الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{يَوۡمَ يَرَوۡنَ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةَ لَا بُشۡرَىٰ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُجۡرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجۡرٗا مَّحۡجُورٗا} (22)

قوله : { يَوْمَ يَرَوْنَ } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه منصوبٌ بإضمار فعلٍ يَدُلُّ عليه قوله : " لا بُشْرى " أي : يُمْنعون البشرى يومَ يَرَوْن . الثاني : أنه منصوبٌ باذْكُرْ ، فيكونُ مفعولاً به . الثالث : أنه منصوبٌ ب " يُعَذَّبون " مقدَّراً . ولا يجوز أَنْ يعملَ فيه نفسُ البُشْرى/ لوجهين ، أحدهما : أنها مصدرٌ ، والمصدرُ لا يعملُ فيما قبله . والثاني : أنها منفيةٌ ب " لا " ، وما بعدَها لا يَعْمل فيما قبلَها .

قوله : { لاَ بُشْرَى } هذه الجملةُ معمولةٌ لقولٍ مضمرٍ أي : يَرَوْنَ الملائكةَ يقولون : لا بُشْرَى ، فالقولُ حالٌ من الملائكة . وهو نظيرُ التقديرِ في قولِه تعالى : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23 ] . قال الشيخ : " واحْتَمَلَ " بُشْرَى " أَنْ يكونَ مبنياً مع " لا " ، واحْتَمَل أن يكونَ في نيةِ التنوينِ منصوبَ اللفظِ ، ومُنِع من الصرفِ للتأنيثِ اللازمِ . فإنْ كان مبنياً مع " لا " احْتَمَلَ أَنْ يكونَ " يومئذٍ " خبراً ، و " للمجرمين " خبرٌ بعد خبرٍ ، أو نعتاً ل " بُشْرى " ، أو متعلقاً بما تَعَلَّق به الخبرُ ، وأَنْ يكونَ " يومئذٍ " صفةً ل " بُشْرَى " ، والخبرُ " للمجرمين " ويجيءُ خلافَ سيبويهِ والأخفشِ : هل الخبرُ لنفسِ لا ، أو الخبرُ للمبتدأ الذي هو مجموعُ " لا " وما بُني معها ؟ وإن كان في نيةِ التنوينِ وهو معربٌ جاز أن يكونَ " يومئذٍ " و " للمجرمين " . خبرين ، وجاز أَنْ يكونَ " يومئذٍ " خبراً و " للمجرمين " صفةً . والخبرُ إذا كان الاسمُ ليس مبنيَّاً لنفسِ " لا " بإجماع " .

قلت : قوله : " واحْتَمَلَ أَنْ يكونَ في نيةِ التنوينِ " إلى آخره لا يتأتَّى إلاَّ على قولِ أبي إسحاقَ . وهو أنَّه يَرَى أنَّ اسمَ " لا " النافيةِ للجنسِ معربٌ ، ويَعْتَذِرُ عن حذفِ التنوينِ بكثرةِ الاستعمالِ ، ويَسْتَدِلُّ عليه بالرجوعِ إليه في الضرورةِ . ويُنشِد :

أَلا رجلاً جزاهُ اللهُ خيراً *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ويتأَوَّلُه البصريون على إضمار : ألا تَرَوْنَني رجلاً . وكان يمكنُ الشيخُ أنْ يجعلَه معرباً كما ادَّعى بطريق أخرى : وهي أن يَجْعَلَ " بشرَى " عاملةً في " يومَئذٍ " أو في " للمجرمين " فيصيرُ من قبيلِ المُطَوَّل ، والمُطوَّلُ معربٌ ، لكنه لم يُلِمَّ بذلك . وسيأتي شيءٌ من هذا في كلام أبي البقاء رحمه الله . ويجوز أَن يكونَ " بُشرى " معرباً منصوباً بطريقٍ أخرى . وهي أن تكونَ منصوبةً بفعلٍ مقدرٍ أي : لا يُبَشَّرون بُشرَى كقولِه تعالى : { لاَ مَرْحَباً بِهِمْ } [ ص : 59 ] ، " لا أهلا ولا سهلاً " . إلاَّ أنَّ كلامَ الشيخِ لا يمكنُ تنزيلهُ على هذا لقولهِ : " جاز أَنْ يكونَ " يومَئذٍ " و " للمجرمين " خبرين " فقد حكمَ أنَّ لها خبراً .

وإذا جُعِلَتْ منصوبةً بفعلٍ مقدرٍ لا يكون ل " لا " حينئذٍ خبرٌ ، لأنها داخلةٌ على ذلك الفعلِ المقدرِ . وهذا موضعٌ حَسَنٌ فتأمَّلْه .

قوله : { يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ } قد تقدَّم من " يومئذٍ " أوجهٌ . وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ منصوباً ب " بُشْرى " قال : " إذا قَدَّرْتَ أنها منونةٌ غيرُ مبنيةٍ مع " لا " ويكونُ الخبرُ " للمجرمين " .

وجَوَّز أيضاً هو والزمخشريُّ أَنْ يكونَ " يومئذٍ " تكريراً ل " يومَ يَرَوْن " . ورَدَّه الشيخ سواءً أُريد بالتكريرِ التوكيدُ اللفظيُّ أم أريد به البدلُ قال :

" لأنَّ يومَ منصوبٌ بما تقدَّم ذِكْرُه مِنْ " اذْكُر " ، أو مِنْ يَعْدِمون البُشرى . وما بعد " لا " العاملةِ في الاسمِ لا يَعْمَل فيه ما قبلَها . وعلى تقدير ما ذكره يكون العاملُ فيه ما قبل لا " . قلت : وما رُدَّ به ليس بظاهرٍ ؛ وذلك لأنَّ الجملةَ المنفيَّةَ معمولةٌ للقولِ المضمرِ الواقعِ حالاً مِنَ " الملائكة " ، والملائكةُ معمولةٌ ل " يَرَوْن " ، ويَرَوْن معمولٌ ل " يوم " خفضاً بالإِضافة ، ف " لا " وما في حَيِّزها مِنْ تتمةِ الظرفِ الأولِ من حيث إنَّها معمولةٌ لبعضِ ما في حَيِّزِه فليسَتْ بأجنبيةٍ ولا مانعةٍ مِنْ أَنْ يعملَ ما قبلَها فيما بعدَها . والعجبُ له كيف تَخَيَّلَ هذا ، وغَفَلَ عَمَّا قُلْتُه فإنه واضحٌ مع التأمُّل ؟

و " للمُجْرمين " مِنْ وَضْعِ الظاهرِ مَوْضِعَ المضمرِ شهادةً عليهم بذلك . والضميرُ في " يقولون " يجوزُ عَوْدُه للكفارِ و " للملائكة " .

و " حِجْراً " من المصادرِ المُلْتَزَمِ إضمارُ ناصبها ، ولا يُتَصَرَّف فيه . قال سيبويه : " ويقولُ الرجلُ للرجل : أَتفعل كذا ؟ فيقول : حِجراً " . وهي مِنْ حَجَره إذا مَنَعَه ؛ لأن المستعيذَ طالبٌ من اللهِ أن يمنعَ المكروهَ لا يَلْحَقُه . وكأنّ المعنى : أسأل اللهَ أَنْ يمنعَه مَنْعاً ويَحْجُرَه حَجْراً .

والعامَّةُ على كسرِ الحاء . والضحاك والحسن وأبو رجاء على ضَمِّها وهو لغةٌ فيه . قال الزمخشري : " ومجيئُه على فِعْل أو فُعْل في قراءةِ الحسنِ تَصَرُّفٌ فيه لاختصاصِه بموضعٍ واحد ، كما كان قَعْدَك وعَمْرك كذلك . وأنشدتُ لبعض الرُجاز :

قالَتْ وفيها حَيْدَةٌ وذُعْرُ *** عَوْذٌ بربِّي منكُمُ وحُجْرُ

وهذا الذي أنشده الزمخشريُّ يقتضي تَصَرُّفَ " حجراً " وقد تقدَّم نصُّ سيبويهِ على أنَّه يلزمُ النصبَ . وحكى أبو البقاءِ فيه لغةً ثالثةً وهي الفتحُ . قال : " وقد قُرِىء بها " . فَعَلى هذا كَمَلَ فيه ثلاثُ لغاتٍ مقروءٌ بهنَّ .

ومَحْجُوْراً صفةٌ مؤكَّدةٌ للمعنى كقولهم : ذَيْل ذائِل ، ومَوْت مائتِ . والحِجْر : العقلُ لأنه يمنعُ صاحبَه .