اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَوۡمَ يَرَوۡنَ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةَ لَا بُشۡرَىٰ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُجۡرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجۡرٗا مَّحۡجُورٗا} (22)

قوله : «يَوْمَ يَرَونَ » فيه أوجه :

أحدها : أنه منصوب بإضمار فعل يدل عليه قوله : «لاَ بُشْرَى » أي : يُمْنَعُونَ البُشْرَى يَوْمَ يَرَونَ{[35761]} .

الثاني{[35762]} : أنه منصوب ب ( اذكر ) ، فيكون مفعولاً به{[35763]} .

الثالث : أنَّه منصوب ب ( يعذبون ) مقدراً{[35764]} .

ولا يجوز أن يعمل فيه نفس «البُشْرَى » لوجهين :

أحدهما : أنها مصدر والمصدر لا يعمل فيما قبله{[35765]} .

والثاني{[35766]} : أنَّها منفية ب ( لا ) ، ( وما بعد ( لا ) ){[35767]} لا{[35768]} يعمل فيما قبلها{[35769]} .

قوله : «لاَ بُشْرَى » هذه الجملة معمولة لقول مضمر ، أي : يَرَون الملائكة يقولون لا بُشْرَى ، فالقول حال من

«المَلاَئِكَة » ، وهو نظير التقدير في قوله : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ } [ الرعد : 23 ] إلى قوله : { سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 24 ] .

قال أبو حيان : واحتمل{[35770]} «بُشْرَى » أن يكون مبنيًّا مع «لاَ » ، واحتمل أن يكون في نية التنوين منصوب اللفظ ، ومنع من الصرف للتأنيث اللازم فإنه كان مبنيًّا مع «لا » احتمل{[35771]} أن يكون

«يَوْمَئِذٍ » خبراً و «لِلْمُجْرِمِينَ » خبراً{[35772]} بعد خبر ، أو نعتاً ل «بُشْرَى » ، أو متعلقاً بما تعلَّق به الخبر ، وأن يكون «يَوْمَئِذٍ » صفة ل «بُشْرَى »{[35773]} والخبر «لِلْمُجْرِمِينَ » ، ويجيء خلاف سيبويه والأخفش هل الخبر لنفس «لاَ » أو{[35774]} الخبر للمبتدإ الذي هو مجموع «لاَ » وما بني معها{[35775]} .

وإن كان في نية التنوين وهو معرب ، ( جاز أن يكون «يَوْمَئِذٍ » ، و «لِلْمُجْرِمِينَ » خبرين ، {[35776]} وجاز أن يكون «يَوْمَئِذٍ » خبراً و «لِلْمُجْرِمِينَ » صفة ، والخبر إذا كان الاسم ليس مبنياً لنفس «لاَ » بإجماع{[35777]} . قال شهاب الدين : قوله{[35778]} : واحتمل أن يكون في نية التنوين إلى آخره لا يتأتَّى إلاَّ على قول أبي إسحاق{[35779]} ، وهو أنه يرى أنَّ اسم ( لاَ ) النافية للجنس معربٌ{[35780]} ، ويعتذر عن حذف التنوين بكثرة الاستعمال ويستدل عليه بالرجوع إليه في الضرورة ، وينشد :

أَلاَ رَجُلاً جَزَاهُ اللَّهُ خَيْراً{[35781]} *** . . .

ويتأوله البصريون على إضمار : ألا ترونني رجلاً ، وكان يمكن الشيخ أن يجعله معرباً كما ادّعى بطريق أخرى ، وهو{[35782]} : أن يجعل «بُشْرَى » عاملة في «يَوْمَئِذٍ »{[35783]} أو في «لِلْمُجْرِمِينَ » ، فيصير من قبيل المطوَّل{[35784]} ، والمطوَّل معربٌ ، لكنه لم يلم بذلك ، وسيأتي شيء من هذا في كلام أبي البقاء رحمه الله .

ويجوز أن يكون «بُشْرَى » معرباً منصوباً بطريق أخرى ، وهي أن تكون منصوبة بفعل مقدَّر ، أي : لا يُبَشَّرُونَ بُشْرَى ، كقوله تعالى : ( { لاَ مَرْحَباً ( بِهِمْ ){[35785]} }{[35786]} [ ص : 59 ] ، ( و ){[35787]} لا أهلاً ولا سهلاً ، إلاَّ أن كلام الشيخ لا يمكن تنزيله على هذا لقوله : جاز أن يكون «يَوْمَئِذٍ » و «لِلْمُجْرِمِينَ » خبرين{[35788]} ، فقد حكم أن لها خبراً ، وإذا جُعِلَت منصوبة بفعل مقدر لا يكون [ ل ( لا ) ]{[35789]} حينئذ خبر{[35790]} ، لأنها داخلة على ذلك الفعل المقدر ، وهذا موضع حسنٌ{[35791]} .

قوله : «يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ » قد تقدَّم في «يَوْمَئِذٍ » أوجه : وجوَّز أبو البقاء أن يكون منصوباً ب «بُشْرَى » ، قال : إذا قدَّرت أنها منونة غير مبنيَّة مع ( لا ) ، ويكون الخبر «لِلْمُجْرِمِينَ »{[35792]} . وجوَّز - أيضاً - هو والزمخشري أن يكون «يَوْمَئِذٍ » تكريراً ( ل «يَوْم ){[35793]} يَرَوْنَ »{[35794]} وردَّه أبو حيان سواء أريد بالتكرير{[35795]} التوكيد اللفظيّ أم أريد به البدل قال : لأنَّ «يَوْمَ » منصوب بما تقدم ذكره من ( اذكر ) ( أو من ){[35796]} ( يَعْدَمُونَ ) البشرى ، وما بعد ( لاَ ) العاملة في الاسم لا يعمل فيه{[35797]} ما قبلها ، وعلى تقدير ما ذكراه{[35798]} يكون العامل فيه ما قبل ( لاَ ){[35799]} . وما ردَّه ليس بظاهر ، لأنَّ الجملة المنفية معمولةٌ للقول المضمر الواقع حالاً من «المَلاَئِكَةِ » ، و{[35800]} «الملائكة » معمولةٌ ل «يَرَوْنَ » ، و «يَرَوْنَ » معمول ل «يَوْمَ » خُصِّصَا{[35801]} بالإضافة ، ف ( لا ){[35802]} وما في حيزها من تتمة الظرف الأول من حيث إنها معمولة لبعض ما في حيزه ، فليست بأجنبية ولا{[35803]} مانعةٍ من أن يعمل ما قبلها فيما بعدها .

والعجب له كيف تخيل هذا وغفل عما تقدم فإنه واضح مع التأمل . و «لِلْمُجْرِمِينَ » من وضع الظاهر موضع المضمر{[35804]} شهادةً عليهم بذلك . والضمير في «يقُولُونَ » يجوز عوده للكفار{[35805]} ( أو للملائكة{[35806]} ){[35807]} . و «حِجْراً » من المصادر الملتزم إضمار{[35808]} ناصبها ، ولا يتصرَّف فيه نحو معاذ الله ، وقعدك ، وعمرك ، وهذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدوٍّ وهجوم نازلة ، ونحو ذلك يضعونها موضع الاستعاذة ، قال سيبويه : ويقول الرجل للرجل : أتفعل كذا فيقول : حِجْراً{[35809]} وهي من حجره : إذا منعه ، لأنَّ المستعيذ طالب{[35810]} من الله أن يمنع المكروه ولا{[35811]} يلحقه{[35812]} ، وكان المعنى : أسأل الله أن يمنعه منعاً ويحجره حجراً . والعامة على كسر الحاء ، والضحاك ، والحسن ، وأبو رجاء على ضمِّها{[35813]} وهو لغة فيه .

قال الزمخشري : ومجيئه على فِعْل أو فُعْل في قراءة الحسن تصرّف فيه لاختصاصه بموضع واحد كما كان قعدك وعمرك كذلك وأنشد لبعض الرجاز{[35814]} :

قَالَتْ{[35815]} وَفِيهَا حَيْدَةٌ وذُعْرُ *** . . .

عَوْذٌ بِرَبِّي{[35816]} مِنْكُم وَحُجْرُ{[35817]} *** . . .

وهذا{[35818]} الذي أنشده الزمخشري يقتضي{[35819]} تصرُّف «حِجْراً » . وقد تقدم نص سيبويه على أنه يلتزم النصب . وحكى أبو البقاء فيه لغةً ثالثةً وهي الفتح ، قال : وقد قرئ بها{[35820]} . فعلى هذا كمل فيه ثلاثة لغاتٍ مقروء بهنَّ .

و «مَحْجُوراً » صفة مؤكدة للمعنى كقولهم : ذيل ذائل{[35821]} ، والذيل{[35822]} : الهوان ، ومَوْتٌ مَائِتٌ ، والحِجْرُ : العقل ، لأنه{[35823]} يمنع صاحبه{[35824]} .

فصل

قوله{[35825]} : { يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة } عند الموت . قاله ابن عباس ، وقال الباقون : يريد يوم{[35826]} القيامة{[35827]} { لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ } للكافرين . قالت المعتزلة : الآية تدلّ على القطع بوعيد الفساق وعدم العفو ، قوله : «لاَ بُشْرَى . . . لِلْمُجْرِمِينَ » نكرة في سياق النفي فتعمّ جميع أنواع البشر في جميع الأوقات ، بدليل أن من أراد تكذيب هذه القضية{[35828]} قال : بل{[35829]} له بُشْرَى في الوقت الفلاني ، فلما كان ثبوت البشرى في وقت من الأوقات يذكر لتكذيب هذه القضية ، علمنا أن قوله : «لاَ بُشْرَى » يقتضي نفي جميع البشرى في كل الأوقات ، وشفاعة الرسول لهم من أعظم البشرى فوجب أن لا يثبت ذلك لأحد من المجرمين ، والكلام على التمسك بصيغ العموم ، وقد تقدم مراراً{[35830]} .

فصل

اختلفوا في القائلين «حِجْراً مَحْجُوراً » : فقال ابن جريج : كانت العرب إذا نزلت بهم شدة ، ورأوا ما يكرهون ، قالوا : «حِجْراً مَحْجُوراً » ، فهم يقولونه إذا عاينوا الملائكة{[35831]} .

قال مجاهد : يعني : عوذاً مَعَاذاً ، فيستعيذون به من الملائكة{[35832]} .

وقال ابن عباس : تقول الملائكة : حراماً محرماً أن يدخل الجنة إلا من قال : لا إله إلا الله{[35833]} . قال مقاتل : إذا خرج الكفار من قبورهم قالت لهم الملائكة «حِجْراً مَحْجُوراً »{[35834]} أي : حرام محرم عليكم أن تكون{[35835]} لكم البشرى{[35836]} .


[35761]:انظر الكشاف 3/94، البيان 2/203، البحر المحيط 6/492.
[35762]:في ب: والثاني.
[35763]:انظر الكشاف 3/94، التبيان 2/983، البحر المحيط 6/492.
[35764]:انظر التبيان 2/983.
[35765]:انظر التبيان 2/983، البحر المحيط 6/492.
[35766]:في ب: والثالث.
[35767]:ما بين القوسين في ب: وما بعدها.
[35768]:لا: سقط من ب.
[35769]:انظر البيان 2/203، التبيان 2/983، البحر المحيط 6/492.
[35770]:في ب: فاحتمل.
[35771]:في ب: فاحتمل.
[35772]:في الأصل خبر بالرفع.
[35773]:في ب: للبشرى. وهو تحريف.
[35774]:في ب: و. وهو تحريف.
[35775]:انظر معاني القرآن 1/174، والهمع 1/146.
[35776]:ما بين القوسين سقط من ب.
[35777]:البحر المحيط 6/492.
[35778]:قوله: سقط من ب.
[35779]:هو أبو إسحاق الزجاج.
[35780]:فالفتحة عنده إعراب لا بناء. انظر شرح الكافية 1/155.
[35781]:صدر بيت من الوافر، قاله عمرو بن قعاس أو قنعاس المرادي، وعجزه: يدل على محصلة تبيت *** ... وقد تقدم.
[35782]:في الأصل: وهي.
[35783]:على أن تكون "بشرى" مع (لا). انظر البيان 2/203، التبيان 2/983.
[35784]:المراد به الشبيه بالمضاف، وهو ما اتصل به شيء من تمام معناه، مثل يا طالعا جبلا. فهذا معرب لشبهه بالمضاف.
[35785]:[ص: 59]. والاستشهاد بالآية على أن "مرحبا" منصوب بفعل مقدر، والتقدير: لا يسمعون مرحبا.
[35786]:ما بين القوسين سقط من ب.
[35787]:تكملة ليست في المخطوط.
[35788]:في ب: خبر. وانظر البحر المحيط 6/492.
[35789]:ما بين المعقوفين سقط من ب.
[35790]:في النسختين: خبرا. والصواب ما أثبته.
[35791]:الدر المصون 5/133.
[35792]:التبيان 2/983 – 984.
[35793]:ما بين القوسين في ب: اليوم. وهو تحريف.
[35794]:انظر الكشاف 3/94، التبيان 2/983.
[35795]:في ب: التكرار.
[35796]:ما بين القوسين في ب: أمن. وهو تحريف.
[35797]:في ب: فيما.
[35798]:في ب: ما ذكره. وفي البحر المحيط: وعلى تقديره يكون....
[35799]:البحر المحيط 6/492.
[35800]:في ب: ف.
[35801]:في ب: خصصنا.
[35802]:ما بين القوسين في ب: كلام.
[35803]:في ب: فلا.
[35804]:انظر الكشاف 3/94.
[35805]:واستظهره أبو حيان. انظر البحر المحيط 6/492.
[35806]:انظر البحر المحيط 6/493.
[35807]:في النسختين: وللملائكة. والصواب ما أثبته.
[35808]:إضمار: سقط من ب.
[35809]:انظر الكتاب 1/326.
[35810]:في ب: يطلب.
[35811]:في الأصل: لا.
[35812]:انظر البحر المحيط 6/492.
[35813]:انظر المختصر (104)، وتفسير ابن عطية 11/26، البحر المحيط 6/492 – 493 الإتحاف (328).
[35814]:في ب: الزجالة.
[35815]:في ب: قال.
[35816]:في ب: بر. وهو تحريف.
[35817]:انظر الكشاف 3/94. رجز قاله العجاج. وهو في ديوانه (317)، الكشاف 3/94، اللسان (حجر، عوذ) البحر المحيط 6/492، شرح شواهد الكشاف (53) حيدة: المرة من حاد عن الشيء يحيد حيدا وحيدانا ومحيدا وحيدودة: مال عنه وعدل. الذعر: الخوف والفزع. عوذ: مصدر، أي: أعوذ بالله منك، وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره: أمري. الحجر: بالضم المنع، وهو موطن الشاهد حيث جاء مصدرا مضموم الفاء.
[35818]:في ب: وهو.
[35819]:في ب: فيقتضي.
[35820]:التبيان 2/984.
[35821]:في ب: أذائل. وهو تحريف.
[35822]:في ب: والذائل. وهو تحريف. والذيل: الهوان من ذال الشيء يذيل: هان. اللسان (ذيل).
[35823]:في ب:لا.
[35824]:اللسان (حجر).
[35825]:قوله: سقط من الأصل.
[35826]:يوم: سقط من ب.
[35827]:انظر الفخر الرازي 24/70.
[35828]:في ب: القضية أن قوله.
[35829]:بل: تكملة من الفخر الرازي.
[35830]:انظر الفخر الرازي 24/70 – 71.
[35831]:انظر البغوي 6/168.
[35832]:المرجع السابق.
[35833]:المرجع السابق.
[35834]:فعلى قول ابن جريج ومجاهد الضمير في "يقولون" على الكفار، وعلى قول ابن عباس ومقاتل يعود على الملائكة.
[35835]:في ب: يكونوا.
[35836]:انظر البغوي 6/168.