:انظر الكشاف 3/44.
[32262]:انظر الكشاف 3/44، القلامة: ما قطع من طرف الظفر أو الحافر أو العود اللسان (قلم)، المعجم الوسيط (قلم).
[32263]:في ب: النسل.
[32264]:انظر اللسان (سلل)، البحر المحيط 6/393.
[32265]:البيت من بحر الطويل قاله حسان بن ثابت، وهو في ديوانه (396) مجاز القرآن 2/56، الطبري 18/16، تفسير ابن عطية 1/336، واللسان (سلل)، القرطبي 12/109، البحر المحيط 6/393، عضب الأديم: غليظ الجلد، يعني أنه شديد قوي الجلد. الغضنفر: الغليظ من كل شيء، والأسد سمي غضنفرا لكثافته وعظم هامته وأذنيه.
[32266]:البيت من بحر الكامل قاله أمية بن أبي الصلت وليس في ديوانه وهو في البحر المحيط 6/393.
[32267]:في ب: تسمى.
[32268]:البغوي 6/9.
[32269]:الكشاف 3/44.
[32270]:في ب: الصفات.
[32271]:في ب: فضمن.
[32272]:في ب: يستدل.
[32273]:انظر البحر المحيط 6/397.
[32274]:من قوله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم} [الروم: 27].
[32275]:تفسير ابن عطية 10/334.
[32276]:ما بين القوسين سقط من الأصل.
[32277]:من قوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور} [الحج: 30].
[32278]:الكشاف 3/44.
[32279]:في ب: النسل.
[32280]:في ب: من.
[32281]:البحر المحيط 6/398.
[32282]:التبيان 2/951.
[32283]:في ب: به من. وهو تحريف.
[32284]:التبيان 2/951.
[32285]:وعلى هذا الوجه تكون "من" لبيان الجنس.